سوريا وفلسطين (2)
فداء عيتاني
الطريق الطويل الباقي الى مدينة حلب يدعوك للتفكير في كل العنف الذي يمكن مشاهدته امام ناظريك، لا شك بان العنف متبادل، ولكن هذه البلاد التي طالما شهدت اعمال عنف وحروباً منذ فجر التاريخ كانت لاربعين سنة خلت تعيش في اطار عنف وحيد الاتجاه، السلطة تمارس عنفها على المواطنين، والمواطنون يخضعون.
ما الذي يدعونا الى صم الاذان عما يجري في سوريا، وكيف ادت الدعاية المفرطة من الجانبين، والمبالغات الشديدة، والكذب الاعلامي الى تخلينا عن البحث عن واقع الامور الفعلي، والذهاب الى احتساب مواقفنا بناء على شعارات لبنانية جاهزة، او طوائفية محلية، كيف يمكن ان يعتبر تيار المستقبل والسنة ان ما يجري في سوريا من ثورة سيصب حتما في مصلحتهم، وان الثوار هناك سيلثمون الايدي الاميركية شكرا، لان احدا لن يمد لهم يد العون غير الولايات المتحدة وحلفائها من العرب والاتراك؟
الا ان السؤال الاشد ايلاما هو كيف يمكن لمؤيدي المقاومة التحول الى شتم شعب كامل اراد حريته، واتجه في شتى الاتجاهات بحثا عنها، ولو كانت الدول الكبرى تحاول امتطاء ثورته وانتفاضاته، كيف يمكن لمن يتحدث عن ثورة اسلامية ان يقف ضد ثورة اخرى تطالب بما سبق ان طالب به هو نفسه.
وكيف يمكن لاي مطالب بثورة وتغيير وعدالة على هذه الارض ان يحاول في منطقة واحدة، في بلد محدد، منع الزمن من السير الى الامام، ووقف التاريخ عند نقطة ماضية باتت اشد هرما من ان تعيش الى الغد، لولا المورفين الدولي والدم المحلي الطازج؟
ان كانت فلسطين غاية الغايات، ونضالاً اسطورياً من اجل النضال فالامر مفهوم، اما ان كانت فلسطين هي قضية ظالم ومظلوم، فماذا يمكن القول عن سوريا وشعبها ونظامها؟ وهل يجهل اي عاقل، اي انسان في المنطقة العربية، ان مواطن لبناني، كيف يدار الحكم في سوريا وباي عنف يقابل المعارضون، وكيف يعيش السوري في بلده مهانا، وتحكمه شعارات لا يرى من تطبيقها اي شيء، وان جرى تطبيق اي منها فعلى ايدي الاخرين وليس على ايدي نظامه او جيشه.
وان كانت فلسطين هي قضية شعب مؤلف من ستة ملايين انسان اضطهدوا، فما هي القضية السورية اليوم التي تمس حياة 22 مليونا، غير انها قضية اضطهاد وذل وبؤس مادي وقلة سياسية ومالية تتحكم بكثرة؟
والامر نفسه ينطبق بحال كانت فلسطين للبعض مجرد قضية دينية، وعدالة الهية، فاين العدالة الالهية في ظلم شعب كامل واذلاله ليل نهار تحت شعارات علمانية، وبغايات عملية تثري فئات حاكمة اقلوية؟
وان كانت القضية الفلسطينية هي في العمق قضية مقاومة مصالح غربية تقوم بعكس مصالحنا المحلية فان الثورة السورية يمكنها ان تمثل المصالح المحلية اكثر من نظام باع ما باع لكل الجهات غربا وشرقا وساوم وحارب المقاومة في لبنان وساندها وشق صفوف المقاومة الفلسطينية حينا ورعى اطرافا فيها، ودعم القاعدة وسهل عملها في العراق، وضربها في ارضه، وعاش خاطبا ود واشنطن والعواصم الاوروبية، ولم يتفرعن الا على شعبه، بينما تنازل عن ارضه لتركيا في الاسكندرون وسكانها لا يزالون يتحدثون العربية بلكنة سورية الى اليوم.
