مشاهدات الزمن الرديء…سوريون بعين لبنانية
نعيم تلحوق
(1)
اعتاد صديقي المعارض السوري أن يصبح كل يوم على شتم النظام وأعوانه ورموزه، فلا يغمض له جفن حتى تكون شتائمه كلها قد نُقعت في “الخلّ الليلي” حتى بزوغ نهار جديد… وهكذا…
صديقي هذا خطفته رجله الى شمال لبنان، هرباً من جبروت “الطاغية الأسدي” وفلول نظامه، لينعم بدفء المعارضة السورية حيث “السلام الأمني و”الأمان النفسي” و”الحرية القطرية المنشودة”…
خطر لصاحبي ان تقع يده على رقم هاتفي ليسألني فيها المجيء الى بيروت بعيداً عن “حزب الله وأعوان النظام البلطجي الفاسد”، فقلت له: أكثر مكان تحمي نفسك وشعاراتك هو حيث أنت… فصرخ بي: إذن، سأعود الى سوريا؟!
تعجّبت لجوابه ورددت: لماذا تعود وأنت في مدينة تحظى بسمعة تماهي أفكارك وعناوينك وشعائرك الدينية”. قال فوراً: “إن المعاملة التي يعامل بها السوري هنا، مثل أي صورة يأخذها الغرب والأميركان عن السوريين، فلا رأفة ولا رحمة سواء كنت مع أو ضد بشار الأسد.. يبدو أن عزّة أنفسنا نحن السوريين لا تسمح لنا أن نكون لاجئين عند أحد، حى لو سُمّي هذا الأحد شقيقاً، يبدو أن لا شقيق لنا سوى سوريا وأرضها… لا يا صاحبي، مدافع ورشاشات وطائرات بشار الأسد أرحم من الذلّ الذي أعيشه هنا… الآن فهمت ماذا يعني بشار الأسد لسوريا؟!
“لكن”… توت… توت… توت… (أقفلت السماعة).
(2)
قبل أن يقطع “التيار الكهربائي الوطني الحر” محاولات نومي صعوداً ونزولاً، و”نقزات”، حضرتني فكرة أن أبحث على الشاشة الصغيرة المرتجفة عن قناة تهتم بالرياضة الكروية لمتابعة الدوري الألماني، فأنا من محبّذي ألمانيا وهتلرها ورياضتها، سواء كانت “ميركل” مع اسرائيل وأميركا أو ضدّ بترولنا العربي من النيل الى الفرات… وحين لم أجد سوى مباريات وديّة عديمة النفع.. تركت “الريموت كونترول” يجول بعد الأخبار على شاشاتنا الوطنية التي برمجت مسلسلاتها الرمضانية على توقيت “مكّة المكرّمة”.. فوجدت أكثر من خمسة عشر مسلسلاً سورياً أنتجوا حديثاً في ظل أعقاب الحرب المجنونة التي يكثر فيها الذبح العنيد، تطغى على ما عداها من الدراما العربية…
تأملت في فكرة الناقد في عالمنا العربي وتساءلت: هل قام ناقد أو مفكر واحد من العالم العربي بالتلميح الى هذه الظاهرة أو تفنيدها عن شعب تقوم عليه حرب كونية منذ سنة وسبعة شهور، أن ينتج هذا الكم من الدراما التلفزيونية، كما لو أن شيئاً لم يحصل في سوريا، أليس عجيباً وظاهرة تستحق التوقف عندها، أن يكون دواء الشاشات التلفزيونية العربية هو المسلسلات الدرامية السورية بنسبة 80% من الانتاج الدرامي العربي… رغم أن ضراوة الحرب وقساوتها كانت أشد وأقسى مما هي على المصريين مثلاً، الذين اكتفوا بانشغالهم بثورة يناير طوال أكثر من سنتين ولم نجد ما يعرض على شاشاتها سوى أفلام استعادية قديمة من أيام عبد المنعم مدبولي، وفريد شوقي، وأم كلثوم… ومصر تعتبر نفسها زعيمة الفن في العالم العربي على ما يقول عادل إمام….
صديقي اللبناني قال: “نحن نسبق السوريين مائة سنة حضارة، والسوري بيشتغل متل الدب، بس ما بيفكّر…. اللي ما بيفكّر ما بيموت؟!!”
