“برس نت” على محاور الشمال: كابوس الحرب اللبنانيّة
طرابلس ــ معمر عطوي
كانت الحركة في ساحة النور في طرابلس يوم السبت الماضي (25-08-2012) شبه عادية رغم الخوف المشوب بالحذر على بعد كيلومترات قليلة، حيث الاشتباكات المتقطعة بين باب التبانة وجبل محسن.
قبل التوجه الى “المناطق الساخنة”، كانت المحطة الأولى مكتب جريدة “الأخبار” في طرابلس، هناك ينصح مدير المكتب الزميل عبد الكافي الصمد، بعدم الذهاب الى “المحاور”، متسائلاً “ألم تر كيف استهدفوا الصحافيين أمس؟”.
والبديل لدى الزميل الخبير بشؤون الشمال وشجونه، لقاء لنواب وفعاليات ومشايخ عاصمة الشمال في بيت النائب (تيار المستقبل) محمد كبارة، “هناك تلتقي بالجميع وتفهم منهم ما يحدث”، على حد قول الصمد.
في منزل “أبو عبد” كما ينادون كبارة، والواقع في الطابق التاسع في جهة الغرب من المدينة العريقة، تجمّع الصحافيون على شرفة مطّلة على البحر، بانتظار ما سيُسفر عنه اجتماع “القيادات”، لكن الللقاء كان ناقصاً، فالطرف الآخر غائب عن الاجتماع، والذريعة أن هناك من يمثل الطائفة العلوية في اللقاء وهو النائب بدر ونوس، العضو في كتلة المستقبل، لكن “هو لا يمثل سوى 2 في المئة من أصوات العلويين”، على حد قول القيادي في الحزب العربي الديموقراطي عبد اللطيف صالح.
أحاديث الصحافيين الذين طال انتظارهم على الشرفة الفارهة، كانت تدور حول الهدنة وخرقها وما يمكن ان يُسفر عنه الاجتماع. لكن في الواقع كانت الصورة مختلفة. هناك في شارع صيدا الذي كان خالياً تماماً من الحركة، ثمة خط تماس قديم متجدّد، يعيد الى الذاكرة أسماء قديمة: المتحف، قصقص، الأسواق، الرينغ، السوديكو، عين الرمانة، غاليري سمعان، الكفاءات، سوق الغرب، الشحار الخ..
خطوط تماس انحفرت في ذاكرة اللبنانيين منذ الحرب الأهلية (1975- 1990)، إلاّ ان الحرب الجديدة مختلفة بصورتها وأسبابها ووقودها وتداعياتها.
هنا تحولت المنطقة الى ساحة معركة بالوكالة بين الأمم. صندوق بريد يضع فيه كل محور دولي رسائله ويمضي تاركاً أشلاء الفقراء على قارعة الطريق، ودماءً تسيل في مجرى نهر أبو علي الذي يقع تحت جبل محسن مباشرة.
على خط التماس لا يوجد سوى ملالة للجيش وحديث ودي بين أحد عناصره مع شاب من المنطقة، وخلف المباني التي تحتضن أسواق الخضار، حركة شبه معدومة الا من بعض الباعة الذين استبدلوا البيع الجوال في سيارة بالبيع في المنطقة، “لأن كل شئ هنا في حالة جمود”، كما قال بائع الخضار وهو يهم بتعبئة شاحنته الصغيرة تمهيداً للقيام بجولة بيع في الأحياء الآمنة من طرابلس “وربما أبعد من طرابلس حيث تكون الرزقة”.
حال الناس العاديين ليس كحال المُقاتلين الذين يحملون أسباباً سياسية وعقائدية لحمل السلاح، فبحسب قول الرجل المُلتحي على المذهب السلفي إن “الحرب التي تشنها سوريا علينا ليست جديدة هي من أيام المجرم حافظ الأسد وصولاً الى إبنه السفاح بشارالذي يحرّك جماعة رفعت عيد” زعيم الحزب العربي الديموقراطي.
الناس العاديون لا يحبون الحرب “نريد السترة وكفاف يومنا” هذا ما تنطق به ألسنتهم، لذلك معظمهم غادر باب التبانة الى مناطق أخرى أكثر أمناً. لكن أحد الجالسين أمام مبنى ملئ بثقوب الرصاص يرى “حتى طرابلس لم تعد آمنة لقد وصلت قذائفهم الى الميناء والقلعة وشارع المئتين”.
بائع الخضار الشاب يقول إنه اشترى سلاحاً ليدافع عن نفسه وعائلته، وهو لم يأخذ السلاح من أي جهة حزبية أو سياسية. يوضح الشاب العشريني أن عناصر الجيش اللبناني يشاهدون المقاتلين يطلقون الرصاص ولا يحاولون مصادرة السلاح منهم “فقط يقول لنا يا شباب ضبوا السلاح ما تقوّصوا”.
الأمر نفسه مع مجموعات سلفية في الجانب الآخر من باب التبانة، في حي الملولة وحي المنكوبين، تنتشر جماعات من الشبان في كل حي منهم المُلتحي ومنهم الحليق. شبان في زهرة ربيعهم يتحضّرون للموت، “لم يعد لنا من حل آخر”، يقول أحدهم. “النظام السوري يريد لأهل السنة في طرابلس ان يدفعوا ثمن دعمهم للجيش السوري الحر، وانشاء الله سيسقط هذا النظام قريباً”.
وعن مصادر السلاح، يقول الجميع “نشتريه بأنفسنا لأن من يموت دون ماله أو أرضه أو عرضه فهو شهيد” كما يقول الحديث النبوي.
ثمة نقمة شديدة على الدولة وعلى المسؤولين خصوصاً في طرابلس، “هم لا ينظرون الى الفقراء مثلنا الا كوقود لمعاركهم”.
الحرمان والفقر والتهميش يمكن ملاحظته في كل حي من أحياء باب التبانة، من المنكوبين الى الملولة وصولاً الى شارع سوريا والقبة ومنطقة نهر أبو علي مروراً بمخيم البداوي الذي يقع شمالي الجبل.
حين تغيب الدولة تسيطر قوى الأمر الواقع ويمكن حينها تخيل كل أنواع الجرائم والممنوعات والتشدد الديني، وقد أصبحت متجسدة على الأرض.
لكن في نظر هؤلاء المعركة لها أشكال أخرى، “ثمة حرب يقودها الشيعة والنصيريون (العلويون) ضد أهل السنة ولن نستسلم حتى يسلّم حزب الله سلاحه للدولة”، هكذا يلخّص أحد كوادر السلفية الجديدة الوضع.
في شارع الشهيد خليل عكاوي “أبو عربي”، يحاول أحد المُقاتلين الذين أخفوا أسلحتهم، إيضاح أن من يقاتل في باب التبانة “ليسوا سلفيين ولا هم مدعومين من أي دولة، كما يصوّر الاعلام نحن نتعرض للاعتداء والدولة لا تحمينا فنحن مضطرون لحمل السلاح بكل مشاربنا الفكرية وأهوائنا السياسية. نحن أبناء باب التبانة ولسنا غير ذلك وعلى اختلاف مهننا”.
يتحسّر الرجل المُلتحي على أبو عربي الشاب اليساري السابق الذي اصبح اسلامياً والذي حمل هم باب التبانة وأهلها خلال الثمانينات قبل أن تغتاله الاستخبارات السورية. ويقول “لو كان أبو عربي موجوداً لما تجرأ أحد على باب التبانة”.
حتى في جبل محسن الذي تعذّر الوصول اليه بسبب القنص من الطرفين، كان لسان حالهم يقول أنهم يتعرضون “لاعتداء من جماعات تكفيرية وسلفية وأنصار تيار المستقبل بدعم خليجي لانهاء كل من يؤيد المقاومة ونظام الممانعة في دمشق”، هكذا عبّر أحد مقاتلي جبل محسن اثناء اتصال هاتفي معه. المقاتل الذي اتهم الطرف الآخر بخرق الفتنة أشار الى “محاولات كثيرة من الجماعات التكفيرية تهجير العلويين من المدينة بإحراق محالهم والاعتداء الدائم عليهم ومضايقتهم حت يُهجّروا نحو جبل محسن”.
في مدينة طرابلس وأسواقها كانت الحركة مشوبة بالحذر لكن الوضع هنا مختلف عن باب التبانة، فالناس تخرج لشراء حاجياتها وقضاء أعمالها من دون ان تقترب من خط التماس حتى لا تعيش من جديد كابوس الحرب اللبنانية الدموية. مع ذلك كان عنصر شعبة المعلومات في الأمن الداخلي متوجساً من عدسة السائح الذي يصوّر معالم عاصمة الشمال المملوكية، فاضطر للاستفسار عن سبب التصوير، لأن الوضع رغم كل شئ لا يزال غير طبيعي في طرابلس الفيحاء.