سلفيّون وإخوان و…أشياء أخرى
معمر عطوي
لم يكن الظهور الكبير للإخوان المسلمين بعد ثورة 25 يناير، في مصر وبعد ثورة تونس في شمال أفريقيا، بالأمر المفاجئ، فالتنظيم العالمي الذي نشأ في مصر على يد الداعية حسن البنا في بداية العشرينيات من القرن الماضي، كان له وزنه الشعبي في العديد من البلدان العربية، لا سيما بلد المنشأ، فيما كانت حركة النهضة الاسلامية في تونس، بقيادة الدكتور راشد الغنوشي، حركة “إخوانية” مع بعض التعديلات في الأفكار والاجتهادات الفقهية التي جعلت هذا التنظيم على غرار حركة حسن الترابي في السودان، يتفرّد بمساحة واسعة من الاستقلالية عن التنظيم العالمي للإخوان.
وإذ استطاع “الإخوانيون” قطف ثمار ثورة لم يكن لهم فيها لا ناقة ولا جمل، بفعل الآليات الديموقراطية التي دخلت حيز التطبيق، بعد التخلص من المستبدين، كان لا بد للناشطين الذين سعّروا نيران الثورة في تونس ومصر(وهم من خارج الحقل الايديولوجي والحزبي التقليدي المعروف)، من احترام نتيجة ممارسة الديموقراطية حتى لو أتى من يحكم البلاد وفق شريعة تصادر حريات الأفراد وتحد من رحابة الحياة الاجتماعية، بإسم الدين والمقدس.
طبعاً المفاجئة لم تكن بظهور كثيف للإسلاميين في لوائح الانتخابات وحصولهم على الغالبية في كلا البلدين، بل كانت المفاجئة في ظهور السلفيين، الذين ظهروا فجأة في مصر وتونس، حيث كان تاريخياً طابع التدين الوسطي والتصوف هما الغالبان، في حين يعتبر السلفيون المتصوفة من أصحاب البدع والهرطقات.
المفارقة كانت في أن هذه السلفية التي كانت دائماً تدعو الى مقاطعة “المؤسسات الكافرة” مثل البرلمانات والجيش، وكل امتدادات المؤسسات المدنية، وكانت تكفّر كل من يؤمن بالديموقراطية ، بينما يلتزم أفرادها بلباس فضفاض الى ما فوق الكاحل، بذريعة ان هذا لباس النبي محمد، ولا يرتدون اي مظهر من مظاهر الغرب “الكافر” من ربطة العنق والبذلة، فيما يطلقون لحاهم على غاربها من دون حلق ومنهم من يقول بجواز حلق اللحية بعد وصولها الى مقدار قبضة يد. واذا تحدثوا نطقوا بلسان أفخاذ قريش.
فجأة اقتحمت السلفية الشارع والبرلمان، وخرج السلفيون بربطات عنق ومنهم بأنف خاضع لعملية تجميل، في تطور لافت غير مسبوق، ليتبين فيما بعد أن هذه المُحرمات سرعان ما سقطت وان باب الاجتهاد يمكن فتحه حين يأمر صاحب السمو الملكي او سمو الأمير بذلك “لمصلحة الأمة”.
هذه هي الصورة الواضحة اليوم، مجموعة من تنظيم عالمي عريق عانى أبناؤه على مدى أجيال من الإعتقالات والملاحقات والحظر السياسي والإعلامي، في منافسة شرسة على دخول مؤسسات الكفر (سابقاً)، مع تيار عريض لم يكن في الحسبان، خرج بأمر “ولاة الأمر” (طاعة ولي الأمر واجب ديني، حتى لو كان لولاة الأمر من هم أولى منهم وأكثر نفوذاً مثل أولاد العم سام).
“الإخوان المسلمون” والسلفيون هم اليوم أسياد ديموقراطية ثورات الربيع العربي، الفئة الأولى التي تتبنى شعار الإسلام هو الحل، أصبحت مغالية في اعتماد التقية، التي طالما عمل أعضاؤها وفق هذه الوسيلة، لحماية أنفسهم من بطش الأنظمة. وهكذا اصبح الاخوان يتحدثون بلغة الواقع ويحاولون اقناع الجماهير بأنهم سسيحترمون الديموقراطية وحقوق الأقليات، مع استمرار المراوغة بمقولة “الاسلام هو مصدر التشريع”. وآخر بدع هؤلاء التجربة التركية التي حافظت على صورة العلمانية في بلادها ظاهرياً مع استمرارها في تفكيك نظام العلمنة من داخل الدولة العميقة وبمباركة أميركية.
لعل آخر تجليات هذه “الواقعية” قبول الإخوان بعدم المساس باتفاقية كامب ديفد في مصر، والانفتاح على الولايات المتحدة، وعلى وسائل إعلام إسرائيلية في أكثر من بلد عربي، وصولاً الى تنظيم لقاءات سرية مع إسرائيلييين. ولا يخفى على مراقب الألاعيب التي قام بها الاخوان منذ نجاح الثورة في مغازلتهم المجلس العسكري على حساب من كانوا في ميدان التحرير من أبناء الثورة، قبل ان ينقلب السحرعلى الساحر ويقع الاخوان في حفرة حفروها بانفسهم عن غباء.
أما الفئة الثانية فهي الأكثر تشدداً حتى لو تغنى بعضها بحديثه الى وسائل إعلام اسرائيلية أو دافع عن “كامب دايفد”، فمثلما وقف الاخوان ضد اقتحام سفارة العدو الصهيوني في القاهرة وقف السلفيون ايضاً، كيف لا يقفون وولي أمرهم في الحجاز هو من أرسى مبادرة للتسوية مع العدو على حساب أرض فلسطين التاريخية، وهو من افتتح لقاء حوار الاديان الذي استقبل اكبر مجرمي الحرب لدى الكيان العبري.
بوضوح أكثر الشعب العربي اليوم أمام ظاهرتين تختلفان في الدرجة وتتفقان في النوع، عنيت بالدرجة وجهة الدعم الخارجي، حيث تدعم السعودية والكويت السفليين في مصر وسوريا ولبنان وليبيا وتونس (في هذا البلد يحاول السلفيون إجهاض كل ما يسعى لإنجازه حزب النهضة من قضايا اقتصادية وأمنية). أما الاخوان فقد تبنتهم قطر منذ ثورة ليبيا وها هي تساعدهم بالمال والدعم السياسي، وتفتح أمامهم طرق واشنطن ليحكموا باسم سمو الأمير، في مصر وسوريا وتونس والأردن الخ.
إذن نحن امام تنافس حاد بين السعودية وقطر (البلدان اللذان لا يرتبطان بعلاقة مودة منذ نشوئهما حتى لو وحدتهما ارادة اسقاط نظام بشار الاسد في سوريا)، وأدوات هذه المنافسة هما طرفان إسلاميان لم يكن لهما اي علاقة مباشرة بتفريخ الثورات لكنهما قطفا ثمارها، وحظيا بالدعم الأكبر من دول الخليج وتركيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، من أجل تطويق نفوذ ايران الشيعية. وهكذا بتنا نشهد فصولاً سوداء من بداية فتنة مذهبية لن تكون عواقبها حميدة في اي حال على الجميع.
وكمن المفيد الشارة الى انه بوقوفه الى جانب النظام السوري المًستبد ونظرته المزدوجة بين ثورتي سوريا والبحرين، ساهم الطرف الشيعي في تقديم ذريعة على طبق من فضة للجماهير السنية التي تمت تعبئتها بكميات كبيرة من الحقد المذهبي، لدرجة أن بعض عقلاء الإخوان لن يستطيعوا ايقاف حرب مذهبية خطيرة هي أحد أهم أهداف السلفية التي ترى في الشيعة عدواً اخطر من الكيان الصهيوني. كان من الأفضل لحزب الله الصمت وعدم تأييد نظام مستبد ظالم يشكل امتداداً للدولة الأموية التي يكرهها الشيعة، فيما هم يباركون قتل الحسين اليوم بسكوتهم عن مجازر جماعية بحق الشعب السوري.
في الحصيلة، يبدو المواطن العربي أسير هويات قاتلة (على حد تعبير الكاتب أمين معلوف)، هويات هي عبارة عن مزيج من أصوليات سلفية واخوانية وشيعية وقاعدة ويمين مسيحي ناشئ ودولة يهودية متطرفة. أما من يريد الدولة المدنية العصرية الخالية من الخرافات والأساطير فليهاجر. ألم يقل الله أن ارضه واسعة؟!