الغريم (قصة ٦)
بقلم عصام حمد
لم تستطعْ نبيهةُ التعوُّد على قضائها اللياليَ الطّوالَ وحدَها في هذه الدار حتى بعد مُضيِّ أكثر من سنةٍ على زواجها من أدهم جمعة الحارس الليليّ لمخازن الحيّ.
كان أدهم يذهب إلى عمله في أول كلِّ ليلةٍ، ثم لا يعود إلاّ مع الصباح بعد أن تنقشع الظلمةُ عن آخر زوايا الدار. وكانت نبيهة تودِّعهُ أول الليل عند البابِ في تعلُّقٍ ورجاءٍ من دون أن تجرؤَ على إعادة الكلامِ في شأن ترك عملهِ الليليِّ للبقاء إلى جانبها. كان يُحبّ الحراسة الليلية. لقد أفهمها ذلك جيداً مرّاتٍ كثيرة. حتى أنه في آخر مرةٍ شَكَتْ إليه وحدتَها في الليل أَسْمَعَ الجيرانَ وهو يصيح بها:
ـ إفهمي يا مرا! أُحبّ عملي ولا أُحسن غيرَه. فلا توجعي رأسي بشكواكِ كلَّ يوم!
وتضمُّه إلى صدرها لا تكاد ذراعاها الرقيقتانِ تُحيطانِ بجسده الضخم. وتحاول أن تطاول قامتَه لتُقبِّلَه بثغرها الجميل في ذقنه المغروسةِ شعراً قصيراً كالأشواك. ثم لا تدَعُه حتى يتخلّص منها في ضيقٍ وهو يقول مُتأفِّفاً:
ـ أخَّرتِني عن شغلي!
وينصفق البابُ وراءَه لتجد المسكينة نفسها ليلةً أخرى وحيدةً كأنها عانسٌ أو أرملة ـ كما كانت تقول لجارتها إذْ تشكو إليها وحشة الليل. كانت تزور في أول الليل جارتها القريبة ـ دون علم زوجها طبعاً ـ فتقضي عندها ساعةً وبعضَ ساعةٍ هاربةً من وحدتها. ولكن عليها بعد ذلك أن تعود إلى بيتها الموحش في حين تقضي جارتُها المحظوظة ليلها إلى جانب زوجها ناعمة البالِ هانئة. وتبيتُ هي كأنها عانس أو أرملة!
ولكنْ ماذا قالت لها تلك المرأة التي التقتْ بها عند الجارة وهي تشرب القهوة في زيارتها الأخيرة لها؟
أخبرتْها كيف أنها استردّتْ زوجَها من ولعه بلعب الورق كلَّ ليلة.
ـ كان يتركني بالليل ليسهر في بيت صاحبه. هناك يلتفّ الأصحاب ويبدأون بلعب الورق، ولا يرجع حضرتُه إلى البيت إلا مع الفجر.
فسألتْها نبيهة باهتمامٍ شديد:
ـ وكيف استطعتِ إبقاءَه إلى جانبك؟
فقالت المرأة بفخار ومباهاة:
ـ لم أفتح له الباب عند عودته في ذات ليلة!
وضحكتْ ثم تابعتْ:
ـ كلّتْ يدُه من الطرق. وراح يصيح ويسبّ حتى أيقظ الحيّ.
وأضافتْ وهي تبتسم في حياء:
ـ بالطبع لم تمضِ الليلة من دون أن يُحمِّر جنبيَّ بحزامه الجلديّ! ولقد أقسم أنه سيقتلني إذا لم أفتح له لدى عودته في الليلة التالية.
ـ وفتحتِ له؟
ـ لا! لم أفتحْ! ثم مضى يُخفِّف من سهراته ويُقصّرها بحجة أنها صارتْ تُضجِره. حتى قطعها تماماً وصار يُمضي الليل معي في بيته.
«يا لها من امرأةٍ جريئة! كيف أستطيع أنا إقناع زوجي بتغيير عمله والبقاء في الليل إلى جانبي؟ لن أستطيع احتمال وحشة الليل إلى الأبد. وأدهم على عيوبه الكثيرة أحسن من الوحشة!».
هكذا كانت نبيهة تفكِّر كلّ ليلةٍ فلا تهتدي إلى طريقة. حتى كان أدهم في صباح يومٍ يُخبرها ـ على مائدة الإفطار ـ عن رجلٍ استفزَّه في الليلة الماضية على بوّابة المخازن. وكيف أنه ـ أدهم ـ تربّص به عند البوابة فلم يتركها ـ وكان غالباً ما يستريح في الداخل بغرفة الحارس ـ حتى مرَّ الرجل بالبوابة في طريقِ عودته «ومسحتُ به الأرضَ!».
عند ذاك التمعتْ في ذهنها خاطرة. فقالتْ له في براءةٍ ظاهرة:
ـ ألعلَّه الرجلُ الذي سأل عنك أمس؟
توقّف أدهم عن مضغ اللقمة في فمه وسألها وقد زايلتْ أساريرَه هيئةُ الضحك الذي كان آخذاً فيه:
ـ أيّ رجل؟
فقالت وهي تتشاغل بصبِّ الشاي في قدحه:
ـ رجل طرق عليّ البابَ أمسِ بالليل ففتحتُ له..
قاطعها صائحاً وقد تناثر الطعامُ من فمهِ:
ـ فتحتِ له! ألم أُشدِّدْ عليكِ ألاّ تفتحي لأحدٍ في غيابي؟
فخافت المرأةُ عواقبَ كذبتها أن تجرَّها إلى حساب عسير، إذْ أنها لم تكن قد نسيتْ بعد صفعاتِه الثقيلة. ولكنّ الرجلَ بدا كأنه ترك ـ إلى حينٍ ـ أمرَ فتحِها البابَ لرجلٍ في غيابه فسألها في اهتمام:
ـ كيف كان شكلُه؟
فأجابتْ وهي تتفادى النظر في عينيه:
ـ لم أره.. أقصد لم أره من قبل. كان في حوالي الأربعين. طويل. أسمر.. (ثم أضافتْ كأنها تذكّرتْ فجأةً) وله شواربُ سوداء!
فتمتم أدهمُ في استغراب:
ـ لا أعرف أحداً بهذه الأوصاف! وماذا قال؟ ماذا كان يريد؟
ـ لا أعرف! سأل عنك بالاسم ثم قال إنه سيرجع بالتأكيد!
ظلّ أدهمُ يتفكّر وقتاً طويلاً وقد صدفتْ نفسُه عن الطعام. اهتمّ بأمر السائل عنه بالليل أكثر مما توقّعت نبيهة. ولم يستطع النومَ في ذلك النهار. وما انفكّ يسألها وكأنه يسأل نفسَه:
ـ مَن ذا الذي يطرق بابي ليلاً ويقول إنه سيرجع بالتأكيد؟!
وكم من مرةٍ استدعاها من المطبخ ليسألها عمّا يعِنّ له في شأن ذاك الطارق:
ـ هل كان أطولَ مني أم أقصَر؟ أنحفَ أو أسمن؟ وماذا كان يلبس.. وما شابه ذلك من الأسئلة، والمرأة تُجيبه في تفصيلٍ وإسهاب.
وعند العصر زار أدهمَ جماعةٌ من أصحابه. قعدوا في الفسحة راء الدار حولَ طاولةٍ تحمِل أقداحَ الشاي. وأخبرهم أدهم بشأن الرجل الذي لم يكفَّ عن التفكير فيه. تبادل الرجالُ الآراءَ والتكهُّناتِ حتى قال لهم أدهمُ في صراحة:
ـ أظنّ أن الرجلَ يُهدِّدني! أن يطرق على امرأتي البابَ في الليل والكلّ يعرف أنني لا أكون في البيت..
فاحتدَّ عامرُ ـ وكان أخلصَ أصدقائه:
ـ مَن يجرؤ على تهديدك؟
فرمق أدهمُ صديقَه في امتنانٍ لمدحه. ثم خطر له أن يسأل زوجتَه سؤالاً. فناداها. جاءتِ المرأة على عجلٍ فوقفتْ في استحياء. سألها أدهمُ عابساً:
ـ هل كان يحمل شيئاً بيده؟
فتفكّرتْ قليلاً ثم أجابتْ بصوتٍ خافتٍ:
ـ نعم! ولكني لم أتبيَّنْ ما هو!
