ثوابت في الأزمة السورية
جمانة فرحات
من آذار ٢٠١١ وحتى يومنا هذا، تكون الأزمة السورية قد دخلت شهر الثامن عشر. الأزمة تحولت إلى أزمات وتشعبت في أكثر من اتجاه، لكن مع ذلك فإن الأزمة السورية باتت تمتلك ثوابت لا يمكن البحث عن حل لها الا في حال اخذت بعين الاعتبار.
في ما يتعلق بالنظام، لا يختلف اثنان سواء من مؤيديه أو معارضيه أنه أخطأ في عدم محاولة احتواء الاحتجاجات الشعبية، وخصوصاً أن الفرص المتاحة له في الأشهر القليلة الأولى لم تتوفر لغيره من الأنظمة العربية. فشعار اسقاط النظام لم يتسلل إلا متأخراً إلى حناجر المحتجين وكانت شعارات الأسابيع الأولى من الاحتجاجات تقتصر على المناداة بالحرية والاصلاحات. وبين المحاججة ببنية النظام المهترئة وصعوبة تأقلمه السريع مع اصلاحات سياسية والحديث عن ظروف سابقة اقليمية ودولية أخرت عملية الإصلاح كانت النتيجة واحدة، وهي أن اصلاحات النظام تأخرت. ولو أن ما أقره النظام في الأشهر الأخيرة من تعديلات دستورية واصلاحية قد قام باتخاذها من الشهر الأول للاحتجاجات لما كان هذا حال السوريين اليوم.
أما لجهة المعارضة، الحديث يدور عن معارضات. بعض المعارضة نُظر لها بعين الريبة منذ بداية الأزمة وصنفت على أنها من معارضة النظام نظراً لمواقفها وتحديداً في ما يتعلق بسلمية الاحتجاجات والتدخل الخارجي بالرغم من العديد من وجوه هذا التيار في المعارضة قضت سنوات في سجون النظام. أما بقية اطياف المعارضة، فتقف جميعها اليوم إلى جانب خيار السلاح، مؤكدةً أن النظام السوري، باستخدامه المفرط للقوة لم يترك خياراً اخراً لمعارضيه للدفاع عن انفسهم. مع ذلك، فشلت هذه المعارضة على التوحد في ما بينها، وتشظت إلى كيانات مصغرة يتنازع المسؤولون فيها من الآن على كعكة السلطة التي يأملون بأن تصبح بين ايديهم، بينما البلاد تعيش حرباً أهيلة بامتياز. وقد نجحت سياسيات النظام وافراطه غير المسبوق في استخدام القوة في دفع مسلحي المعارضة إلى ممارسة نفس اسلوبه. وبعض فصائل المعارضة المسلحة باتت لا تتوانى عن نشر المقاطع المصورة التي تظهر اعدامات ميدانية بحق اشخاص متهمين بالعمل مع النظام، او رمي مؤيديه من شرف الابنية لتتهاوى الأجساد مرتطمة بالارض، مسقطةً معها كل القيم الاخلاقية وقيم التسامح التي كانت سوريا تتغنى بها.
وقد أظهرت الأزمة عمق الشرخ الاجتماعي الذي كانت تعيشه البلاد خلف الستار حتى غدت مصطلحات سني وعلوي وكردي هي الطاغية على كلمة سوري، في وقت من غير المرجح أن تشهد المعارك انخفاضاً وخصوصاً في ظل اقتناع كلا الطرفين بقدرته على حسم الصراع لمصلحته ما يعني مزيد من الدماء والأرواح التي ستزهق.
في ظل هذا المنحى في التفكير، يصبح التدخل الخارجي، أمراً أكثر من مرحب به من وجهة نظر العديد من أطياف المعارضة. ولم يعد بامكان احد انكار ان التدخل الخارجي سواء الاقليمي او الدولي قائم في سوريا. والحديث الآن بات يتركز حول ما اذا كان يجب الاستمرار عند المستوى نفسه من التدخل بما يتمثل من دعم تقني والسماح بايصال اسلحة خفيفة لمسلحي المعارضة الذين يعانون بدورهم من التشظي أم الانتقال إلى مرحلة أكبر تقدماً، يتخللها فرض منطقة حظر جوي وتسليح المعارضة بأسلحة قادرة على احداث تحول نوعي في طبيعة أدائها، وهو ما يتطلب حكماً تعاون دول الجوار التي باتت تعاني بدورها من تداعيات الأزمة السورية.
الأردن المسكون بهاجس البقاء وقع بين سندان ارضاء التيارات الإسلامية الراغبة بقوة في أن تكون سنداً للمعارضة واسقاط النظام وبين مطرقة هواجسه من أن تكون المملكة الهاشمية في نهاية المطاف ضحية للأزمة السورية، وتحديداً في حال اتخذت الأمور منحى جنونياً كان التقسيم أحد عناوينه.
وإن كان العراق قادراً حتى اللحظة على ادارة الأمور مستنداً إلى لعبة توازن القوى التي تحكم الخطوط الحمراء بين السياسيين في بلاد الرافدين، وتركيا هي الأخرى مدركة للخطوات التي تقوم بها أن لجهة دعم المعارضة او في التخطيط لكيفية تعاملها مع سيناريوهات الوضع السوري، فإن لبنان يبدو أنه الأكثر تضرراً حتى اللحظة.
سياسية النأي بالنفس التي تبنتها السلطات اللبنانية منذ تفاقم الأزمة لم تأتي أوكلها. فالشارع اللبناني كما السياسيين يعيش حالة انقسام حادة. القسم الأول مؤيد إلى أبعد الحدود للاحتجاجات، ولا يكتفي بتقديم الدعم للنازحين السوريين، بل أيضاً سخر قراه الحدودية لتكون مقراً خلفياً للجيش السوري الحر ومقاتلي المعارضة، فضلاً عن تحول لبنان إلى أحد الممرات الرئيسية لتهريب السلاح إلى سوريا. أما القسم الآخر، فلا يتوان عن تبني رؤية النظام السوري للأحداث بوصفها مؤامرة تحاك ضد دمشق ونظامها نظراً لموقفها السياسي من المقاومة. وفي ظل هذا الانقسام، لم يكن اندلاع الاشتباكات بين جبل محسن حيث تقطن الأقلية العلوية وبين باب التبانة حيث الحاضنة السنية للمعارضة سوى بالأمر المتوقع. لكن المناوشات التي بدأت قبل أسابيع ها هي اليوم تتحول إلى اشتباكات لا يبدو أنها ستتوقف بل على العكس من ذلك بات اللبنانييون يترقبون اللحظة التي ستنتقل فيها الاشتباكات إلى ساحات أخرى في لبنان من دون أن يتعلم اللبنانيون من درس الحرب الأهلية التي عايشوها والتي باتوا السورييون بدورهم يعيشون اليوم العديد من فصوله.
لكن ابرز ما يتجاهله طرفا الصراع حالياً في سوريا، أنه مهما طال الزمن أو قصر فإنه لا مفر من جلوس السوريين بمختلف مكوناتهم على طاولة الحوار للبحث عن تسوية للأزمة، وخصوصاً انه على عكس الاعتقاد الشائع لدى الطرفين، من غير المرجح ان يستطيع أي منهما حسم الأمور بشكل كامل لصالحه. وبانتظار هذا الموعد، فإن الثابت الوحيد أن مزيداً من الدماء ستسيل في شوارع سوريا، التي باتت في كثير من الأحيان لغة الثأر الأعمى المتلفت من أي ضواط تتحكم فيها.