المريض 152 (قصة ٧)
عصام حمد
كان يعرف جسده أعمقَ معرفةٍ. كيف لا؟ والجسد جسده هو. وقد رافقه بالمراقبة ووالاه بالعناية ما يقارب ثلاثين سنةً من عمره حتى أصبح من دقّة التنبُّهِ لشؤون جسده بحيث كان يُدرك حاجاته كافةً ليحافظ عليه سليماً صحيحاً مُعافى.
أما إذا طرأ على جسده اعتلالٌ ما أو توعُّكٌ، فَمَردّ ذلك بالتأكيد إلى انشغاله المؤقت عنه بشؤون الحياة. وما عليه، للتداوي، إلا أنْ يعودَ فيصغي إلى همس جسده يُنبِئُه بما يحتاجُه من راحةٍ أو غذاءٍ أو دواءٍ ليرُدّ إليه صحته وعافيتَه.
وبكلمةٍ، كان حمزةُ الأمينُ يستحِقُّ أنْ يُقال عنه إنّه طبيبُ نفسِه.
ولكنّ الأطباء في مستشفى المدينة لم يعترفوا لحمزة بقدرته على مداواة نفسه بنفسه. وأصرّوا على فرض علاجهم على جسده بعقاقيرهم الغريبة التي لا علم له بها ولا خبرة، غير مُصدّقين أنّ جسد هذا المريض لا يستجيبُ لدواءٍ لا يعرفه هو، ولا يقتنع به علاجاً لحالته.
وكان والدا حمزة قد حملاه إلى هذه المستشفى عصرَ يومٍ من أيام صيف 2003 عندما سقط مغشياً عليه في البيت. وكان قبل ذلك قد مضى على توعّك صحته أيامٌ ثلاثة أو أربعة أبى في خلالها أن يستشير طبيباً قائلاً لوالديه القلقين ـ كعادته ـ إنه أدرى بجسده من الغرباء، وإنه يُداوي نفسَه بأصناف من الأغذية، والأدوية المعروفة، وبالكثير من الراحة. وذلك بحسب معرفته الحُرّة لحاجات جسده. فلا داعي للجزع. إلا أن صحته كانت في تدهور مستمر، وكان جسده يهزل بسرعة وهو متصبّرٌ معاندٌ حتى سقط في حجرته.
ولمّا استعاد وعيه في مساء ذلك اليوم قلّب عينيه الزائغتين فيما حوله فوجد نفسه في سرير أبيض الأقمشة، بحجرة عارية، ذات إضاءة بيضاء باردة، وقد ألبسوه برنُساً أبيض، وغرزوا في ذراعه اليمنى أنبوباً دقيقاً موصولاً بكيسٍ من المصل معلّق فوق رأسه.
استاء لذلك كثيراً، وراح يحاول النهوض مُغالباً إعياءه، حتى أقبلتْ عليه مُمرّضةٌ صغيرة بلباسها الأبيض وقالت له باسمةً:
ـ أفقتَ؟ سأنادي الطبيب حالاً..
وجاء الطبيب فقدَّم إليه نفسه باسم عبّاس حمّود. وراح يُطمئنه ـ وعلى وجهه المستدير ابتسامةٌ مهنيّة ـ بأنّ حالته لا تدعو إلى القلق، وأنّ.. فقاطعه الشاب بضجر وكان قد جلس في سريره مسنداً ظهره في إعياء:
ـ وما أدراك بحالتي؟!
فسكت الطبيب كالمنزعج. ثم ابتسم متسامحاً، واستأنف كلامه:
ـ وقد وصفتُ لك دواء سينفعك، على أن تخضع للمراقبة.
فقال الشاب بحدّة على قدر ما تسمح به حالته:
ـ لا يجدي شيءٌ في مداواتي ما لم أعرفه وأقتنع بحاجة جسدي إليه. فلا تقُل لي «دواء سينفعك» بل عرّفني به؛ أي شيء هو..
