طانيوس دعيبس
في البداية أريد الإشارة إلى أنني سأكون شديد التحفظ في استخدام تعابيري في هذا المقال كي أتجنب سوء الفهم والتأويل الخاطئ…مع الإضافة إلى البداية، انني مقتنع جداً بالأهمية الكبيرة التي تكتسبها زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان، وبأهمية الإرشاد الرسولي الخاص بمسيحيي الشرق..
أما بعد..
الكاثوليك هم الأقلية بين المسيحيين العرب، أو المشرقيين كما تحلو التسمية. والبابا هو بابا الكاثوليك، فأين تكمن الأهمية؟ ما هي فعالية الزيارة وتأثير الإرشاد بالنسبة لبقية المسيحيين غير الكاثوليك؟ الجواب هو ربما في العاملين التاليين: موقع الفاتيكان في ميزان القوى الدولي ( ولو من دون دبابات )، وموقع لبنان في ميزان القوى المسيحي في المنطقة. وعلى هذين العاملين يمكن البناء في قراءة أبعاد الزيارة وانعكاساتها المحتملة.
لقد وصل الفاتيكان متأخراً إلى المقاربة الإيجابية للتحولات التي حصلت وتحصل في العالم العربي، وتحدث بلسان البابا عن ترحيب المسيحيين بالربيع العربي وعن الكرامة العربية المتجددة، داعياً بالمقابل إلى الحذر من مظاهر عدم التسامح، ومشدداّ خلال الزيارة وفي الكلمات وفي الإرشاد على خطر التعصب والأصولية عند كل الأديان، وطالباً من المسيحيين عدم الخوف من هذا التحوّل وبالأخص إلى تفعيل وجودهم بالمشاركة في إعادة البناء. وإذا كان من الدارج القول إنه خير أن تأتي متأخراً من أن لا تأتي أبداً، فمن المفيد الإشارة إلى التأثير المضاعف لهذا الموقف الجديد للفاتيكان لو أنه لم يتأخر إلى اليوم.
في المحصلة، نحن امام حركة تحوّل في موقف الكرسي الرسولي من التغيرات الكبرى الحاصلة في الشرق الأوسط، وفي الدول العربية بالأخص. وكنا بدأنا بملاحظة تباشير هذا التحوّل في خطاب الكنيسة المارونية على لسان البطريرك بشارة الراعي، الذي كان في بداية انتخابه يعبّر أيضاً عن موقف الفاتيكان في ذلك الحين، يوم كان الحذر والتوجّس من ثورات الربيع سائداً. فهل يعني ذلك ان الفاتيكان حسم أمره، وبات على قناعة بان مصلحة المسيحيين العرب هي في الإنخراط بمسارات التغيير الجارية في دولهم ومجتمعاتهم، وبأن وقوفهم ضدها أو النأي بنفسهم عنها سيهمّش وجودهم وسيعرضهم للمخاطر ؟ هل سينعكس موقف بابا الكاثوليك على مواقف بقية الكنائس الشرقية في العالم العربي ؟ هل سنرى تغييراً في موقف الأطراف المسيحية اللبنانية التي ناهضت حتى الآن ثورات الربيع واعتبرتها باباً من أبواب التآمر ؟ أم أن الكلام البابوي سيخضع للتاويل والتفسير بما يميّع مضامينه في سبيل تغليب المصالح السياسية المباشرة والآنية ؟
من المبكر، موضوعياً، الإجابة الواضحة على هذه التساؤلات. فالكلام والزيارة لا يزالا ساخنين. وتجربة السينودس من أجل لبنان الذي توّج بزيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى لبنان عام 1997، لا تشجّع على الإعتقاد بحتمية النتائج الإيجابية. غير أن العامل الإيجابي الذي يشكله ضغط الأحداث الكبرى على كل القوى والمكونات المجتمعية العربية، وعلى الأقليات فيها بطبيعة الحال، والمسيحيون من بينهم، يدفع إلى التقدير بأن النتائج هذه المرة لاتتمتع بترف الإستفادة من عامل الوقت. فالطاحونة تعمل بكامل قوتها، وعلى الراغبين بالطحين أن يكفوا عن الجعجعة. ينطبق هذا الأمر على المسيحيين كما على المسلمين، والمقصود هنا القوى السياسية المنظمة، وليس المؤمنين من الناس الذين لا يملكون سوى الإنجرار وراء ردات الفعل، ولا قرار لهم في مواقع الحل والربط. فإذا أرادت القوى المسيحية الكنسية والمدنية طحيناً، لا مهرب لها، بعد الزيارة البابوية وما حملته من مضامين جديدة، من الإنخراط في مسارات التغيير العربية اليوم قبل الغد، والذي بات ضرورة مزدوجة: لتفعيل حضور المسيحيين بدل الشكوى من تهميشه، وبالأخص لتفعيل مساهمتهم بتصويب مسار ثورات الربيع. ولا يحتاج إلى تبيان توقّع استفحال الأصوليات العنفية والتكفيرية والإلغائية، إذا استمر غياب هذه المشاركة ( وهي تعني كل الأقليات )، وإذا لم تخرج قوى الإعتدال الإسلامي من زاوية الخضوع لإبتزاز المتطرفين. والأمران، المشاركة ومواجهة الإبتزاز، وجهان لعملة واحدة.
الزيارة البابوية تحمل هذا المعنى في الجوهر والأساس : معنى التعامل مع التحولات الكبرى في الشرق الأوسط. وقد أوضحت بكل تفاصيلها كيفية رؤيتها لأطر هذا التعامل. ولا يغير في هذا الواقع فيلم معتوه ومشبوه، وردات فعل من صنفه.