- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

السلطة التي تمنع التدخين

طانيوس دعيبس

يكاد المشهد أن يكون سوريالياً : بدأ سريان مفعول قانون منع التدخين في لبنان ، بالتزامن مع امتلاء سماء الوطن الإخضر بدخان الكاوتشوك المحروق على مفاصل جميع الطرقات الرئيسية في البلاد ، جنوباً وشرقاً وشمالاً وفي العاصمة والضواحي.
إنها الحدود الفعلية لإمكانيات السلطة. حدود ما تستطيع أن تفعل وما لا تستطيع. وهي حدود بائسة بطبيعة الحال. فمنع التدخين يطال المواطن العادي. اما الطرق فسائبة لقاطعيها ساعة يشاؤون ، وقانونها هو التفاوض. وإعادة فتحها أمام المواطن العادي الممنوع من التدخين ، والمحجوز خلف نار دواليبها، فبالتراضي، وفي أغلب الأحيان ، بواسطة القوى المسيطرة على الشارع وليس بواسطة قوة الدولة وهيبتها.
أنا لست مدخناّ وبت كارهاً للتدخين، ولا أنتقد هنا قانون منعه. والموضوع هو في السؤال عن حدود قدرة الدولة الذي تطرحه المقارنة بين دخان السجائر ودخان الدواليب. وللسؤال جوابان في الخطاب السياسي. واحد يقول بضرورة القناعة بمحدودية الهوامش التي تستطيع السلطة التي في الحكم ( السلطات الفعلية خارجه ) أن تتحرك فيها. وبالتالي، علينا القبول بهذا الواقع ، على أساس أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان. وجواب ثانٍ مفاده عدم القناعة بمحدودية القدرة للدولة، وتحميل المسؤولين عن إدارة شؤونها ( السلطة التي في الحكم ) مسؤولية ترك الحبل على غاربه أمام المتسلطين على دورها والعباد.
الإشكالية التي يثيرها الجوابان هي في أن السلطة التي في الحكم مكونة من السلطات المتحكمة بالشارع. فكيف يمكن الفصل بين الجهتين؟ والإستنتاج المنطقي في توضيح الإشكالية يكون في ان الحدود لقدرة الدولة مرسومة بعناية من قبل أصحاب الحل والربط. فهذا مسموح وذاك ممنوع.. هذا بالمستطاع وذاك بالمستحيل. وعنوان هذا الإستنتاج هو العجز، إذا اعتمدنا حسن النية. والحكومة هي التي ترسم حدود هذا العجز لنفسها، انطلاقاً من اعتمادها لسياسة النأي بالنفس عن التصدي لواقع الداخل اللبناني المأزوم. وهو مأزوم بفعل عدم قدرة سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية في تحقيق مآربها المأمولة.
وهكذا نعود إلى فكرة تربيع الدائرة. إذ كيف يمكن النأي بالنفس عن الحدث السوري من دون معالجة انعكاساته الداخلية ؟ وإذا كانت هذه المعالجة تدخل في باب المستحيلات بالنسبة لقدرة السلطة التي في الحكم، أي قيمة لهذه القدرة يمكن أن يكسبها إياها منع التدخين؟ والأنكى، أن هذه السلطة نفسها تذهب إلى القاهرة لترؤس اجتماعات المجلس الوزاري العربي لمدة ستة أشهر، وهي الفترة المتوقع لها أن تكون الأقسى والأخطر في ما يتعلق بالأزمة السورية. فما هو الدور الذي يمكن أن يكون مفيداً أن تلعبه هذه الرئاسة في ظل الإنقسام اللبناني الحاد والمتزايد سخونة تجاه الوضع في سوريا؟ إلا إذا كانت قناعة الأكثرية الحكومية قضت بهذا القرار، استناداً إلى مصالح علاقتها بالحكم في سوريا. وبالتالي بكون مرة جديدة أمام تحديد مختل لقدرة الدولة. وهو غير مفهوم في كل حال. فهل سياسة العقلنة والتهدئة والتفاوض والتراضي ..إلخ. المعتمدة مع مظاهر التوتر الناتج عن انعكاسات الحدث السوري، تتجانس مع قرار إجلاس وزير خارجيتنا على رأس طاولة يتحكم بها شبه إجماع عربي على موقف من سوريا لا تعتمده الأكثرية التي يمثلها الوزير؟ ولو كنا قادرين على التموضع في موقع الوسيط لهان الأمر، بل لكان مطلوباً. فهل هذا هو المرغوب من قرار الترؤس، أم مجرد تثقيل لحجر يهدد بمفاقمة عطبنا؟
دخان السجائر سام وكذلك دخان الدواليب. فماذا عن القرارات المسمومة ؟ الإنطباع الوحيد الذي تخلقه هذه الممارسة هو أننا لا نزال داخل دائرة العجز والمراهنة. وفي الإنتظار، الأمن يزداد تدهوراً، والإقتصاد تتراجع مؤشراته دراماتيكياً، والسياسة تتدنى مستوياتها بما يثير الشفقة، والبلاد عالقة بين حكومة قادرة على منع التدخين، ومجلس نيابي غير قادر على إقرار موازنة، وطاولة حوار طموحها الأكبر أن تنعقد..