ثم بعد توقّف قصير استردّ فيه أنفاسه:
ـ وسأرى إن كان سينفعني!
أصغى الطبيب عباس حمود في استغرابٍ إلى كلام مريضه متسائلاً في نفسه عن مؤهلاته العلمية. وتبادل مع الممرضة نظرة استخفاف. ثم رأى أن يجود باسم الدواء وبتعريف مقتضب به. ولكنّ الشاب لم يفهم شيئاً! اسم الدواء أجنبي غريب، وكذلك هي أسماء مكوناته! لذلك طالب الرجل بمزيد من الشرح. بيد أن الطبيب ضاق بمريضه المزعج متذكّراً ما وراءه من مشاغل. فنصحه بإراحة نفسه وترك الأمر له. فعاد الشابُّ يؤكد ـ وقد نال منه الإعياءُ ـ أنّ جسده لن يستجيب لأي دواءٍ إلا إذا تعرّف هو به، واقتنع بحاجته إليه. ثم قال إنه أدرى بجسده!
نفد صبرُ الطبيب، ولاح الانزعاج في وجهه المستدير. فسارع إلى إنهاء عيادته لهذا المريض العنيد، موصياً الممرّضة رنا بإعطائه الجرعات المقرّرة في أوقاتها، وبإبلاغه فوراً بأي اضطرابٍ يطرأ على حالته. ثم انصرف. وسكت حمزة عن الجدال إعياءً وخَوَراً. وطرح رأسه المُتعَبَ على الوسادة البيضاء. وتلكّأتْ رنا تنظر إليه في إشفاقٍ قبل أن تسارع فتلحق بالطبيب.
وكان بالحجرة سريرٌ آخر يرقد فيه رجلٌ يكبر حمزةَ بعشرة أعوام على الأقل. في عينيه تصبُّرٌ وتسليم. وفي مظهره وداعة. حيّاهُ حمزةُ بلطف. فالتفت الرجلُ إليه في طيبة. وردّ تحيّته في ابتسام كالامتنان. فسأله حمزةُ عمّا به. فقال الرجل:
ـ لا أعرف! أحس بوجعٍ في بطني. أعطاني الدكتور دواءً، وقال لي »ستتحسّن«!
ـ وما اسمُ هذا الدواء؟
فابتسم الرجلُ في حياءٍ وقال:
ـ لم أحفظ اسمه!
فقال حمزةُ في استغراب:
ـ كيف تبتلع دواءً لا تعرف حتى اسمه؟
فسكت الرجلُ متحيّراً.
قضى حمزةُ ليلته الأولى في المستشفى مسهَّداً أرِقاً. لم يُعانِ فحسبُ من الضعف والإعياء والإحساس بالغربة في هذه الحجرة الباردة البياض، التي تحمل على بابها الرقم 152. ولكنه كان يعاني إلى ذلك ـ تساؤلاً محموماً عن سبب فشله في مداواة نفسه بنفسه، كما تعوّد أن يفعل. لماذا لم يتنبَّهْ أول توعّكه إلى ما كان يحتاج إليه جسده من علاج؟ لعلّ جسده يتطلّب هذه المرة علاجاً من نوعٍ جديد، ليس له به علم؛ كالدواء الغريب الذي وصفه له الطبيب حمود؟ قد يكون الأمر كذلك. وراح حمزة يلوم نفسَه على تقصيره في الإطلاع على الأدوية الحديثة والتعرّف بها. هذا التقصير الذي مهّد لنقله قسراً إلى دار البرانس البيضاء، وسمح للغرباء بمعاينة جسده تلك المعاينة المهينة، وبتشخيصهم لحالته تشخيصاً مفترضاً لا دخل لرأيه فيه، ومن ثم أباح لهم ـ تقصيره ذاك ـ تصنيفه في الحجرة 152، حتى أصبح حمزة الأمين لا أكثر من حالةٍ يكفي لتعريفها ذكر الرقم 152 لاغير. واضطر في آخر الأمر أن يتقبّل في جوفه ما يصفونه له من عقار غريب الاسم والتركيب، لم يَجْرِ له يوماً في خاطر.
كيف سيشفيه هذا العقار الغريب؟ إنّ جسده ينظر بريبة ـ ولا شكّ ـ إلى الجرعة منه في يد الممرضة؛ سواء أكانت حبّة أم حقنة، كمن ينظر إلى غريب يقتحم عليه دارَه. وهل تتلقى الغريب برضى وترحاب إلا إذا تعرّفت به قبل ذلك؟! فما قولك في رجل غريب يعلو رأسك ـ وأنت مُمَدَّدٌ في سرير يتجافى عنه جنبك ـ ويأمُرُ لك بعقارٍ غريب يقحمه في جوفك وهو يقول لك »هذا سيشفيك«! كلا! إنّ جسد حمزة لن يستجيبَ لعقارٍ لا يعرفه. لذلك فإنّ عليه أن يستدرك ما فاته من الإطلاع على الأدوية الحديثة. فإذا أصبحت مألوفةً لديه معروفةً، أمكنه تبيُّنُ حاجةِ جسده إلى أحدها ليسترد عافيته. ومن يدري فلعلّه لا يحتاجها أبداً. ولعلّ علاجه يكون بغير هذه المواد الغريبة. هكذا تسلسلت خواطرُ حمزة في ليلته تلك. ولكنه تساءل في لهفةٍ مُعذّبة:
ـ »كيف السبيل إلى التعرُّف بتلك الأدوية وأنا رهينُ هذا السرير، أعاني وهناً وضعفاً؟«.
وفي الصباح سُمِحَ لوالدَيْ حمزة بزيارته. وما إن وقعتْ عليهما عيناه آتيان في غايةٍ من القلق والجزع حتى راح يلومهما ـ على الرغم من وهنه ـ على نقله إلى المستشفى. فقالت والدته دامعة العينين:
ـ وماذا نفعل وقد أفزعتنا بوقوعك مغمى عليك؟
وسأله والده بعبوسة قلقٍ وهو يجلس على كرسيٍّ إلى جانب السرير:
ـ هل تشعر بتحسُّنٍ؟
فقال حمزة:
ـ أنت تعرف أنني درجتُ على علاج نفسي بنفسي، وأنني لا أتقبل علاج الأغراب!
ـ نعم. ولكنّ حالتك هذه المرة صعبة وتستدعي الاستعانة بالأطبّاء.
فعقد حمزة حاجبيه وقال بعناد:
ـ لن أدع حالة صعبة تضطرني إلى الاستعانة بغرباء يصفون لي عقاقير غريبة لا أعرفها!
ودخلت رنا الممرضة الصغيرة باسمة النظرة متفائلة الوجه. فزايلت حمزة عبوسته في الحال، واسترد وجهه الشاحب صفاءه، وإن لم تمّحِ منه أمارات الإعياء.
ـ كيف حالك اليوم؟
فقال حمزة وقد تحسّنت حالُه:
ـ أحسن يا رنا!
وقالت لها والدته في رجاء وتودّد:
ـ أوصيك به يا حلوة!
راحت الممرضة تتفقّد كيس المصل برشاقة يد وهي تقول وقد تألّقت عيناها بالثناء:
ـ حمزة في عينيّ!
ثم أخرجت من جيب برنسها الأبيض علبة دواء، ودعت الشابّ المريض إلى تناول حبّة.
أشاح حمزة بوجهه عن يد الفتاة وقد عادوته عبوستهُ، فهتفت به والدته:
ـ كُفّ عن عنادك يا حبيبي!
وهز والده رأسه في امتعاض.
أما الفتاة اللطيفة فقد سألته باستغرابٍ عن سبب رفضه. فسألها بدوره بلهجةٍ مُخفَّفة:
ـ كيف أبتلع حبّةً لا أعرف ما هي؟
فأجابته ببساطة:
ـ سأزوِّدك بالبيان الذي يُرفَقُ عادةً بعلبة الدواء. ولك أن تقرأه وتفهم ما تجهل من أمر هذه الحبّات.
فسألها حمزة بلهفةٍ وقد نهض بجذعه عن الوسادة:
ـ وهل تستطيعين تزويدي بالكثير من هذه البيانات عن الأدوية المختلفة؟
فقالت له الفتاة الذكية:
ـ إذا تناولتَ هذه الحبة من يدي الآن فسأنظر في طلبك!
ابتسم حمزة في ارتياح وإعجاب وتناول الحبة من اليد الناعمة.
وفي وقت لاحق من ذلك الصباح دخل الطبيب عباس حمود الحجرة 152 في جولته على حجرات المرضى الموكول إليه أمرُ العناية بهم، ترافقُه الممرّضة رنا.
راقبه حمزة يتقدّم من سريره بثقةٍ زادت حتى انقلبت عجرفةً. لقد تعوّد هذا الرجل السيادة على مرضاه. وألِفَ أن يرمُقَه المرضى برجاءٍ وهم مُمَدَّدون في أسِرَّة المعاناة، ينتظرون منه أن يُنْبِئهم بما يجد هو في أجسادهم من علل، ويبتلعون ما يصفه لهم من عقاقير في جهل وتسليم وبلا مراجعة.
ـ وصلنا إلى المريض العنيد.. كيف أصبحت اليوم؟
استفزّت حمزة اللهجة التهكّميّة فأخرجته عن استرخائه الواهن. ولكنه قال في هدوءٍ وهو يتبادلُ نظرة مع رنا:
ـ في طريقي إلى المعرفة!
لم يُبدِ الطبيبُ اهتماماً بكلام حمزة. فقد كان يلاحظ شحوب مريضه وهُزاله. وعجب لذلك. إنَّ تشخيصه سليم، والدواء الذي وصفه له نافع ولا شك لهذه الحالة. فكيف ذلك؟ ووجد نفسه يُعيد النظر في تشخيصه. ثم ذكر ما كان قد قاله حمزة من أن جسده لا يستجيب لدواء ليس يعرفه أو ليس هو مقتنعاً بنجاعته. فسأله ساخراً:
ـ ألم تقتنع بعد بالدواء الذي يُعطى لك؟
فأجابه حمزة مُقَطِّباً:
ـ لا! لأنني ما زلت أجهلُه!
ـ هل تريدني أن أعلِّمك الطب حتى تقتنع بفائدة علاجي لك؟
ـ ما أريده هو أن لا يدخل جسدي شيء أجهله.
فقال الطبيب وكأنه اهتدى إلى حجة دامغة:
ـ ما دام هذا الشيء ينفع في شفائك، فلا أرى مبرّراً لرفضك دخوله إلى جسدك وإن كنت تجهله!
فقال حمزة معانداً:
ـ لن أنتفع به إلا إذا عرفتُه واقتنعتُ به!
فقال الطبيب معتزّاً بسنوات خبرته الطويلة:
ـ الدواء يعمل عملَه في جسد المريض بلا حاجة إلى معرفته به. وقد عالجتُ الكثير من المرضى ولا فكرة لديهم عن الأدوية التي وصفتُها لهم!
فلاح احمرارُ الغضب في وجه حمزة الشاحب وهو يقول:
ـ ولكنّ علاجك هذا سلبهم كرامة عقولهم! لقد قبلوا بإلغائك لعقولهم إذ سمحوا بتمرير عقاقيرك إلى جوفهم من دون التعرّف بها، ومحاولة تفهّمها، والإطلاع على ما ستفعله بأجسادهم.
نظر عباس حمود إلى رنا كأنما ليُشهِدَها على حماقة هذا المريض. إلا أنَّ الفتاة لم تُبادله نظرته. فخرج من الحجرة مغتاظاً.
وجاءته رنا بما وعدته به من بيانات وكُتيِّبات عن كثير من العقاقير المستعملة في المستشفى. وضعتها بين يديه وهي تقول في دعابة:
ـ أُدرسْ حتى تصير طبيباً!
انكبَّ حمزة ـ بالرغم من إعيائه المتزايد ـ على هذه البيانات يدرسها ويحاول اختراق ما توافق الأطباء على دلالته فيما بينهم. وكانت رنا تعوده من آن لآخر فتجده في سريره يقرأ ويفكّر ويُدوِّن الملاحظات إلى وقت متأخِّر من الليل حتى خافتْ على صحته الواهية عواقب الجهد الذي يبذله. فقالت له في إشفاق:
ـ أنت ترهق نفسك يا حمزة.
فرفع إليها عينيه المتعبتين وقال:
ـ عليّ أن استردّ ما كان لي من أمر مداواة نفسي بنفسي.
كان يجد صعوبةً في الفهم، ونقصاً في البيانات، وتعميةً. ولكنه كان يتقدّم ـ على خوره وضعفه ـ بقوة إرادته وحدّة ذكائه وثقته بنفسه.
سأل ابراهيم قاسم موظّفَ الاستعلامات في مستشفى المدينة عن حجرة صديقه حمزة الأمين. فأجابه الموظف ـ بعد ان أنهى مكالمة تلفونية خاصة كما بدا ـ بأن المريض في الحجرة 152 بالطابق الأول. فصعد إبراهيم إليه يحمل باقة زهور ـ على وجهه شيءٌ من أثر الصدمة لدى تلقّيه خبر مرض صديقه.
كان يعرف عن حمزة ما درج عليه من مداواة نفسه بنفسه، ويحفظ عبارته «أنا أدرى بجسدي». فلمّا عرف خبر نقله إلى المستشفى ـ إثر زيارةٍ عادية لبيته قبل حوالي الساعة ـ قدَّر خطورة الحال.
سار إبراهيم في ممشى طويل يتابع أرقام الحجرات حتى بلغ الباب الذي يحمل الرقم 152. هاله أن يجد صديقه طريح الفراش، مهزولاً، شاحب الوجه.
فتح حمزة عينيه فابتسم ابراهيم إليه مدارياً جزعَه، وأسرع في وضع باقة الزهور على الطاولة بجانب السرير ليعانق صديقه الذي بدا كأنّ النشاط دبّ فيه فجأة وهو يهتف بصوت واهنٍ:
ـ ابراهيم! كم تسرّني رؤيتك!
استخفّ حمزة السرور لزيارة صديقه القديم ولكنه شعر بما يُشبه الحياء لانطراحه في مستشفى وخضوعه لعلاج الأغراب وهو المعروف »بطبيب نفسه«. لذلك بادر إلى إخبار صديقه بظروف نقله إلى هذه المستشفى، وبقراره تبديدَ جهلهِ بالعقاقير الحديثة بدراسة بيانات عنها، حتى قال له بفخار:
ـ وها أنا أكتب في ورقة خاصة ما أجده صالحاً لعلاجي من المواد التي أفهمها!
ثم استدرك يقول وهو يتنهّد:
ـ بيد أن ذلك يستلزم وقتاً.
تسمّع ابراهيمُ إلى صديقه باهتمام. لقد أَلِفَ منه اعتماده على نفسه في شؤونه كافة. وكان واثقاً بمقدرته الفكرية على معالجة المسائل التي تعرض له في حياته. ولكنه حيال ما يرى من هزاله واصفرار لونه وضعفه لم يملك إلا أن يسأله في شيء من القلق:
ـ هل ستتمكن من علاج نفسك هذه المرة؟
ابتسم حمزة في تسامح لطيف وقال لصديقه معاتباً:
ـ لا تشكَّ بمقدرتي يا صديقي!
