«الملهمات» رواية بارزة لـ«فاتحة مرشيد»
يمكن اعتبار الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد من خلال روايتها الاخيرة “الملهمات” واحدة من قلة من القصصيين العرب الذين يحولون العمق الفكري والنظرية النفسية -وهما سمتان بارزتان في عملها- الى شأن قصصي ناجح مؤثر.
في هذا العمل لم تصفع فاتحة مرشيد القارىء بنظرية بقيت معلقة في فضاء الرواية بل حولت معطيات علم النفس الى واقع سردي عميق وممتع.
تخلق الرواية في النفس متعة رائعة وترفع الحالة الروحية عند القارىء الى اعلى في عمل مميز دون شك.
وردت الرواية في 205 صفحات متوسطة القطع وصدرت عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء وبيروت.
تكتب فاتحة مرشيد روايتها بما يشبه الشعر. انها تخاطبه وهو في غيبوبة في المستشفى. في استهلالها للرواية تقدم ببراعة مختصرا شعريا لكثير مما جرى في حياتها بل زبدة حياتها مع زوجها.
تبدأ بالقول “لا اعلم اذا كنت تسمعني ام لا .. على وجهك سكينة من تعدى مرحلة القلق واستسلم لقدره.. مخلفا ترف القلق لي. لا يعلم الاطباء ولا الشيطان نفسه يعلم ان كنت ستستفيق يوما من غيبوبتك لتستأنف حياة تشبثت بها بكل كيانك.
“كثيرا ما تمنيت ان تسمعني.. ان اتكلم.. ان افرغ ذاتي. لكنك تحب الابواب المغلقة بإحكام تخلق وراءها حياة لا تزعج حياتك وتستقر في الغموض. كم وددت ان اكون شفافة امامك.. عارية الروح.. وكان العري اشد ما تخشاه. امضينا ثلاثين عاما بثيابنا.. بأقنعتنا واحدا جنب الاخر.. زوجين مثاليين لا جدال ولا مشاجرة. تمثالين نزين بهما ذكرنا ونحرس السلالة. تمنيت لو يصهرنا العوز او الجوع.. لو تحتاجني فأظهر شهامتي وارتباطي.. لكن بيننا خدم وحرس وسائق وطباخ ومربيات للاطفال. بيننا سيارات عددها اكثر من عدد افراد الاسرة. بيننا مسافات ابعد من رحلاتك.. وصمت.. صمت.. صمت.”
وفي غرفة المصحة خاطبت عمر زوجها قائلة “اكان لابد ان تدخل في غيبوبة حتى انفرد بك؟ اكان لابد ان تهينني ليعترف الجميع بأنني زوجتك؟ فتختفي العشيقات كما لو بعصا سحرية.. وكان لهن منك الصحة والفرح ولي منك المرض والحزن.
“لا لست حزينة عليك.. بل حزينة على نفسي.. مجبرة على لعب دور البطلة العاقلة.. على حفظ ماء الوجه.. نعي عشيقة ماتت في حادثة سير لتحررك منها وتهديك اياي لا حيا ولا ميتا وأصرح امام الجميع: المسكينة كانت صديقة حميمة وانا السبب في وجودها في سيارة زوجي. لا لست حزينة عليك.. ومن فرط حزني على نفسي قررت ان اطلق صرخة مكتومة منذ امد بعيد.”
لعل الشخصيتين الرئيسيتين في الرواية فضلا عن عمر بل يمكن القول اكثر من عمر هما شخصية الزوجة امينة وشخصية صديق الزوج ادريس.
الاستاذ ادريس “الكاتب الناجح” يتذكر صديقه عمر الذي صدمته شاحنة فقتلت رفيقته وتركته في غيبوبة. نفهم ان عمر كان ناشرا من نوع مختلف “لم يكن عمر كاتبا كان حاضنا للكتب والكتّاب.. يتذوق الشعر ويعيش القصص ويتماهى مع اشخاص الروايات.”
كان يقول لادريس “تلزمك روح فوضوية.. اذهب بعيدا.. حاول ان تغور في المناطق المعتمة.”
يكتب ادريس عن نفسه فيقول “انا صنيع كل النساء اللواتي عبرن حياتي.. ها انا استيقظ اذن لاكتشف ان المصيبة تكمن في صفاء ذهن يحاول ان يفهم لاجل الفهم فقط اذ لم يعد بمقدوره تغيير شيء.”
امينة زوجة عمر تعيش مع حماتها المصابة بمرض الزايمر. تقول امينة “يا لحظها. انها مثل ابنها تنعم بالنسيان.” شكل مرض حماتها سببا اضافيا لغياب عمر عن البيت. كانت تلاحظ عذابه كلما سألته امه عن اسمه وهويته.
تقول امينة ان امها ماتت مبكرا وحماتها ماتت مجازا ولديها زوج ميت مع وقف التنفيذ. تقول عن نفسها “انا لست حية ولا ميتة انا مجرد كيس من الهرمونات ترهل مع الزمن.” كرست نفسها لسعادته وتخلت عن كل احلامها لينجح هو. تخلت عن عملها. وبعد كل شيء لم تطلب الطلاق ولا اثارت فضيحة.
ننتقل الى ادريس الذي لا يحسن الكتابة الا في لحظة ممارسته الجنس. تحدث عن العلاقة الملتبسة بين فعل الحب وفعل الكتابة هو ينتهي من ممارسة الحب ليبدأ الكتابة عاريا.
تزوج هناء التي احب واستطاع ان يجعلها “تحس بالفخر كطرف في عملية الابداع.” وكانا يجددان دائما لان “التكرار عدو الابداع والضجر بداية النهاية.” لكن هناء ما لبثت ان ماتت بالسرطان.
نعود الى امينة التي تعرف كل مغامرات زوجها والتي تسأل نفسها “لماذا لم ارحل؟ لماذا لم اطلب الطلاق؟ لماذا كنت اتشبث بك اكثر كلما دخلت في علاقة مع اخرى. والان بعد ثلاثين سنة اكتشفت ان لديه شقة سرية” تقول له رأيها وهو في غيبوبة. تعترف له بأنها اقامت علاقة مع فنان فلسطيني. وبدا لها انها رأت حركة من سبابة يده.
اما ادريس فقد بقي في علاقاته خاصة مع اللواتي يردن ان يصبحن اديبات ويلجأن اليه. الا انه اصيب بسرطان البروستاتا واجريت له عملية جراحية وانتهت مغامراته هنا.
وفي بعض ما يفسر لنا نظرته الى النساء يروي لنا اكتشافه ليلة العزاء بوالده ان هناك علاقة جنسية بين امه وبين المربية دادا الغالية. امتلأ نقمة وغضبا وكتمانا. يقول عن نفسه ان في علاقته بالنساء ازدواجية.. كأنه شخصان اثنان واحد عاشق من نار والاخر “مراوغ لئيم.. يتضور جوعا للنساء ولا شيء يشبع شهيته الا مؤقتا لكن يعصره الشك في صفائهن ونقاء سريرتهن فيستغلهن لمصلحته ويرمي بهن كعود ثقاب اشعل وانتهى.”
بعد اعترافات امينة لعمر حرك يده وفتح عينيه ونظر اليها وقد اغرورقتا بالدموع كمن يستغفرها. كان الاستاذ ادريس معها عندما حدث ذلك. حضر الاطباء يسرعة لكن عمر مات بعد الاستفاقة. اختفى ادريس ولم يظهر له اثر. بعد مدة من الزمن تسلمت امينة التي تولت ادارة شركة النشر رسالة مع مخطوطة.
كانتا من ادريس والرسالة موجهة الى القراء يقول لهم فيها “اذا كنتم من المعجبين بكاتب ناجح وتحبون ابداعه.. فلا تحاولوا التقرب منه والتعرف اليه شخصيا لان النتيجة الحتمية هي اصابتكم بالخيبة. والسبب هو ان القراء يضعون هالة فوق رأس الاديب بينما هو انسان فقط مثلهم. ومن الممكن ان يكتشفوا انه لا يكتب سوى ما ينقصه وانه انسان يكمل حياته البائسة بحيوات شخوص يبتكرها ويعيش عبرها.”
وفي اشارة الى العلاقة عنده بين الكتابة والجنس قال ان هذه المخطوطة هي اخر عمل له. قررت امينة نشر المخطوطة فورا.
قراءة ممتعة مميزة ونادرة دون شك