“جمّول” في عيدها الثلاثين: لا للطائفيّة
في السادس عشر من أيلول عام 1982، وحين كانت قوات الاحتلال الاسرائيلي تغزو ثاني عاصمة عربية بعد القدس، انطلقت من بيروت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، التي تميزت بشباب وضع نصب عينيه مقارعة أقوى كيان عسكري في المنطقة من أجل تحرير الأرض والإنسان.
أهمية “جمول” كما نراها بعيون الحاضر المشحون بترهات الأديان ونزعاته الغيبية القاتلة، هي أنها مقاومة نبعت من وسط شبابي غير طائفي، وغير مذهبي، هدفها إزالة الاحتلال عن أرض لبنان. لا هي مشروع ديني يسعى للتمهيد لظهور مخلّص يأتي من عالم الميتافيزيقا، ولا هي امتداد دولي يسعى الى تحقيق مصالح على رقعة لعبة الشطرنج الجارية بين الأمم.
“جمول”، ببساطة، هي مشروع وطني علماني تحرري تحريري، يجمع بين تحرر الانسان من التخلف والأفكار الرجعية والسعي لتحرير الأرض بالكلمة والموقف والسلاح.
ولعل ما قامت به هذه الجبهة من عمليات نوعية واستشهادية في الثمانينات، بدءاً من عملية صيدلية بسترس في بيروت وصولاً الى عملية محاولة اغتيال قائد قوات الخونة انطوان لحد على يد المناضلة سهى بشارة، مروراً بعمليات نوعية واستشهادية عديدة سطّرها شبان لبنانيون، بقطع النظر عن ما أفشت به بطاقات هوياتهم من انتماء ديني او مذهبي، يؤكد هدفية هذا المشروع الذي لو قُدّر له الاستمرار لكنا أمام مشروع تحرري وطني بامتياز.
أسماء عديدة انضمت الى قافلة “جمّول” شكلت مع قوافل أخرى للحزب القومي السوري الاجتماعي وتنظيمات فلسطينية وإسلامية جبهة صلبة استنزفت المُحتل وساهمت في تمهيد الأجواء لتحرير الأرض أو الجزء الأكبر منها في العام 2000.
لكن المفارقة انه بعد العام 1990 انتقلت البندقية الى كتف حزب الله ونقل الكثير من الشيوعيين والقوميين بندقيتهم الى الكتف “الالهية”، اما بداعي الرجوع الى الايمان الديني، أو رغبة منهم في استمرار المقاومة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والتحولات التي شهدها العالم والمنطقة في غير صالح العلمانيين اللبنانيين المقاومين.
لقد تماهى النظام السوري مع التحولات العالمية وواصل لعبة تحجيم القوى العلمانية واليسارية في لبنان، في عملية امتداد واضح لما فعله نظام حافظ الأسد بالحركة الوطنية عام 1975. ورغم عدم الود الذي ساد في البداية بين دمشق وحزب الله والذي كانت نتيجته مجزرة ثكنة فتح الله ضد عناصر الحزب المقاوم في ذروة تألقه النضالي، ثم دعم حركة أمل لإضعاف حضوره في الجنوب، الا أن النظام السوري وبتفاهم مع طهران توصل الى أن أفضل وأقوى ورقة يمكن أن يلعبها ضد اسرائيل والمجتمع الدولي هي حزب الله، وبالتالي قامت المقاومة الإسلامية- وربما عن غير قصد- بتعزيز الأوراق الدبلوماسية والسياسية للنظام السوري من خلال عملياتها النوعية التي أدت في النهاية الى تحرير الجزء الأكبر من المنطقة المُحتلة في الجنوب، مقابل التسهيلات التي قدمتها دمشق للحزب لوجستياً وسياسياً. لقد تحوّل حزب الله ورقة رابحة في لعبة التجاذبات الدولية فتمكنت دمشق من أن تصبح قوة اقليمية يتهافت على بلاطها السياسيون من مختلف أنحاء العالم بفضل صمود المقاومة في جنوب لبنان.
من الواضح أن ضعف الحركات العلمانية واليسارية وتصاعد الموجة الدينية قد عزز من حضور حزب الله في الجنوب، وشكّل الغطاء المذهبي له احتضاناً شعبياً وبنية تحتية جعلته عصيّاً على الهزيمة. لكن في المقابل، كانت هذه الهوية المذهبية للحزب– وكما توضحت الأمور خلال السنوات السبع الأخيرة- نقمة عليه وليست نعمة له.
فلو أن المقاومة اللبنانية بقيت مقاومة علمانية يسارية، أو وطنية شاملة تجمع بين اطياف المجتمع اللبناني السياسية، لما تمكن أي طرف أن يستفرد بها أو يضغط عليها من منطلق مذهبي كما نرى اليوم.
لقد باتت مذهبية حزب الله هي سبب مقتله عاجلاً أو آجلاً. ولن يستطيع هذا الحزب، الذي عزّز مكانته المذهبية بمواقفه الداعمة للنظام السوري وأحدث قطيعة مع قوى إسلامية سنية ترى في نظام الأسد شراً مطلقاً، أن يعود الى تألقه كما كان في العام 2006 حين كان السيد حسن نصرالله مرشّحاً ليكون قيادة عربية بامتياز.
لقد خسر لبنان مقاومة وطنية لبنانية زرعت شجرة العز وسار أبناؤها نحو موتهم المُحتّم، لا طمعاً بجنة ولا خوفاً من جحيم، إنما لأنهم وجدوا أن حريّة شعبهم وكرامته تستوجب موتهم على مذبحه.
هذا هو الفارق الجوهري بين مقاتلي الأحزاب الدينية الذين يقاتلون من أجل مصلحة في عالم آخر عامر بالطيبات والملذات والنساء والخمر والعسل، وبين مقاتلين يعرفون أن جثثهم ستتحول الى تراب يوماً ما ولن يكون لهم لا حور عين ولا أواني من ذهب، ومع ذلك يذهبون نحو الشهادة من أجل أن يحيا غيرهم.
هنا تكمن أهمية “جمول” ومقاتليها وشهدائها وقياداتها الميدانيين الذين كان يمكن أن يكونوا نواة دولة مدنية تحررية لها كرامتها وعزتها بعيداً عن أدبيات المقدسات وووعود الكتب الصفراء.
فحصر المقاومة بجهات دينية، جعلها مشروعاً قابلاً للانهزام تحت ضغط أي فتنة مذهبية أو طائفية. لكن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وبعد ثلاثين سنة على انطلاقتها المجيدة لا تزال تدخل الى كل بيت في لبنان أو العالم العربي، من دون أي حساسية طائفية أو مذهبية، إنما هي شجرة جذورها راسخة في أرض طيبة ووسط شعب طيب ومناضل، وأغصانها وارفة تظلل كل إنسان مُضطهد مُشرّد محروم ومظلوم. شجرة جمّول تحمل اغضانها ثماراً كُتب على كل حبة منها “لا للطائفية”.