امتعض أدهمُ فصرفها قائلاً:
ـ إلى الداخل!
فعادتْ إلى الداخل، إلى مجلسها بقرب النافذة تتسمّع حديثَ الرجال حتى جاءها صوتُ زوجِها يقول:
ـ لن أذهبَ الليلة إلى عملي. سأبقى في البيت حتى أعرف ماذا يريد ابنُ الكلب!
كادتْ تفضح نفسَها بشهقة فرح. غيرَ أنها كتمتْ فرحتَها بجهدٍ لتسمع صديقه عامر يقول في تصميم:
ـ سأبقى معك.
فردّ عليه أدهم باستهانة:
ـ لا داعي لذلك. فأنت تعرف أدهم!
فأجابه رجلٌ آخر:
ـ سيُسلِّيك في سهركَ بانتظار غريمك.
وبقي أدهمُ بالبيتِ في تلك الليلة ينتظر الرجلَ المجهولَ، ولكنْ في الفسحةِ وراءَ الدار انتظره، يُسامره صديقهُ عامرُ مُتسلِّحَينِ؛ أدهمُ بمسدَّسٍ كان يملِكه، وعامرُ بخنجرٍ حربيٍّ عريضِ النصل.
أما نبيهةُ فكانتْ تقدِّمُ لحارسَيها القهوة والشايَ ثم تأوي إلى الداخل راضيةً بالنجاح المبدئيّ الذي أحرزتْه. وقد أوصاها زوجُها بإبلاغه فوراً لدى سماعها أيةَ حركةٍ عند الباب الأماميِّ. كانت تأملُ ـ إذا ما تغيَّبَ أدهمُ عن حراسته ليلةً بعد أخرى ـ أن تستغني إدارةُ المخازنِ عن خدماته الليلية، أو أن يتوجَّس هو شرّاً في تركِ بيته ليلاً، فيبحثَ له عن عملٍ نهاريٍّ. أما صديقُه عامر ــ فمهما قال عن حبِّه للشاي من يدها ــ فَسَيَملّ في النهاية الانتظار وينقطع عن مجالسة زوجها. وهكذا تستأثر به إلى جانبها الليلَ كلَّه.
ووجدتْ نفسَها تبتسم في امتنانٍ إلى الرجل الطويل الأسمر ذي الشوارب السوداء الذي تخيّلتْه ـ خلال انتظارها المفترض له ـ واقفاً وراءَ البابِ يشدّ باستفزازهِ زوجَها إلى البيت.
انتظر الرجلانِ في الفسحة خلف الدار ليلةً وليلةً وليلة ولم يطرق الباب الأمامي طارق. وتساءل أدهم في استغرابٍ وغيظ: «أين الرجل؟ لماذا لم يرجع كما أكَّد لنبيهة؟». وبدأ عامرُ يتململ حتى قال لأدهم:
ـ ماذا قال لك مديرُ المخازنِ في شأنِ تغيُّبك؟
فقال أدهمُ في شيءٍ من القلق:
ـ قال لي: «لا بأس إذا غبتَ بعضَ الليالي». وقد غبتُ أكثر من أسبوعٍ حتى الليلة، ولا أثر لابن الكلب.
فسأله عامرُ وهو يغمز بعينه:
ـ وجارةُ المخازن.. ماذا قالتْ لك. وكيف تقدر على البعد عنها؟
فارتبك أدهم إذ رأى زوجتَه مُقبلةً بالشاي، وخاف أن تكون سمعتْ آخرَ كلام الرجل. فاندفع يقول وهو يُشير إليها:
ـ ها أنا باقٍ معها!
ثم لحظ صديقَه بنظرة توبيخ.
أدركتْ نبيهةُ أنّ زوجها يفكّر في الرجوع إلى عمله الليليّ. اغتاظتْ لذلك كثيراً. ولمّا سمعتْه ذاتَ ليلةٍ يقول لعامر:
ـ سأعود ليلةَ غدٍ إلى المخازن.
وسمعتْ عامر يُجيبه موافقاً على قراره:
ـ ألم أقُل لك من البداية «مَن يجرؤ على تهديدك؟».
لمّا سمعتْ منهما ذلك قامتْ من مجلسها عند النافذة وهي تغلي من الغيظ. أرادتْ أن تفعل شيئاً. أن تُكسِّر. أن تصرخ. أن تثأر لأنوثتها المُهدَرة. وما تدري إلاّ وهي تثب إلى الباب الأماميّ فتفتحه بشدةٍ كأنها تتوقّع أن ترى واقفاً وراءَه الرجلَ الذي جاءها أول مرةٍ ووعدَها بالرجوع! ولكنها لم تجد أحداً. فصرختْ تنفيساً عن غيظها المتعاظم، صرخةً دوّتْ في ظلام الليل الراكد. وسمعتْ زوجَها وصديقَه يُهروِلانِ نحو مصدر الصرخة فارتعبتْ لا تدري ماذا تقول لهما. وإذا بها تمدّ يدها إلى طاقة قميصها فتُمزّقه حتى انكشف أكثر صدرها.
ذَهِل أدهمُ إذ رأى زوجته على هذه الحال. فصاح بها وهو يَشْهر مسدَّسه:
ـ ماذا بكِ؟ ماذا جرى؟
لم تستطع الكلامَ. فأشارت بذراعها باتجاهٍ ما في الظلام. وانطلق أدهمُ مزمجراً يتبعه عامرُ شاهِراً خنجَره. وهتف أدهمُ بصديقِه وهو يُشير بمسدَّسه:
ـ إذهبْ أنتَ في هذا الزاروب. وسأدور أنا من الناحية الثانية.
شقّ أدهمُ بين بيوتِ الحيّ النائمة ظلاماً تتخلَّلُه أنوارُ بعضِ النوافذ الساهرة، عيناه تقدحانِ شرراً، وإصبعُه متوتِّرٌ فوقَ الزناد. توقَّف عن الجري لدى سماعِه صوتاً. ثم تقدّم في حذر. وإذا به يلمح التماعةً ترتفع في الظلام عن يساره. وبسرعة توتّرهِ صوَّبَ مسدّسه وأطلق النار. ندَّتْ آهةٌ ثم تبِعَها سقوطُ جسم. انحنى أدهم فوق غريمهِ في غايةٍ من الحذر والتشوّقِ لمعرفته مَن يكون. وعن قربٍ تبيَّنَ وجهَ صديقهِ عامر.
دأبتْ نبيهةُ على زيارة زوجها في السجن كلَّ يومٍ. وكان يؤلمها أن تحجزها عنه القضبانُ الحديديّة بعد أن كان الليلُ يحجزه. ثم مضتْ تُؤجِّل زيارة اليومِ إلى الغد تأجيلاً لذلك الألم. وعادتْ تقضي لياليها وحيدة مستوحشة. ولكنْ هذه المرّة بلا أملٍ بأنيسٍ يأتيها مع الصباح.
مهلاً! قد يأتيها في الليل ـ رغم كلّ شيءٍ ـ ذلك الرجلُ الطويل الأسمر ذو الشوارب السوداء! فلتتزيّنْ ولْتتبرّجْ إذْ لا يجوز أن تُهمل نفسها وهي في هذا العمر من النضج والأنوثة! حتى إذا جاء وجدَها في أحسن صورة.
وفي ليلةٍ تنبَّهتْ من إغفاءتها القلِقة على صوت. كأنه طرقٌ على الباب. لعلَّه هو! مَسَحتْ النعاسَ عن عينيها ووقفتْ في قميص النوم القصير ـ الذي واظبتْ على ارتدائه في الليالي الماضية ـ وقد استولى عليها الخوف. ولكنّه كان خوفاً ذكّرها ـ لأمرٍ ما ـ بخوفها من زوجها في ليلة الزفاف. كان خوفاًٍ من ورائه رغبةٌ وتسليم! تقدّمت من الباب وهي تعض على شفتها. وتلكّأتْ عنده. ثم خافتْ أن ييأس الرجل فيعود من حيث أتى. فمدَّتْ يدَها المرتعشةَ بسرعة إلى قُفل الباب. وفتحتْه.