الطريق الى حلب (1)
فداء عيتاني
انفتحت بوابة الحدود السورية لنطل على مشهد حرب بامتياز، حاجز على مبعدة مئات الامتار، ارض مليئة بقطع من الاسمنت والاحجار المتناثرة، غبار في كل مكان، وجنود يبدو انهم من الجيش النظامي او من المخابرات السورية او المتطوعين ولكن لا شيء يشي بنظاميتهم، وطريق وضعت حواجز ارضية لتحويلها الى ممر ملتوى يلزم السيارة بتخفيف سرعتها حين الاقتراب، ودبابة محترقة في منتصف الشارع، لم تلق من يزيلها.
قبل الدخول الاول وبشكل شرعي الى سوريا، كان القلق يسيطر على الليل والنهار، صعوبة توفير مصور محترف مرافق، مطالب المصورين المتعددة، امكانية ادخال اجهزة التصوير شبه معدومة، الطرق الخطرة، الوصول الى محافظة حلب، الاتصال بمن يستقبلك هناك، وفوق كل ذلك اخبار الاعتقالات والتعذيب التي يمارسها طرفي المعارضة والنظام في سوريا، وعدد الصحافيين القتلى، واعتبار سوريا اخطر النقاط على الارض للصحافيين العاملين على تغطية الاحداث.
الا ان اقسى ما يرافق ليالي الصحافي العازم على الذهاب الى سوريا هو ذكرى كتابات اناس مثل فرج بيرقدار ومصطفى خليفة، الذين سجلا تجربتهما في السجون السورية، وايام التعذيب الوحشي التي تعرضا لها، وتعرض لها مئات الاف من السوريين، وكل الذكريات التي تجمعت في البال منذ ايام وجود الجيش السوري في لبنان، وعدد اللبنانيين الذين حاولوا العبور الى سوريا سرا وعلانية وفشلوا في اول الطريق، او اعتقلوا في منتصفها واختفت اثارهم.
صباحا يضج معبر جوسة بمئات من السوريين الهاربين بالاتجاهين، هناك من هو هارب من سوريا، من المعارك اليومية، ومن هو هارب من لبنان وعائد الى بلاده بعد ان تمادت موجة العنصرية اللبنانية المغطاة بستار ردة الفعل على اختطاف 11 من الحجاج اللبنانيين قبل عشرة ايام، ولكن على كل القوافل التوقف والانتظار، وترك الاثاث المنزلي البسيط الذي حملوه على اسطح الشاحنات والباصات مكانه بانتظار ان يجد موظفو الامن العام السوري (دائرة الجوازات) حلا لمشكلة انقطاع التيار الكهربائي وتوقف اجهزة الكومبيوتر عن العمل.
ساعة انتظار ومحاولات دائمة من الموظفين لتشغيل اجهزتهم على بطاريات الشاحنات، والازدحام يزداد مع مجيء اعداد اضافية من اللاجئين. سبق ان تعطل مولد كما يروي لنا احد المبكرين في الانتظار، وتعطلت ايضا بطاريات، ولكن بعد ساعة وبضع الساعة يتمكن العاملون في دائرة الجوازات من تشغيل الاجهزة على بطاريات الشاحنات، ويستدعيني ضابط الجوازات للتدقيق في اسباب الزيارة ومكان الاقامة في حلب، ثم يبرم شفتيه غير راض ويضرب الورقة البيضاء بختم العبور الى سوريا.
حين يفتح الحاجز الحديدي الاسود تعبر الى سوريا، حيث الطريق توحي بان الحرب قد توقفت منذ لحظات، والجنود المنتشرون هنا وهناك على كل حاجز قد توقفوا عن اطلاق النار فقط لتعبر سيارة الاجرة، وعلى اول حاجز يتم توقيف سيارة الاجرة، ويبدأ البحث في الحقائب، هنا على عكس الامن العام، لم يدفع السائق اية رشى، في الامن العام دفع الرشوة المعتادة وتم تفتيش الحقائب والسيارة بدقة، وعند العثور على الكمبيوتر المحمول في حقيبتي انفتحت ابواب جهنم، كلام كثير، ومحاولات لتفتيش الجهاز وادارته، وتقليبه، واسئلة لا تنتهي عن سبب وجود الجهاز في الحقيبة، والاتيان به الى سوريا، وهو المشهد الذي سيتكرر بعنف اكثر مع كل حاجز نمر به.
السائق يتطوع بعد عبور الحاجز الاول للحديث ولعب دور الدليل، لا تخف ولا تهتم فقط اجبهم على اسئلتهم، ثم يتابع الكلام: منذ ايام كانت الطريق تحت سيطرة المعارضة، ويشير بيده الى دبابة اخرى محترقة تكاد تقطع الطريق، قبل ان يتوقف على حاجز اخر، هذه المرة عناصره اشد اهمالا لمظهرهم، من الذقون غير الحليقة الى اللباس شبه المدني المتسخ، ومرة اخرى يجري التدقيق في جهاز الكومبيوتر، “اكسره على رأسه ودعهم يتابعون” يقول اكبرهم سنا وهو جالس على مقعد خشبي، ثم يقترح “اترك جهازك هنا وحين تعود تأخذه” ولحسن الحظ فان الاقتراحين لم يتحققا.
يتوقف السائق عند محطة الوقود الاولى بعد الحدود، يخرج صوت مدفعية ميدان وهي تطلق قذائفها: قذيفة يليها اخرى، ثم اخرى، على الاقل ثلاثة مدافع تعمل بشكل متصل، “لا تخافوا انها تضرب باب عمر” يقول السائق الذي يدفع لعامل المحطة نقوده.
يرافقنا صوت انطلاق القذائف طوال الطريق الى حمص، يمزح السائق بانها مدفعية ترحيب، الركاب اكثر توترا من ان يجيبوا، وعند مستديرة حمص نشاهد للمرة الاولى جنودا اقرب الى الجيش النظامي، ضابطهم يرتدي سترة واقية من الرصاص، ويتحدث مع السائق الذي لا يلبث ان يطلب من الركاب بضع علب دخان، وحين يجلس خلف مقوده يقول “مساكين، لا يعطونهم ما يأكلونه او يدخنونه، قال الضابط انه ومنذ ايام لا يحصل على دخان، وهو يخجل من طلب الدخان من الركاب مباشرة”.
بعدها بامتار قليلة يشير السائق الى منطقة ترتفع منها كل حين اعمدة دخان انفجارات قذائف الميدان “باب عمر” يقول السائق بحيادية. كانت الاحياء التابعة لمدينة حمص تدك بالمدفعية الثقيلة، مدفعية الميدان من عياري 122 و130 ملم. ويرتفع منها دخان القذائف المنفجرة في كل حين.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة