اليدُ القويّة (قصة 5)
بقلم عصام حمد
انتبهتُ من نومي القلِقِ على تساؤلٍ مُباغتٍ: “هل تأكَّدتُ من إقفالِ بابِ المدخل؟”. وللحال أزحتُ الغطاءَ عنِّي وأنا أُلقي في شِبهِ الظلامِ بنظرةٍ سريعةٍ إلى زوجتي النائمة بجانبي على السرير. وقمتُ مُدرِكاً تمامَ الإدراكِ أنَّها ليست المرةَ الأولى التي أتفقَّد فيها قُفلَ البابِ في تلك الليلة.
تنوَّرَ بابُ المدخل على ضوء بطاريةٍ حملتُها في يدي. فبدا لي قفلُه الضخمُ مُحكَمَ الإقفالِ. بيد أنِّي مَدَدْتُ يدي أتلمَّسُ لسانَه الفولاذيَّ ناشِباً في مَسقطهِ بالجدار. ثم عدتُ إلى فراشي أكثر اطمئناناً.
لم أكُن غافلاً عن مُبالغتي في الحيطة كأنَّ الحربَ الأهليَّة لم تنتهِ، وكأنَّه لم يَنقضِ عهدُ المُسلَّحينَ الذين كانوا يقتحمُون البيوتَ على أصحابها من الطوائف الأخرى، فينتهبُونها أو يحتلُّونها بعد تهجيرهم منها.
ما كان مضَى على زواجي وانتقالي إلى هذه الشقَّة أكثرُ من ثلاثة أشهر. فقد كنتُ آنذاك حديثَ العهد بحمل مسؤولية الدفاع عن بيتٍ وحماية زوجة. هذه المسؤولية التي واجهتُها فجأةً ـ فيما يُشبه الارتطامَ على غفلةٍ- مع أوَّلِ إغلاقٍ لذلك الباب عليَّ وعلى عروسي ليلةَ زَفَّنا الأهلُ إلى البيت الجديد. ثم غادرونا وحدنا. وقد كان لانْصِفاق البابِ في وجهي- وعروسي مُتعلِّقةٌ بذراعي- صوتٌ رهيب.
ففي بيت أبي كان لي- كما كان لإخوتي وأمِّي- خيرُ حامٍ في شخص أبي الذي كنتُ أجدُ في طوله الفارع بُرجاً من الأمان، وفي يده العريضةِ الكفِّ، الغليظةِ المِعصمِ، دِرعاً من الحماية. فلمَّا انصفقَ البابُ أدركتُ فجأةً فيما يُشبه الصدمة أنَّني نزلتُ من ذلك البُرجَ الفارعَ، وخرجتُ من وراء تلك اليد القوية، وأنّه لم يَعُدْ لي من حامٍ سوى قُفْل البابِ أُحكِم إقفالَه كلَّ ليلةٍ قبلَ أن ألحقَ بعروسي إلى الفراش. ثم أعود فأتفقَّدُه مرّاتٍ في الليلةِ الواحدة، خلالَ نومي القلِقِ المتقطِّع.
وكنتُ إذا تساءلتُ عن منشإِ قلقي وبداية التقطُّعِ في نومي، برزتْ لي على الفور في ذاكرتي تلك الحادثة التي وقعتْ لأبي في بيتنا وأنا بعدُ في الثانية عشرة من العمر.
ففي صباح يومٍ من أيام وقف إطلاق النار بعد ليلةٍ هادئةٍ نسبيَّاً لم تقطعْ نومَنا فيها انفجاراتُ القذائف العشوائية، أخبر أبي- وكنتُ جالساً لصقَه- زائراً لنا عمَّا وقع له في فجر ذلك اليوم. إذ قال بصوته الجهوريِّ:
_ دُقَّ البابُ دقَّاتٍ قويةً. قمتُ وفتحتُه فوجدتُ ثلاثة شباب.. عرفتُ واحداً منهم- عرفتُه وراءَ لحيته، كان ابن الكوَّاء الذي في آخر الشارع، وهو عرفَني إذ ارتبك وراح يسأل في حَرَجٍ:
_ نبحث عن شقةٍ للإيجار! فهل تدلُّنا على شقة؟
فسألتُه في قوة:
_ أنت ابن الكوَّاء، إيه؟
ازداد حرجاً وارتباكاً وهو يلتفت إلى صاحبَيه ولم يدرِ كيف يتخلَّص من الموقف.
فقلتُ له في هدوء:
ـ في هذه الساعة تبحثون عن شقةٍ للإيجار! لا يا شباب. لا أعرف مَن يرغب في تأجير شقته لكم.
فقال »شكراً« وحثّ صاحبيه على الذهاب».
فسأل الزائرُ أبي:
ـ وماذا كانوا ينوون؟
فقال أبي في غضب:
ـ نهبَ البيتِ أو احتلالَه كما يحدث في هذه الأيام الملعونة.