حينها أدركت أن اللبناني كالمصري مشغول بتصفية حسابات قديمة…
(3)
صديقتي السورية “المسيحية” المعارضة للنظام أرادت أن “تسرّ” لي خبراً “مزعجاً”، وهو أن اللبنانيين يعاملون السوريين النازحين الى بيروت معاملة سيئة لناحية ايجارات السكن، فاللبناني يريد تعويض خسارته باعتكاف السعودي والكويتي والقطري والخليجي عن المجيء الى لبنان بسبب “الرُهاب الذهني” الذي يعيشه لناحية الوضع الأمني والسياسي غير المستقرَّين في لبنان، فيريد استعمال “عقله الفينيقي” واستثمار الوضع المتدهور في سوريا… فحضرت الصديقة الى المقهى مغتاظة من الحياة التي أصبح فيها اللبناني يعامل شقيقه السوري بغير معاملة المثل… وبدأت “بالتفريج” عن غضبها وحنقها: “اللبنانيون الذين نزحوا في حرب تموز 2006 الى سوريا، كانوا بمئات الآلاف… وفتحت لهم كل منازل السوريين آنذاك، وكانوا يأتون بلبنانيين ينزلون في الفنادق الى بيوتهم، ويعاملونهم معاملة أفضل من أولادهم… ولم يسمحوا لأحد أن يضع يده في جيبه… لكن ليلة واحدة ليبيت فيها النازح السوري في بيروت تكلّفه 200 دولار أميركي، هذا كفر والله….”
وتابعت تفرّج عن غيظها المكتوم: “والله بعيوننا حطّيناكم، معقول يصير فينا هيك.. أمر الله تركيا تعامل النازحين معاملة سيئة والأردن يضعهم في عراء خيم لم تُصنع للماشية بشهادة الأمم المتحدة… وفلسطين منكوبة المعصمين.. والعراق اعتذر عن استقبال نازحين سوريين الى أراضيه… ولبنان الشقيق السيد الحر الديمقراطي المستقل (والكلام للمعارِضة السورية بالطبع) المحافظ على حقوق الانسان والحيوان يعامل السوري بهذه الطريقة… والعياذ بالله…”
بدي قلّك استاذ: أوعا تكونوا مفكرين إنو السوري بيستسلم بسهولة، لا أبداً، السوري بيحرق أنفاسه وما بيشحد وما بيمدّ إيدو لحدا… بسوريا كلها رغم الوضع التعيس ما بتشوف شحاذ عالطريق”.. وتابعت صديقتي: “الفكرة اللي أخذتوها عن شوية سوريين “نَوَرْ” من الجزيرة وتركيا، لا تمثل سوريا الشام وحلب وحمص والسويداء ودرعا وحماه واللاذقية وطرطوس.. يا عيني شو مفكرين حالكم أنتو..”…
وختمت بعبارة: “إخس عالوفا، والاخلاص، والحرية، والفهم المشترك، أنا مسيحية معارضة من السويداء. ما كنت أعرف إنو جاري درزي أو سني أو شيعي في المحافظة، وقلنا إنو لبنان بيحمل هويتنا، لكن يصير فينا هيك… لا والله.. يا عيب الشوم منكم..”
الصديقة السورية تأملت في عيون الشارع من زجاج المقهى وكأنها تضمر نيّة مبيّتة، و”نتعت” جزدانها عن الطاولة، وقالت: “ما تفكروا يا لبنانيي إنو السوري بيركع؟ بشار الأسد اللي منقزل عنو مجرم علّمنا درس مهم… أنو نعرف قيمتنا… بكل حال، كنا عايشين بكرامة، هلّق فهمت ليش ما غادروا أهلي دمشق رغم دعواتي المتكررة لهم الى بيروت…”
قبل أن تخرج من المقهى، سمعت صوتاً من إحدى الطاولات القريبة في المقهى يدندن أغنية “أنا سوري آه يا نيّالي”..
(4)
في صيف 2007 دُعيت الى مهرجان المحبة الذي يقام في اللاذقية، لممارسة رياضة الشعر ثلاثة أيام بداعي واجب العروبة المضيافة. أقلّني صديقي رئيس اتحاد الكتّاب العرب في اللاذقية يومذاك الروائي زهير جبور الى معرض لمشاهدة آخر الصناعات الثقافية والاقتصادية الموجودة عندهم… لم تكن مفاجأة دخولي صالة عرض كبيرة فيها من السيارات والموتورات الضخمة والأدوات الكهربائية التي لا تفرّقها عن الصناعات الأميركية، وكلها من عيار شركة “جينيرال موتورز إلكتريك الأميركية” معدّلة الاسم.. سألت صاحبي مازحاً: شو يا زهير صرتوا عم تسرقوا موتورات”؟!، فردّ لي الجواب مازحاً: فرعون بيصنِّع..؟!
المفاجأة كانت حين أعدت عليه السؤال بجدية أكثر عن نوع هذه البضاعة المصّنعة وما اذا كانت أميركية الصنع، فضحك مني وقال: صناعة سورية بحتة وبلا جمرك كمان، شو بس تاي وان وهونغ كونغ وسنغافورة بيصنّعوا… وأكمل لكن هذه البضاعة لم تنزل الى السوق بعد؟!!
وقبل أن أصل الى غرض الرواية، تذكرت زيارتي الى الجزائر في العام 2001 حين مررت مع صديقي في إحدى شوارعها العريضة، لأجد معرضاً كبيراً للسيارات من نوع “رينو وبيجو”، لكن المعرض كان مغلقاً وتعلو السيارات التي في خارجه سماكة 10 سنتم من الغبار… فسألته لماذا هذه السيارات الجديدة قذرة الى هذا الحد، ألا يوجد عندكم حركة بيع.. فقال ضاحكاً: لا يا صاحبي.. هذه السيارات صناعة جزائرية لكن ممنوع عليها فرنسياً أن تسير في شوارعنا.. يعني ما يشبه الحجز.. نحن نستهلك ولكن ممنوع علينا أن نأكل ونشرب ونلبس من إنتاجنا…
في العام 2008 انتظرت قوى 14 شباط وآذار أن تفقع تصريحاً مزلزلاً على تصريح سابق للرئيس السوري بشار الأسد يختصر “بعبد مأمور لعبد مأمور”… فاجتمعوا في ساحة الشهداء وبدأوا بتسليل الأسد: “يا ابن الوحش” “الطاغية النمرود”، “القرد الممسوخ” “الزرافة الممعوطة” “البحر امامكم والعدو وراءكم”، “يا بيروت بدنا التار من لحّود ومن بشار”.. ولافتات تحمل شعار” مسلمون ومسيحيون، دروز ويهود ضد العدو السوري”.. إلخ المعزوفة… وانتظر اللبنانيون بماذا سيردّ بشار الأسد بعد 14 شباط أي في مناسبة 8 آذار 2008 على هذا الكلام الصاروخي…
كان هدوءاً يسبق العاصفة، بشار الأسد في صبيحة 8 آذار 2008 يركب سيارة “شام”، سيارة من صناعة سورية، برفقة زوجته أسماء وابنه وابنته، ويسير في شوارع دمشق القديمة والجديدة. إنها السيارة التي شاهدتها في معرض اللاذقية في العام 2007. حصلت على التوقيت المناسب كردّ على الدول الكبرى المتآمرة على سوريا، هذه الدول التي تريد أن يبقى العرب مستهلكون لا منتجون أو مصنّعون.. أدركت حينها ما معنى الانتظار.. ومعنى أن أكون عبداً مأموراً لعبد مأمور…
ضحك صاحبي حين لفظ وجهي عبارة تقول: هيك شعب ما بيموت!!
(5)
التقيت بصديق اشتهر بسوريته وتعصّبه للنظام، وحرصه على دولته ونظامه، فنظر إليّ شذراً على ما يسمعه من اللبنانيين والتيارات السلفية والأصولية في لبنان والعالم العربي بحق سوريا، فأمسك دمعته بعنفوان كبير، وأثمل من مجَّة سيجارة طويلة داورت منتصف صدره وقال لي بارتياب: صار بهل الزمن عيب كون سوري..؟!
قلت له: من قال ذلك؟
قال: نحن إرهاب العالم؟
قلت: أنا أكبر إرهابي في العالم؟
قال: لكنك لست سورياً؟
قلت: من قال لك ذلك؟
فضحك بامتعاض: أنت سوري؟
قلت: أنا سوري قبل سايكس بيكو، وأنت سوري بعد سايكس بيكو… ووعد بلفور حط إسفين بيناتنا…
قال: ما فهمت شو يعني؟
قلت: لو أن نظام دولتكم العتيد قرأ التاريخ جيداً، لكانت الحقيقة أنصفته، ولما حصل ما يحصل الآن في سوريا..