في أثناء كل ذلك كان حمزة يتابع حالة زميله في الحجرة، الرجل الطيب. عرف منه أن الدواء الذي يعطونه له لم ينفع في علاج ألم بطنه. ثم عرف أن الأطباء قدّروا أن به المرارة. وراحوا يعطونه دواءً آخر ولكن بلا فائدة حتى قرروا استئصال مرارته!
ولمّا رآه حمزةُ ساكناً صامتاً مُسلّماً أمرَه لهؤلاء الناس يفعلون ببطنه ما يشاؤون صاح به محتدّاً بالرغم من الدوار الذي بدأ ينتابُه:
ـ ألا ترى أن مرارتك لا تستجيب لعقاقيرهم. لذلك قرروا استئصالها من جسدك لرميها خارجاً حتى يُحقِّق جسدُك بعد ذلك المعدَّلات التي يُريدونها له قبل السماح لك بمغادرة المستشفى!
لم يفهم الرجلُ المريض كلام حمزة فتنهّد ثم قال في أسى:
ـ أريد أن يكفّ عني هذا الألم!
وتجلّت في عينيه نظرة معذّبة.
قبيل منتصف ليلة اليوم السابع لادخال حمزة مستشفى المدينة جاء صديقه ابراهيم قاسم على عجل لتفقّده إثر اتصالٍ تلفونيّ طارئ تلقّاه من الممرضة رنا. استقبلته رنا على باب الحجرة 152 بعينين مذعورتين. وأخبرته بأنَّ حالة حمزة قد تدهورت فجأة أول الليل، وأن الطبيب حمود عاده على وجه السرعة. فلما وجده حمود في شبه غيبوبة ترك الحجرة كالهارب وهو يُدمدم:
ـ العنيد! إنه لا يستجيب للعلاج!
قلقت عينا إبراهيم. أما رنا فواصلت كلامها المتلاحق المضطرب:
ـ لم أدرِ ماذا أفعل. فهرعتُ إلى حمزة أسنده إلى صدري وأحاول إعادته إلى وعيه.
كانتْ ساعةً عصيبةً يا إبراهيم. ولكنه فتح عينيه ونظر إليّ ملياً حتى عرفني. عند ذاك ابتسم في فرحٍ واهنٍ. سألتُه ماذا يريدني أن أفعل. فقال: »إبراهيم اتصلي بإبراهيم..«. وذكر لي بعد جهدٍ رقم تلفونك.
وجد إبراهيم صديقَه ذاهلاً، مرتخيَ الجفنين، يتصبّبُ العرقُ من جبينهِ. ناداه فلم يَرُدّ أو لم يبدُ أنه سَمِع. أخذه الجزع إذ أدرك عقمَ العلاج الذي تفرضه المستشفى على صديقه.
وذكر الورقة التي كان حدَّثه عنها حمزة. وفي حركةٍ ثائرةٍ طرح عنه الغطاء الأبيض، وراح يفتّش جيوبَه فلم يجدها. ثم دسّ يده تحت الوسادة فوقعت على ورقة. أخرجها وقد عاود قلبه الخفقان. فبسطها وقرأ عنوانها «وصفة شعبية» وقرأ تحته لائحة قصيرة بأسماء مواد مختلفة ـ وقد لفته أنها معروفة مفهومة واضحة ـ تليها وصفةٌ مفصّلةٌ بعدد الجرعات ومواقيتها.
طوى إبراهيم الورقة وأودعها جيبَه. ثم حمل صديقه بين يديه ـ وكان مهزولاً خفيف الوزن ـ ومضى به، ورنا تتبعه في اضطراب، إلى خارج المستشفى.