ودخلتْ أمي بالقهوة وهي تقول للزائر في لهجةِ التشكّي:
ـ لم يسمعْ لي وأنا أُحذِّره من فتح الباب، أنْ يكونوا مُسلَّحين!
فضحك أبي في استهانةٍ قائلاً:
ـ لم يكونوا ليجرؤوا على شيءٍ ولو كانت معهم أسلحة الدنيا!
فشاركتُ أبي ضحكَه مسروراً، مُؤمناً بكلامه. عند ذاك التفتتْ إليَّ أمي قائلةً في تأنيبٍ باسمٍ:
ـ وأنتَ بقيتَ في فراشك وتركتَ أباك يفتح البابَ وحدَه!
فقلتُ خجِلاً متضايقاً:
ـ كنتُ نائماً!
وربَّتَ أبي على كتفي. فشعرتُ كأنه يعاتبني في صمتٍ.
منذ تلك الحادثة ابتدأتْ عيناي تقلقانِ لأيِّ صوتٍ يأتيني في الليل من ناحية باب بيتنا.
وأمسى نومي قلِقاً متقطِّعاً.
وفي ذاتِ ليلةٍ فتحتُ عينيَّ قبيلَ الفجر على دقّاتٍ قويةٍ على باب بيتنا. تملَّكني الجزعُ ولم أتحرّكْ من فراشي حتى تناهى إليَّ صوتُ أبي عند الباب يتكلّم بقوة. تطاير جزعي وامتلأتُ جُرأةً فاندفعتُ نحو البابِ حتى وقفتُ بجانب أبي واضعاً كفّي الصغيرة بيده القوية، ورحتُ أرمقُ المسلحين الثلاثة بنظراتٍ حادّةٍ عدائية.
وأخيراً ارتدّ الشبابُ عن بيتنا. فأغلق أبي البابَ وهو يُربِّتُ على كتفي في إعجاب. وقامتْ أمي فأعادتْني إلى فراشي وطرحتْ عليّ الغطاءَ وهي تقول مُشجِّعةً:
ـ عافاك يا ماما. صرتَ رجلاً يحمينا!
وأغمضتُ عينيَّ مُغتبطاً راضياً.
ولكنّ الدقات القوية على الباب تواصلتْ بغير انقطاع!
فتحتُ عينيَّ مرة أخرى فوجدتُ بجانبي على السرير امرأتي نائمةً.
تسارعتْ نبضاتُ قلبي. وقَلِقتْ عيناي في الظلام تُساورني الظنون. تتابع الطرق على الباب وأنا قابعٌ تحت الغطاءِ لا أتحرَّكُ حتى حانتْ مني التفاتةٌ إلى زوجتي التي بدأتْ تتململ بجانبي.
خفتُ أن يوقظها الطرقُ فيأخذها الخوف في تلك الساعة المتأخِّرة من الليل. تمالكتُ نفسي وقمتُ لا أدري ماذا أفعل.
ضغطتُ زرَّ الإنارة في المدخل وتقدّمتُ من الباب المُقفَل حتى وقفتُ إزاءَه لحظةً رهيبةً خُيِّلَ إليَّ فيها أنني أسمع صلصلةً مكتومةً للسلاح وراءَ الباب!
مددتُ يدي إلى القُفْل وأنا أُعاني تردُّداً أليماً.
إذّاكَ انتبهْتُ- لأوّل مرةٍ- إلى يدي عريضةَ الكفِّ غليطةَ المعصم. وبدتْ لي قامتي تطاول البابَ ارتفاعاً! عقدتُ حاجبيَّ في حزمٍ. وعالجتُ القفلَ بقوةٍ وسرعة، ثم فتحتُ الباب بشدّة وأنا أرمي مَن وراءَه بنظرةٍ غاضبة.
ارتدَّ عن الباب في شبه فزعٍ الطارقُ الذي بدا من ملابسه والبُقْجَةِ التي في يده أنَّه آتٍ من الريف في سَفر. وبادر يسألني مرتبكاً:
ـ لا مؤاخذة. أليس هنا بيت الحاج مُتوكّل؟!
فأجبته بغضبٍ وعُنفٍ كأنَّني أردُّ على المسلَّحين الثلاثة:
– لا. ليس هنا!
فتراجع الرجلُ عن الباب معتذراً، يكاد يتعثَّر.
وأغلقتُ الباب وأنا ألهثُ في ارتياح. ثم رجعتُ إلى الفراش فوجدتُ امرأتي تتململُ وقد انزلقَ عنها الغطاء. انحنيتُ عليها فسوَّيتُه على جسدها حتَّى عادت إلى النوم في أمانٍ واطمئنان. ثم تمدَّدتُ إلى جانبها راضياً سعيداً. وما هي إلا دقائق حتى رُحتُ في نومٍ هادئٍ عميقٍ لم أنعَمْ به من زمانٍ، ناسياً إقفالَ الباب.
جميلة هذه القصة يا أستاذ عصام بالفعل لديك هواجس تشد القارئ وغسلوب شيق
تاريخ نشر التعليق: 2012/08/10اُكتب تعليقك (Your comment):