قال: ماذا تقصد الرئيس حافظ الأسد، حافظ التاريخ منيح، وقال أنه لا يكذب التاريخ والجغرافيا.. والرئيس الحالي على خطاه؟!
قلت: نعم.. لكن السورية هي قبل حافظ وبشارالأسد ، الانتماء الى المواطنة والحرية والذاكرة جزء من عملية صهر الهوية، في مفهوم صريح وواضح.. الخروج من البلبلة والضياع الى الجلاء واليقين.
نظامكم الأمني يا صاحبي طغى على نظامكم العلماني، أصبح همّكم كيف تخرّجون مجرمين وقتلة وانتهازيين… وبقيت فكرتكم ضحلة، لم تحسنوا تسييلها بشروط الزمن الآتي… فلم تعد فكرتكم للشعب الذي هو أساس الدولة.. فكان القهر على حساب الفكر، فنامت دولة الغد.. وتباطأت الدولة الكليانية في نتوءات الأمن السياسي دون النظر الى أفكار الناس وأحلامهم إضافة إلى الأمن الغذائي والمعيشي والحياتي للناس، فجاءت على حساب العلم والأفكار المستقبلية… أنظر يا صديقي لا تُبنى حضارات إلاّ بالخليط والتجانس والاختلاف في الرأي… وسوريا لا تبنى إلاّ بالعلمانية، فهي “خلطة” هذا الفضاء المشرقي… وصورة مصغّرة عن هذا الكون الرحب بكل أطيافه ومعتقداته…
لو علّم نظامكم في كتبه فكرة الآخر، والمجتمع المدني، وفي مدارسه نظرة الأوطان الى العلم..ولم يضع في دستوره الذي يدّعي مدنيته أن دين الدولة هو الإسلام، وعوض أن يبني في كل حيّ جامعاً لكان الأمر اختلف في الكتاب وفي الرؤية وفي الاستراتيجية.. ولرأيت أنك ستكون الارهابي الأخير، دون أدنى شك.. عوض أن تكون أوّلهم…
(6)
لم يعد الموضوع السوري متعلقاً في بشار الأسد كنظام ودولة والـ 57% من الاستفتاء الأخير برغم الأحداث الدامية، إنه بالتأكيد يرسم فكرة السوري الذي خرج من عنق الزجاجة ليلبّي شهوة أضمرها طوال أكثر من 40 عاماً… وها هو يخرج من العنق لأول مرة رفضاً للاستبداد والدولة الأمنية، الى وكر دبابير، لم يكن يحسب فيه أن العالم تغيّر الى هذا الحد.. واختلت فيه القيم والموازين والأعراف.. كل هذا باسم الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان…
المريب في الأمر أن بعض مثقفي النظام السابقين وجلّهم من الأصدقاء الذين كانو يحاضرون بي حين كنت انتقد النظام والسلطة في سوريا داخل سوريا. فكانوا يشبعونني نظريات ووطنيات وعروبة ومقاومة وسياسة ميكافيلية. طوال أربعة عقود حملوا فيها راية النظام وفاخروا باسمه وكتبوا له القصائد الطنانة الرنانة أكثر من انتباههم لأولادهم، يحملون اليوم راية المعارضة “لهذا النظام” بعدما شبعوا من لحمه، واستفادوا من عظمه قديداً، يصبّحون ويمسّون عليّ كل يوم أو أكثر على الجزيرة والعربية وقد توفر الخروج لهم من تحت السنديانة وجورة الترمس الى باريس ونيويورك ويحاضرون عمّا ارتكبه النظام من مفاسد…
حكم البابا (كاتب سيناريو وموظف في تلفزيون سوريا)، توفيق حلاق (مقدّم برامج)، رشا عمران (موظفة باتحاد الكتاب العرب)، سمر يزبك (معدّة برنامج تلفزيوني وكاتبة قصصية)، ابراهيم الجبين (صحفي يعمل في تلفزيون أورينت)، رياض نعسان آغا (وزير ثقافة سابق موجود في قطر ويكتب لصحف الخليج العربي)، علا عباس (مذيعة في التلفزيون الرسمي السوري).. والغريب أن كل هؤلاء مع السفراء ينشقون عن سوريا ويلتحقون بقطر..
سؤال يطرح منذ أكثر من ألفي عام، هل يتخيّل اللبناني- الفينيقي آلام السيد المسيح حين باعه يوضاس بثلاثين من الفضة وهو على خشبة بيلاطوس البنطي؟!.