مع “العصابات الارهابية” (4)
فداء عيتاني
انها ثورة ابناء الريف، حسابات ابناء المدن اكثر تعقيدا كما يبدو، الحياة الهادئة، التي بدأت تنغصها اصوات مدفعية الميدان، والحواجز والاجراءات الامنية الكثيرة ولكن غير الفاعلة، هذه الحياة المدينية لا تزال تحافظ على سحرها لكل من امتلك اسباب العيش، ولكن ابناء الريف، في المدينة وخارجها، ثائرون.
كتب الكثير حول اسباب الثورة السورية، التدخلات الخارجية والعوامل الداخلية، انحصارها في الارياف، الصدمة الحضارية التي تسبب بها النظام مع سياسة التغريب والانفتاح، فشل سياسة الانفتاح في الارياف ونجاح كبير لها في المدن، صراع صامت بين التقاليد الاسلامية التي يدين بها اغلب المجتمع السوري، وبين تقاليد السياحة الجديدة التي لم تعد تجارة الجنس الا احد اسبابها الرئيسية، بين فقر لا يقاوم، واستهلاك لا يتوقف. بين موجتين من لجوء عراقية ولبنانية في ارض الشام وبين مواسم زراعية رديئة وسياسة حكومية تنكر اعتماد شرائح واسعة من الشعب السوري على القطاع الزراعي.
في مدينة حلب يخبرك الثوار السريون عن تحركات جامعة حلب، رمي الطلاب من الطوابق العليا مع اولى التظاهرات الطلابية، طردهم من السكن الطلابي، اعتصام الطلاب في الشوارع مع استحالة عودتهم الى منازلهم البعيدة، حالة التضامن مع هؤلاء الطلاب، الاتين من الارياف ومن المدن الاخرى. يخبرونك عن تجمعات السكن الريفية المركزة في بعض الاحياء، وتظاهراتها الليلية، وعن عمليات يقوم بها “الجيش السوري الحر” في داخل مدينة حلب.
تشددت الاجراءات الامنية على قصر الرئيس في حلب، بات بامكان المارة مشاهدة العناصر المدنية وهي تحمل الاسلحة الحربية تقف على اعمدة المدخل الرئيسي للقصر، اخبار كثيرة تتردد عن قيام مجموعات مسلحة بتنفيذ اطلاق نار واغارات نارية على عدد من المرافق الرئيسية والرمزية للسلطة السورية الرسمية.
يأخذك مضيفوك الى من يمكنه ان يقدم لك المشورة في كيفية الانتقال الى ارض “المجموعات المسلحة”، فسوريا هي اخطر المناطق في العالم على الصحافيين، هكذا تصنفها كل المؤسسات المختصة بالعمل الاعلامي والجمعيات الدولية المعنية، ليس من مصلحة النظام في سوريا وجود صحافيين يتحركون كما يرغبون في البلاد، وهو امر لم يحصل في تاريخ البلاد اساسا، ودائما، واليوم اكثر من اي وقت مضى، توضع الشروط على اي صحافي يرغب في زيارة البلاد، ويفرز له مرافقون ومراقبون ويؤخذ الى حيث يرغب النظام الحاكم، وليس الى حيث يرغب الصحافي في الذهاب.
اما من ناحية المجموعات المسلحة والثوار، فان الامر اكثر خطورة، فالكثير يحذرون من ان المجموعات والجيش الحر ليس كتلة واحدة، ولا الكل ينضبطون في اطار عمل محدد وبشروط موحدة، وبعض المجموعات ليست اكثر من مجرمي حرب او لصوص، بينما اغلب المجموعات في الجيش الحر تحاول التدقيق بهوية الزائر، اضف الى كل ذلك ان السير الى جانب المقاتلين سيعرض الصحافي الى نيران عشوائية من الطرف الاخر.
في احدى المؤسسات التجارية يجلس ضابط كبير متقاعد، سبق ان تعرض للاعتقال عدة مرات شأنه شأن المئات من الضباط المتقاعدين خلال مراحل الثورة، ولا يزال الرجل يعمل الى جانب الثوار داخل مدينة حلب، يتحدث ببطء وبكثير من الحذر بداية حول الوضع في المدينة، يسأل كثيرا عن الدافع من خلف التوجه نحو اعزاز.
قد تغير اسلوب العمل العسكري لقوات النظام، يقول، ويضيف ان ضابطا جديدا استلم ادارة المدينة والمنطقة، وهو سيعتمد القصف اكثر من المطاردة المباشرة، وخلال اليومين الماضيين نفذ اختباراته الميدانية في قصف مناطق الثوار، ونهارا سيسيطر على الطرقات والمسالك وليلا سيقصف لشل حركة الثوار.
يتحدث الرجل عن تجربته في السجن، وعن اسباب اعتقاله وعن الثوار في المناطق المحيطة بحلب، وككل المجموعات يتضح ان الصلة القائمة في التنسيق على متانتها الا انها تحتفظ بمسافات فاصلة، يمكن استخدامها لمنع تسلل الفضوليين (من امثالي هنا) بين المجموعات بسهولة ويسر.
الطريق الى اعزاز شمالا خطرة جدا، يقول الضابط المتقاعد، لا تحاول، وان نجحت فقد تقع في يد مجموعات غير متعاونة او خطرة.
يتطوع مضيفي المدني للذهاب واقامة صلة مع المجموعات قبل نقلي اليها، فأرفض، فالمضيف مدني، وتدخل المدنيين في مناطق القتال لا ينتج الا الكوارث والموت، اسأل الضابط المتقاعد عن افضل نصائحه.
اذهب في سيارة اجرة نحو الحدود التركية في باب الهوى غربا، وستدخل حتما في مناطق الثوار، فكل الطرق المؤدية الى الحدود ستدخلك الى مناطقهم، ومن ناحية الغرب لن تمر السيارة في اتارب، فهي محاصرة، بل سيسلك السائق طريقا امنة، وحين تصل الى عمق مناطق الثوار تتصل بهم. ولكن احذر من الحواجز، فهي تشبه بعضها وقد لا تميز بين حواجز الثوار وحواجز الامن والمخابرات خاصة.
اقترح في طريق العودة على مضيفي الذي ينشغل في مراقبة التحولات في مدينته طريقة حتى لا يبلغ سائق التاكسي الامن عن التحاقي بالثوار، طريقة تضمن امن مضيفي وعائلته، حينها فقط يسر لي المضيف المغامر بانه كان يفكر في هذه الثغرة.
الصباح الباكر يحمل الكثير من الهواء المنعش في حلب، تصل سيارة الاجرة، وتحمل حقيبتي في صندوقها، ونوجه على الطريق العام باتجاه اتارب، ثم ينعطف السائق فاسأله الى اين من هنا، “الطريق الاساسية مغلقة، علينا سلوك طرق اخرى”، ما ان ندخل الى اول قرية حتى تبدأ الشعارات المناهضة للنظام بالظهور على الجدران، كل الشعارات التي كنا نراها عبر شاشات التلفزة، انه الريف فاذا الذي ينادي الله ولا يجد ملاذا غيره.
مئات قليلة من الامتار ونصل الى حاجز يرفع العلم السوري باللون الاخضر والاسود، تتوقف السيارة ويترجل السائق، شبان ملتحون، هادئون، احدهم يحمل بندقية فال سوداء سبق ان شاهدت مثيلاتها في ليبيا ابان الثورة هناك، واخر يحمل بندقية بومب اكشن (او اوتوماتيك) اخرون يحملون بنادق كلاشينكوف صينية الصنع، او “روسية” كما يدعونها هنا.
اترجل من السيارة وافتح حقيبتي للشاب المسلح، اقترب منه واقول له “اعتقلني”
ينظر الشاب بعيون مندهشة، واضح انه لم ينم جيدا وان الصباح لم يتسلل الى عقله بعد، “اعتقلني” اكرر، فينظر الي بعيون فارغة ويسأل “لماذا؟”.
“يا اخي اعتقلني وادخلني الى موقعكم لاخبرك”
“نعم ولكن لماذا؟” يكرر الشاب بدهشة كلية.
“يا اخي انت اعتقلني وانا اخبرك، تصرف” اقول له زاجرا وانا اقدم له بطاقتي حتى يشعر السائق بان ما يجري عملية تدقيق بالاوراق واعتقال.
يمسكني الشاب المسلح من زندي ويجرني الى داخل منزل قيد الانشاء تحول الى منامة لعناصر الحاجز، فاخبره انني صحافي وانني جئت للعمل انطلاقا من المناطق المسلحة، وانني بحاجة للتحدث الى مسؤوله، واطلب منه دفع بدل اجرة السائق وصرفه واعتقالي امامه حماية لمن استضافني في مدينة حلب ومن التقيت بهم هناك. وهكذا كان.
ننتقل الى قرية اخرى، هؤلاء هم اذا العصابات المسلحة والمندسون، وهؤلاء اذا من ثار على النظام، الاغلبية لا تعرف عني الا انني معتقل، واثنان فقط يعلمان انني صحافي، يدخل من يدخل ويخرج اخرون، يحرصون على عدم ظهوري امام الناس، يجلسني بعضهم في مخفر للشرطة تحول الى مركز للثوار، الكثير من الشاي، والقهوة، يوزعون الدخان، تلك العادة السورية المحببة: يفتح علبة دخان ويخرج منها السيكارة ويقدمها مباشرة للاخر، قاطعا اي مجال للرفض، يجلسون على الارض، بعضهم يحاول النوم، طبعا يفشلون، يأتي زوار الى المخفر، رجل عجوز يسأل “من هو الاخ؟”، “مشتبه بتعامله مع الامن ولكنه من لبنان” يجيبه شاب وهو نصف مبتسم، يبدأ العجوز بسرد قصة حياته البائسة في ظل انظمة الحكم المتواترة في سوريا، التعب والهوان، الفقر والجهل، واسأل الموجودين عن مستوياتهم التعليمية، لم يتجاوز اي منهم المرحلة الابتدائية، شبان في بداية العشرينيات يحملون السلاح ويرتدون الجعب، مخازن قليلة في كل جعبة، ملتحون، مبتسمون، يسمعون للعجوز ويزيدون عليه.
“لن تقع فرية يا ولدي” يقول العجوز “ستحاسب على اعمالك فقط” يضيف، “المنطقة هنا من افضل مناطق الثورة، لا اعمال خطف ولا فدية، لا سرقات ولا تعديات، ولكن ستحاسب على اعمالك، ولا تخف، فلكم في القصاص حياة يا اولي الالباب”. سألته ان كان يعني انني سأقتل، فاجاب لا تخف الله غفور رحيم، عسى الا تكون متورطا بدم الشعب السوري.
يبتسم شاب اشقر مسلح من المكلفين بمرافقتي وفي يده بطاقتي الصحافية، “انت بامان في ايدي العصابات المسلحة والارهابيين” يقول، ومن الخارج يصدر صوت صراخ “طيران طيران” ثم صوت هدير مروحية تحلق في مكان قريب.