كيف يمكن لمواطن يعيش في بيروت، او الضاحية الجنوبية، او جبل لبنان، او طرابلس، او صيدا او اقليم الخروب، او البقاع او جنوب لبنان، ان يعلم ان مئات المقاتلين الليبيين الذين قتلوا وهم يصارعون نظام القذافي لم يكونوا مجرد جهلة، او مجرد ابناء قبائل متواطئين في مؤامرة دولية، وانهم لم يكرهوا المقاومة في لبنان الا مؤخرا، وانهم يبغضون اسرائيل ويعتبرون نظام معمر القذافي مجرد مفسد للمقاومات في المنطقة العربية، وهم لم يقبضوا ثمن موتهم مسبقا من برنارد ليفي، ولا من هيلاري كلينتون، بل ان المئات الاولى التي شيعت منهم من امام مقر محكمة شمال بنغازي كانت تمر جثامينهم من تحت لوحة عملاقة كتب عليها “لا للتدخل الاجنبي”، ثم تركوا من كل العالم ليذبحوا في هجوم معاكس اوصل معمر القذافي الى اطراف مدينة بنغازي، قبل ان يقتنع الليبيون الثائرون ان طريقهم الوحيد للحياة والحرية اصبح بيد التدخل الغربي.
كيف يمكن اقناع مواطن لبناني يرى في كل انسان اخر خصماً محتملاً بناء على انتمائه المذهبي، ان المواطن السوري المتدين ليس عميلا لال سعود، وانه يبحث عن قليل من اسباب الحياة، عن مساحيق غسيل برائحة ذكية بدل المواد الكيميائية الرخيصة القاتلة التي يستخدمها لغسل ملابس اطفاله، عن طعام متوازن وصحي، بدل الطعام الفاسد والقليل الذي يمكنه الحصول عليه بمداخيله المتواضعة، عن اصلاحات وفك حالة الطوارئ دون ان ترفق بقانون “مخالفات بناء” يهدد اكثر من نصف منازل قريته بالهدم، في حين يهلل اللبنانييون والمؤيدون للنظام السوري بالاصلاحات، وينتظر هو سيف هدم المنازل وتشريده.
كيف يمكن اقناع اي شخص لا يرى في النظام السوري سوى عزة لطائفته، ان المواطن السوري الثائر لا يريد اكثر من حريته، وان موقفه الحاد من الطوائف الاخرى في ايران ولبنان وسوريا ليس اكثر من رد فعل، وان ما يفعله اللبنانيون وغيرهم من انغلاق يشبه تماما ما يفعله تنظيم القاعدة من انهاء للنقاش بحد السيف وبانفجار العبوات. وان اسلامية الثوار في سوريا لا تعني اسلامية الثورة، سيما ان الثوار انفسهم، الذين يكادون لا يرون في المجلس الوطني اكثر من صندوق مالي منهوب سلفا، يرفعون العلم الاخضر، بينما يعيب عليهم الاسلاميون المتشددون هذا العلم بكونه ليس راية محمد ولا يبشر باكثر من حكم علماني كافر مقابل حكم علماني كافر اخر.
وكيف يمكن ان يتحول ابناء المقاومة وجمهورها، الذي يفترض انه يطالب بالثورة على الظلم والتغيير من موقف “تقدمي” يسعى الى دفع الامور الى الامام الى موقف “رجعي” يحاول تأبيد الواقع ومنع تطوره.
لم يبق في الاحتمالات الا احتمال الانغلاق المذهبي، الذي يكرس انغلاقا فكريا، ويتحول كل فرد الى مجرد مردد للدعاية التي يريدها، وليس للمعطيات الاصدق او الميدانية، فالسنة في بلادي سيصدقون وسائل اعلام تبالغ في مصلحة الثورة، وهي تضرها اكثر مما تفيدها، وشيعة البلاد سيصدقون ما ينطق به اعلام النظام واعلامهم الخاص بغض النظر عن معاناة ملايين السوريين على مبعدة بضعة كليومترات عن قرانا ومدننا.
هذا الانغلاق سيؤسس لاحقا لصراعات مذهبية تناحرية، ستكون الى العبث اقرب طالما ان احدا لا يمكنه محو ذرية الاخر، وستكون امواج متتالية ومتواصلة من الكراهية الدائمة، والرفض المطلق للاخر، كل على قاعدة ان الاخر يريد سحقه، دون بذل اية محاولة جدية لفهم الدوافع الكامنة والاسباب العميقة، والاستدلالات ونقاط التقاطع الموضوعية العميقة.
عمليا ينتهي منطق السياسة، ومنطق المصالح المشتركة، ويبدأ منطق اخر جامد عصي على الحوار، منطق الدم والتشدد المتبادل، فكل يعيب على الاخر اسلاميته، ففي حين ان جمهور المقاومة في لبنان اغلبيته المطلقة مؤيدة للثورة الاسلامية في ايران، فانها ترى في اي حراك اسلامي اخر حراكا تكفيريا والغائيا لها، سواء اكان حراكا اخوانيا او حتى صوفيا، وانصار الثورة السورية في سوريا يرون في الشيعة وايران اعداءا وقفوا مع الكافر ومع الظالم ومع القاتل ضد الضحية وضد المظلوم لا وبل ساهموا ما استطاعوا في نحر القتيل.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة