البوَّابة ذاتُ الدَّرفات الأربع (قصة 8)
بقلم عصام حمد
توقَّفَ بلُّوطةُ، الحارسُ العجوزُ، في ساحة القرية أمامَ بوَّابةٍ صغيرةٍ ينفرجُ عنها إلى الجانبينِ جداران مُمتدَّان- مُتنبِّهاً إلى واجب حراسة البُستان الذي تنفتح عليه.
اثنتا عشرَةَ سنةً انقضتْ والبوَّابةُ هذه تحتَ ناظرَيه، يرمُقها بقليلٍ من الاهتمام في جيئتهِ وذهابهِ بالساحة قُبالتَها، حتى شدَّتْ كُلَّ اهتمامهِ الآنَ بتصميمها العجيبِ الإغراء كأنَّما عُنِيَ بها أن تقولَ للمُتأمِّلِ: “ادخُلْ إلى بستاني تَطعَمْ ما تشتهي”. فسَوَّى الحارسُ قَلَنسُوتَه المُنقَّطةَ على رأسه، وضَربَ الأرضَ بعصاهُ العتيقة، ووقفَ مُستنداً إليها، حاجباً البوَّابةَ عن عُيون المارَّةِ وهو يُدمدم في وعيدٍ: “ليس لكلِّ امرئٍ أن ينظُر إلى البوَّابة، ولا لكُلِّ ناظرٍ إلى البوَّابة أن يدخُلَ إلى البُستان”!
ومرَّ بالساحة في اليوم التالي صاحبُ البستان أبو عِنَبة. وهو رجلٌ في الأربعينَ من عمره، مُنتفخٌ من بدانةٍ، يغدو بعباءةٍ خضراء مُخطَّطةٍ بالأبيض. فاستوقفَه الحارسُ بلُّوطةُ وقال له مُحذِّراً:
_ بستانُك يا أبا عِنَبة- ببوَّابته الجذَّابة هذه- عُرضةٌ لأولاد الحرام يغزُونَهُ في ساعة الغفلة.
نظر الرجُلُ إلى بوَّابته الصغيرة مُستغرباً قلقَ العجوز. فأضاف الأخيرُ كالحانق:
_ لا يبدو أنَّك ستَنصبُ السِّياجَ حولَ بستانك.. (ثم قال كأنَّه يُحدِّث نفسَه).. ولا تستطيع أن تتركَ شُغلَك لتحرسَه.. ( ثم صاحَ في مِنَّة).. سأتولَّى حراستَه بنفسي!
فقطَّب أبو عِنَبَةَ قائلاً بجفاءٍ وهو ينصرف:
_ لستُ بحاجةٍ إلى حراستك. فقد بنيتُ البوَّابةَ على الصلابة.
بعد حوالي السنة، في عصر يوم صيفٍ، عَبَرَ الساحةَ الحارسُ بلُّوطةُ في تجواله الدائم، فرأى بوَّابةَ أبي عِنَبة وقد اعترشَت عليها ومن حولها عُلَّيقةٌ تكاد تحجُبها عن الأنظار حتَّى لَيتيقَّن المُتأمِّلُ أنَّ البوَّابةَ الصغيرة إنَّما تُخفي وراءها في البُستان سرَّاً مُثيراً ينطبقُ عليه مِصراعانِ مُزدَوِجان! تلفَّتَ العجوزُ فوجد بالساحة صبياناً يلهُونَ ويتصايحُون. أحَدَّ بصرَه من تحت قَلنسُوته المُنقَّطةِ فلمحَ صبيَّاً منهم يُلاحظُ البوَّابةَ في تلصُّص. هزَّ الحارسُ رأسَه ومضى.
في المساء- والساحةُ خالية- تسلَّقَ زَعرورٌ السُّورَ، ومدَّ يداً مرتجفةً إلى العُلَّيقة فوقَ البوَّابة. وإذا بيدٍ غليظةٍ تصفعُ قفا الصبيِّ، وصوتٍ أجَشَّ يصيحُ به:
_ ملعونٌ أبوك.. ما هذا العبث؟
رمَى زعرورٌ بنفسه عن السُّور، وانطلقَ يعدُو بقفاهُ المُحمَرِّ- في يدهِ حَبَّةٌ من العُلَّيقة، وبذراعه خَدشٌ طفيفٌ من بعض أشواكها.
ولم تنقضِ السنة التالية حتى قالت الستُّ سَفرجَلة في صُبحيَّةٍ لنساء القرية بالساحة تحت السنديانة العتيقة:
_ بوَّابة أبي عِنَبة.. تَعرِفنَها.. البيضاء.. وَشوَشَني بلُّوطةُ الحارس أنَّه ليلةَ أمسِ بينما كانت البوَّابة مفتُوحةً لصرفِ ماء الرِّيِّ المُبتَذَل من الخزَّان- ضبطَ الولدَ موزة، ابنَ جارتنا رُمَّانة، وهو يحاول التسلُّلَ إلى البستان!
قالت ذلك سفرجلةُ بصوتٍ خفيضٍ هو أدعَى الأصواتِ إلى الانتباه. فشهَقت النسوةُ- المُجتمِعاتُ حولَ رَكْوَة القهوة- وأعينُهنَّ تتَّسعُ سُروراً بالخبر. وهتفَت الآنسةُ تينةُ ولمَّا تَضُمَّ شفتَيها الحمراوَينِ على الرشفة الأخيرة من فنجانها:
_ قلتُ في سِرِّي إنَّ ضَلفتَيْ تلك البوَّابة لن تَظلا مُنطبِقتَين طويلاً في انتظار مَن سيكتري البُستان!
زَمَّت الخالة بُرتُقالة شفتَيها وهي ترمُق تينةَ باستياء. أما الآنسةُ كرزةُ التي كانت مُنشغلةً بالأحمر تصبغ به شفتَيها الرقيقتين في مرآةٍ بيدها، فتساءلت من وراء المرآة:
_ وهل أخصبَت تُربتُه؟
فأجابت برتُقالةُ- وهي جارةُ أبي عنبة- مُنشرِحةَ الصدر:
_ نعم! في الشهر الماضي فاضت بركتُه الكُبرى حتَّى لطَّخَ الوحلُ الأحمر البوَّابة.
واعترفت الستُّ سَفرجلة بسِحنةٍ مُستديرةٍ صفراء:
_ لا أرتاحُ إلى ترك هذا البُستان سائباً.. كثيراً ما لحظتُ زوجي يرنُو إليه من بعيدٍ وهو يبتلع غُصَّةً، مُتمنِّياً لو يستطيعُ اكتراءهُ ليزرعَه بديلاً عن بُستانهِ الذي أنهكه ولمَّا يُقدِّمْ له ثمرةً واحدةً تهنأُ بها مائدتُه!
* * *
دامَ قلقُ الستِّ سَفرجلةَ ثلاثَ سنواتٍ تقدَّمَ في ختامها من صاحب البُستان أبي عِنَبةَ شابٌّ طيِّبٌ يُدعى جَزَرة، جاء ظُهراً بصُحبة أبيه وأُمِّه. فاستقبلهم الرجلُ على مائدة الغداء في شُرفته المُطلَّة على الساحة. وقال أبو جَزَرة بعد أن مدح المائدةَ كثيراً وأثنى على تشكيلة الخُضار والفاكهة:
_ يرغبُ ابني في اكتراء بُستانك الكريم.
فدهِشَ أبو عِنبة، وقال:
_ أليس من المُبكر اكتراءُ البستان؟.. أعني أنَّ الموسمَ لم يأتِ بعد!
فقال أبو جَزَرة ببساطة:
_ بلادُنا حارَّة والموسمُ قريب. نُعلن الموافقةَ اليوم، ونقرأ الفاتحة عند الشيخ زيتُونة، ونُؤجِّل الاكتراء والدفع والتسليم..
فقالت أُمُّ جَزَرة بابتسامةٍ صفراء:
_ ابني مُستعجل، وأبوه لا يُطيقُ صبراً!
فاستدارَ أبو عِنَبة على الكُرسيِّ مُغالباً بدانتَه ليُلقيَ نظرةً إلى بستانه. فبدا له فائراً بالخُصوبة حقَّاً. تأمَّله مليَّاً في حزن، مُتذكِّراً امرأتَه الراحلة التي كان البستانُ الصغير وصيَّتَها الأخيرة.. ثم التفتَ إلى الشابِّ بارتياب. فبادرَهُ هذا بأدب:
_ أعدُكَ يا عمِّي أن أتعهَّدَ بُستانَك بالعناية التي هو بها جدير.
أمَّا الحارسُ بلُّوطةُ فقد تساءل هامساً لبعض جُلسائه عصراً بالساحة وهو يزفُّ إليهم الخبرَ السارَّ:
_ هذا المدعُوُّ جَزَرة.. كيف رأى بُستانَ أبي عنبةَ فأعجَبه وأنا لم أغفلْ لحظةً عن مُراقبته؟
ثم تنهَّدَ وهو يقولُ دفعاً لاتِّهامه بالنوم- كما يُحكى بالقرية- كلَّما طافَ بالساحة نسيمٌ عليل:
_ إنَّهم أولادُ هذه الأيَّام.. مهلاً! أظُنُّني رأيتُ ليلةَ أمس- فيما يرى النائم- الولدَ فُطْراً يحاول أن يندسَّ برأسهِ في مَكَبِّ مُخلَّفات البُستان النباتيَّة.. ثم صَحوتُ على رائحتها! فما تأويلُ ذلك يا تُرى؟
وتفتَّحت بعد ذلك عينُ بلُّوطةَ على الشابِّ الذي كان يجلسُ الساعاتِ الطِّوالَ كُلَّ يومٍ- قبلَ تسلُّمهِ بُستانَه- إلى جانب البوَّابة، غاضَّاً الطَّرفَ، يُلاحظُها من آنٍ لآخَرَ في جزَع. ويتحدَّثُ الحارسُ في الساحة قائلاً لجُلسائه بصراحة:
_ هل تظُنُّونَ أنَّ جَزَرةَ لم يُغافلني مرَّةً ويمُدَّ يدَهُ إلى البوَّابة كي يمتحنَ صلابتَها في الحفاظ على بُستانه الموعود؟!
ويضحكُ حتَّى تهتزَّ أطرافُه جميعاً، ثم يقول:
_ مساء غدٍ سيستلمُ بستانَه في حفلٍ كبير هنا بالساحة.. ألم تُدعَوا إليه؟
* * *
بَرزت البوَّابةُ للمدعُوِّينَ في أبهى زينة:
هذَّبَ المِقصُّ ما تدلَّى من عُلَّيقتها تاركاً لها بعضَ الأغصان تُغطِّي شَعِيرَتَها. وعلى أساسٍ من الأبيضِ مسَحَت الفرشاةُ ضلفتَيها بالورديِّ، وكحَّلَت طرفَيها الأعلَيَيْنِ بالأسود، وخطَّطَت حافَّتَيها المُنطبقتَينِ بالأحمر البرَّاق. ثم علَّقَ المُزيِّنُ على جانبيها فانوسَين كبيرين مُتوهِّجَين، وطوَّقها بسلكٍ من الفوانيس الصغيرة المُتلألئة، وتوَّجَها بقوسٍ من الورود البيضاء المرصُوصة.
وجاء جَزَرةُ في جماعةٍ من أصحابه- بسَراويلهم الفضفاضة الخضراء منها والحمراء- يُغنُّون:
جينا وجينا وجينا جبنا جزرة وجينا
كرمال عيونه الخضرا خلُّوا الأرض تلاقينا
ولاقتهم الخالةُ بُرتقالة من جانب البوَّابة البهيَّة:
آويها.. أرضنا خصبه قَدَر ما تتأمَّل
آويها.. وما حدا ضرب فيها معول
آويها… وإنْ كان جزرة بيستاهل
آويها… أرضنا مخلصة وما بتتحوَّل
ولَعلَعت النِّسوةُ بالزغاريد. وحاكاهُنَّ الصِّغارُ عُنَّابة وتُفَّاحةُ وموزة وباذنجانةُ وزعرورٌ ودرَّاقة ولُوبياء وعرنُوسٌ في صَخَبٍ من الضحك والتهليل. فرفَع الأصحابُ الفلاحَ على الأكتاف حتى أوصَلُوه إلى بوَّابته.
وقفَ جَزَرةُ إلى جانب البوَّابة- في بدلةٍ حمراء، وقُبَّعةٍ خضراء ذاتِ شُرَّابة، وربطةِ عُنُقٍ بُنيَّة- يتبسَّمُ لأهل القرية وقد ملأوا الساحةَ إحياءً لتقاليد اكتراء البساتين. أبو جزرة هزَّه الطربُ ففكَّ أزرارَ قميصه الأخضر المعروق كاشفاً عن صدره الأبيض الخشِن، ومدَّ يدَه إلى زوجتِه أمِّ جزرة- وكانت تتسمَّع إلى مُجاملة الستِّ سفرجلة- فشدَّ عليها ضاحكاً، وهتف:
_ إلى الدَّبكة!
أمسكت اليدُ باليدِ، واشتدَّت القاماتُ، وارتفعت الأقدامُ وهَوَت على الأرض بإيقاعِ رقصة الدبكة الشعبيَّة على أنغام المزمار تحتَ أنوار المصابيح المُتوهِّجة التي عُلِّقت بالسِّندِيانة. وتراءى أبو عِنبةَ حاشِراً جسمَه الكُرَوِيَّ بين الساهرينَ يتقبَّلُ التهانيَ في سرورٍ ظاهر. بيدَ أنَّ بلُّوطةَ الحارسَ لم تخفَ عليه نظراتٌ من الرجل إلى بستانه فيها الكثيرُ من الأسى، حتى أنَّ الحارسَ الحكيمَ قال في نفسه: ما أجدرَه بالتعزية! ولمَّا مَرَّ به رَبَّتَ على ظهره مُواسياً..
على أنَّ الدبكةَ لم تخلُ من حوادثَ سيرويها بلُّوطةُ كثيراً في الصُّبحيَّات والعَشيَّات بالساحة:
الستُّ بندورةُ، انضغَطت بين أكتاف العمِّ بطاطا والحاجِّ قَرعة، فكادت تنفَزِرُ لولا أن صرَخت صرخةً خَرِسَ لها المِزمار!
الستُّ بقدونسة، داسَ خيارةُ على رِجلها الرقيقة، فوقفت في وسط حلقة الدبكة- يداها على خصرها المضمُوم بزنَّارٍ بُنِّي من الخيش- وجعلت تكيلُ له الشتائمَ، وخيارةُ يتراجع مُعتذراً، حتَّى شدَّتها أُختاها الستُّ نعنعةُ والحاجَّةُ كُزبرةُ من يديها، وهما تقولان لها في تأنيب:
_ حرام عليكِ.. قطَّعتِ الرجلَ شَرحاتٍ!
فردَّت بقدونسةُ وقد انتفَشَت من الانفعال:
_ ذلك لأنَّه يستحقُّ أن يكون في طَبَقِ سَلَطة، لا بين الناس!
أما الذي سَيَشِي به بلُّوطةُ للشيخ زيتونة- لدى بُكوره بالساحة في طريقه إلى المسجد- فهو زبيبةُ، العجوزُ الأجعدُ:
_ أُقسم بالله يا شيخَنا رأيتُه يدور على الساهرين يبيعُهم خُفيةً كُؤوسَ النبيذ.. فيختفون وراء ظهري هُنيهةً، ويجرعُون النبيذَ الحرامَ على عَجَل، ثم يُواصلون السَّمرَ في انشراح!
_ ومن هم أولئك الأشقياء؟
_ فولةُ وثومة وكوسا وخُرنُوب!
امتدَّت السهرةُ إلى الفجر، حتَّى غادر الساحةَ آخرُ القرويِّين. وأنزلَ بلُّوطةُ المصابيحَ قبل أن يخلدَ إلى النوم مُتعَباً، مُتزوِّداً لغدٍ بأخبارٍ مُثيرةٍ، أخطرُها أنَّه رصدَ- والكلامُ في سِرِّك- بين المُحتفلينَ نظراتٍ وهمساتٍ أنبأتهُ بأنَّ بساتينَ كثيرةً بالضيعة ستُكترى في الأيَّام المُقبلة؛ منها الآنسةُ تينةُ التي رآها لوزةُ- تلتمعُ شفتاها الحمراوانِ بالعسل يقطُر منهما، فطَقَّ قلبُه القاسي عن قلبٍ آخَرَ أبيضَ غايةٍ في الرقَّة! والآنسةُ كرَزَةُ كانت مُتلفِّعةً بخِمارٍ أسودَ بَدَت به في حَلاوةٍ داخَ لها رأسُ بصَلة! ولكنَّ الآنسةَ كيوي الإفريقيَّةَ السَّمراء خَبَلت- والله أعلمُ- شَمَندرةَ، زوجَ الستِّ سَفرجلة، فلم يَزَل الرجُلُ يتدحرجُ وراءها أينما كَرَجَت في الساحة المُكتظَّة، وهو ينثُر عليها السُّكَّرَ من قلبهِ، حتَّى شدَّتهُ سفرجلةُ من رقبتهِ وتوعَّدتهُ بالعصر. فهمسَ لها ضارعاً: ليس هنا.. في البيت، في البيت!
لم يُصدِّقْ جَزَرةُ أنَّه خلا أخيراً ببوَّابة بُستانه في ضوء الفجر الشاحب.
وقفَ أمامها بشيءٍ من الرهبة. ذلك أنَّه- على إلْفهِ لها- لم يرَها عن قُربٍ إلا الساعةَ. وخُيِّلَ إليه أنَّها- وكأنَّما تخشاه- قد أطبقت ضَلفتَيها دونَه! ولكنَّ ذلك أشعرهُ بالزُّهُوِّ، وبدَّد ما كان به من رهبة. فليأخُذها بالرِّفق- على قَدرِ ما تسمحُ به خفَقاتُ قلبه المُتسارعة! وسحَب جزرةُ مِعولَه، فرفعَه بتُؤدة- يلتمع معدنُه في ضوء الشمس الآخذةِ في الشروق. دسَّ رأسَ المعولِ المُستدِقَّ بين الحافَّتَين المُنطبقتَين، ودفعه. أصدرت البوَّابةُ صريراً عالياً إذ فرَّجَ الفلاحُ المِصراعَين الصغيرين، فطواهما على المِصراعَين الكبيرين، ودخل.
دخل بالمعول على كتِفه وقد علَّقَ بطرفه جَرَّتينِ طافحتين بذُوراً وماءً. واجَهتْهُ ياسَمينةٌ بأغصانٍ مُتشابكةٍ وزُهورٍ نَديَّة. فأخَذَ يشُقُّ بالمعول لنفسه سبيلاً من خلالها بشيءٍ غيرِ قليلٍ من العَناء:
“يبدو جليَّاً أنَّ أحداً لم يدخل قبلي!”
وغَمَرت الفلاحَ نداوةٌ مُنعشة. فتشدَّدَ، وتقدَّمَ بمعوله في ثَبات. ولكنَّهُ انزلقَ فجأةً، وهَوَى إلى الأمام على عُشبٍ انثَنى تحتَ بطنهِ أملسَ ناعماً. تلقَّفتهُ- في بداية مَمَرٍّ ضيِّقٍ- داليةٌ مُزدوِجة، ضَمَّت عليه جِذعَيها يحصُرانِ جنبَيه ويُهدِّئانِ من انزلاقه، وفَرعَيها يحتضِنانِ كتفَيه ويَستزيدانِ من دخوله- وأوراقُها تُدغدغُه في انسيابهِ اللطيفِ حتَّى انتهَى إلى عُنقُودٍ من العنب الأحمر؛ قدَّمتْهُ الداليةُ إليه، وعزَمتْ عليه:
_ كُلْ هنيئاً، حلالاً طيِّباً مريئاً!
مدَّ الفلاحُ يدَه وقطَف العُنقود، فارتعَشت لقطافهِ الأغصانُ؛ حبَّةً حبَّةً انتقَى وأكلَ، ثم جمَع وعصَرَ، ثم شَرِبَ وسَكِرَ حتَّى مادت تحتَه الأرضُ، فجَزِعَ.. وإذا جُذورُ الدالية الدقيقةُ تبرزُ من الأرض فتنغرزُ في جلده، وتتغلغلُ في لحمه مُشتبكةً بأعصابه.. وتأخذُه رِعدةٌ ينتفضُ لها جسدُه انتفاضةً مُذهلةً ارتخَتْ لها قبضتُه عن المِعول الذي يحمله، فاندلَقت الجرَّتانِ بالأرض..
وينقلبُ جَزرةُ، فينطرحُ على ظهرهِ- مُمتلئَ البطنِ، شَبعانَ.. ولكنْ دُونَ ما تُخمة!
* * *
ويدخل جَزَرة ويخرج كثيراً في الأيَّام التالية- لاهثاً بالجهد المُتصبِّب عرَقاً ومُتعة. يُلاقيه بلُّوطة بالساحة، فيرفع له قلنسُوتَه عن صَلعته السَّمراء، قائلاً في احترام:
_ عافاك الله!
فيتبسَّم الشابُّ وهو يتخلَّل شُرَّابتَه الخضراء بأصابعه، ويجلس تحت السِّندِيانة يُحدِّثُها عن عهدٍ مضى كان فيه مُستولياً على أرضٍ سائبةٍ- في غفلةٍ من صاحبها- يَضرب فيها بمِعولهِ، فيَفلقُ صخرةً هنا، ويَشُقُّ ثَلماً هناك. ثم ينثرُ بذُورَه شَذَرَ بَذَرَ، فتقع في غالب الأحيان خارجَ حدود الأرض!
_ أنتَ تزرعُ في أرضٍ صخريَّةٍ تضيعُ فيها بذورُك سُدى.
هكذا كان يقول له والدُه مُؤنِّباً. ثم ينصحُه باكتراء أرضٍ طيِّبةٍ تُنبتُ له من الثمَرات ما يَملأ عليه بيتَه.
ويروي بلُّوطةُ كلَّ يومٍ في مجالسه الصباحيَّة بالساحة نوادرَ من عناية الشابِّ المُفرطة ببوَّابته وبستانه، فيقول ضاحكاً وهو يفرُك يديه:
_ تصوَّروا أنَّه يُشذِّب العلَّيقةَ بنفسه في حُنُوٍّ شديد، فيجعلُها على هيئة مُثلَّثٍ مقلوبٍ يُشير رأسُه إلى المدخل!
أو يُوشوِش بخُبث:
_ لو رأيتُموه مُقبلاً على ضَلفتَي البوَّابة يُقبِّلُهما مشغُوفاً، أو يُداعبُ بأُنمُلته بُرعُماً برَزَ من فوق، بين أوراق العُلَّيقة، فلا ينفكُّ عنه حتَّى يتفتَّحَ ويُزهرَ ويُثمر!
ويضحك الشبَّانُ تحتَ السنديانة ضحكاتٍ عاليةً مائعة، وتعكس أعينُ الشيوخِ حسرةً، وتبتسم النِّسوة وهُنَّ يُغضينَ لمُداراة تألُّقِ أعينهنَّ.
* * *
كان الفلاح الشابُّ يحفرُ أرضَه، ويُلقي بذورَه.. على الفِطرة، من دون أن يستنيرَ بعلمٍ أو خبرة. وإذ شكا يوماً لبلُّوطةَ أنَّ بستانه لمَّا يحملْ ثمرةً واحدةً على مُرور شهورٍ عديدة، نصَحه الرجلُ باستشارة تامرٍ البستانيِّ، المُهندس الزراعيِّ:
_ ما أشرف هذا المهندسُ على أرضٍ قاحلةٍ إلا أثمرَت على يدَيه.
وحضر المهندسُ تامرٌ البستانيُّ في الموعد المضروب- حاملاً حقيبتَهُ، ملفُوفاً برُوبه الأبيض لفَّاً مُحكَماً حولَ كرشِه المُنتفخة. أباحَ له الفلاحُ بستانَه على شيءٍ من الكره والضيق. غيرَ أنَّ تامراً كان ذا مهنيَّةٍ لا تخونُها نظرةٌ من وراء نظَّارته السَّميكة. أخذ بيد جزرةَ ليدخلَ به البُستانَ، فيُعرِّفَه ما يجهلُ من أمره؛ جازا بعدَ البوَّابة ممرَّاً ضيِّقاً مُعشوشباً يمتدُّ صُعُداً، يعهدُه جَزَرةُ جيِّداً- وإنْ أنكَرَه لحظةً لغياب الدالية الشَّهيَّة- لكنْ ها هي ذي الياسمينةُ التي خَرقتُها لا يزالُ لها بعضُ الأغصان المُزهرة..
_ احذرْ أن تَزلَق!
_ ن.. نعم!
وارتقى جزرةُ وراء المُهندسِ هضبةً، فإذا بالرجُل البدينِ يتخطَّى تجمُّعاً للجذُور في سَفحها، فيَلفتُ بذلك نظرَ جزرةَ إليها. إذ ذاك يقول تامرٌ باقتضاب:
_ ركِّزْ على هذه النُّقطة.
لم يستوضِحهُ جزرةُ، لحياءٍ تولاهُ من جهله المُطبِق. فهزَّ رأسَه مُوافقاً!
بلَغا مَضيقاً أدَّى بهما أخيراً إلى البستان.
شعرَ جزرةُ بحنينٍ لا يستطيع تفسيرَه إذا ما بثَّه المهندسَ تامراً الذي راحَ يجُول به في أنحاء البستان- مُتحدِّثاً عن طبقات أرضهِ الثلاث.. وألفَى جزرةُ نفسَه يبتهلُ في سِرِّه قائلاً- كأنَّه يُردِّد كلاماً هُمِسَ به في أُذنه:
ها أنا ذا أعود، فأقعُ بأرضكَ أيُّها البستان.
أفنى في تُربتكَ فداءً لبذرتي وغذاءً لها.
فتقبَّلْها، ووَطِّئْ لجذُورها في أحشائك الدافئة.
واحمِلْها، من ثَمَّ، للساحة ثمرةً جديدة..
وأشارَ المهندسُ نحو أكَمةٍ إلى اليمين وسألَ الفلاحَ:
_ هل تعرفُ ماذا وراء هذه الأكَمة؟
وأخذ بيده وهو يهزُّ رأسَه هِزَّةَ العارفِ إزاء الوجهِ المُتسائل. فارتقَيا درباً وعِرةً خلالَ الأعشاب العالية حتى وجد جزرةُ نفسَه عند جذع شجرةٍ عظيمةٍ مُثقَلةٍ بالثمار، تترامى فروعُها في جلالٍ وهيبةٍ، وينهَلُّ من أوراقها رَذاذٌ عجيبٌ في اجتذابه الرجُلَ إلى تفيُّؤ ظلالها والأُنسِ بقربها. صعَّدَ جزرةُ بصرَه في الشجرة:
_ آه!
وردَّهُ الرذاذُ إلى أصيل ذلك اليوم عندما.. غيرَ أنَّ المهندسَ قال بعد أن ترك الفلاحَ قليلاً لروعته:
_ إلى اليسار من البستان دربٌ أخرى تُفضي إلى شجرةٍ ثانيةٍ مُماثلةٍ لهذه. الحقُّ أنَّ هاتين الشجرتين هما من روائع الطبيعة التي لا ينقضي عجَبُ المُتأمِّلِ فيها.
فتمتم الفلاحُ وعيناهُ عالقتانِ بالشجرة:
_ أشعُر بأنِّي صغيرٌ حيالَها..
فاعترضَ المهندسُ قائلاً:
_ ولكنَّها لا تُثمرُ من دونك.
وأمام عينَي جزرةَ غير المُصدِّقتَين مدَّ تامرٌ يدَه الخبيرةَ، فقطفَ من بين الأغصان ثمرةً شِبهَ كُرويَّةٍ، ثم فَلَقها نصفَينِ وعرَضَها على الشابِّ، فإذا جوفُها فارغٌ! وقال تامرٌ وهو يُشير بإصبعه إلى جزرةَ في توكيد:
_ إنَّما الفضلُ لك في نُموِّ لُبِّ هذه الثمرة.
وطلب من الفلاحِ أن يُنزلَ عنه الجرَّتين الطافحَتينِ ماءً وبذُوراً، المُعلَّقَتينِ جنباً إلى جنبٍ في طرَف المِعوَل الذي يحمله. فوضَعهما الفلاحُ عند أصل الشجرة الفارعة. حطَّ المهندسُ حقيبتَه إلى جانبهما، وفتحها، فاستخرجَ منها أنبوباً، وملأه بعيِّنةٍ من البذور، وسَدَّه، وأودعَه الحقيبة. ثم تناول أنبوباً آخَر، وجَثا على الأرض، فملأه بعيِّنةٍ من التُّربة، وسَدَّه، وأودعه الحقيبةَ، وأقفلها. ثم قام وهو يقول:
_ سأفحص هاتين العيِّنتين، وأعود غداً.
نظر جزرةُ إلى المهندس ولم يفتح فمَه بكلام. فقال له المهندس:
_ لا تقلق هكذا. لعلَّ النتيجة جيِّدة..
قضى جزرةُ تلك الليلةَ أرِقاً. لم يدخل بستانَه. بل جعل يتمشَّى حولَه في السُّكون الشامل بالساحة تحت النجوم الساهرة. وربَّما ذكَّره هذا بأصيل ذلك اليوم عندما كان يعبُرُ الساحةَ فإذا به يَستروِحُ- من جانبٍ- نسمةً بليلةً، مُعطَّرةً بشذا الياسَمين. التفتَ مأخُوذاً فرأى بستاناً- عند سنديانة الساحة- في وسطه داليةٌ تعترشُ إلى أعلى رافعةً عُنقوداً من العِنَبِ الأحمر وكأنَّما تُلوِّحُ به في عين الشمس الغاربة.. وتقلَّصتْ معدةُ جزرةَ من شهوة العنب! لم تكُن الساحة خاليةً، والظلامُ لمَّا يهبطْ بعدُ. لن ينتظر.. دارَ حولَ السُّور يبحث عن ثغرةٍ فيه ينفذ منها إلى البستان.. هناك، من الجهة الخلفيَّة، عثرَ جزرةُ على انخسافٍ ملحُوظٍ به ثغرةٌ استدلَّ عليها بكثافة العتمة عندها- بالنظر إلى استنارة السُّور البارز عن جانبَيها. تلفَّتَ مُحاذراً وقد سالَ لُعابُه.. قَلَّ مَن يخطر له أن يَمُرَّ بهذه الناحية. عاد ينظر إلى الثغرة.. إنَّها ضيِّقة. هكذا تكون أوَّلَ الأمر ثم تتَّسعُ! تحسَّسَها بيده. ففغَمت أنفَه رائحةٌ كريهةٌ مَبعثُها سَقَطُ أوراق الدوالي وقد تجمَّعَت وتحلَّلَت وتعفَّنَت في هذه الزاوية الخفيضة الرطبة من البستان. ولكنَّ تلك الرائحةَ استثارت جزرةَ إذ حملت إليه شيئاً من أعماق البستان المُشتهى- مهما كان هذا الشيء! فاشتدَّت يدُه في نَكْتِ الثغرة. ولكنَّه ألفاها أضيقَ من ذي قبل. وإنَّها لَتضيقُ وتضيق..
ارتددتُ خائباً. وإذا بتلك النسمة تُعاودني ببراءة الياسَمين وطهارة النَّدى.. شعرتُ بخجلٍ شديدٍ من البستان النَّضِر، ومن صاحبه، لمُحاولتي الخبيثة هذه. وباكراً في الصباح:
_ ماما.. بابا.. أريد أن أكتريَ بستانَ أبي عِنَبة!
وفرِحَ بي والداي. وجَنيتُ من العناقيد اللذيذة ما مَلأ عينَيَّ ويدَيَّ وحِجْري- شهراً وراء شهرٍ إلى أن تبيَّنَ لي أنَّها ثمراتٌ تافهةٌ تجُود بها البساتينُ عادةً في انتظار الثمرة الحقيقيَّة، الثمرة التي شكوتُها لبلُّوطة، والتي يعدُني بها تامرٌ البستانيُّ.. ثمرة تانِكَ الشجرتين العجيبتين.
* * *
في الصباح الباكر قصد جزرةُ مَشتلَ المهندس تامر في المدينة المُجاورة. فوجد الرجلَ مشغولاً بإعداد أحواضٍ صغيرةٍ مملوءةٍ بأتربةٍ مُختلفة الألوان؛ البيضاء، والسَّوداء، والحمراء،.. لم يسأله عمَّ يفعل، إذ عَقدت الدهشةُ لسانَه وهو يُشاهد المهندسَ يأتي من خزانةٍ بالجدار ببُذورٍ منقُوعةٍ في الماء، فيحملها إلى الأحواض، ويدُسُّها- بيده- في التُّربة.. شيءٌ لم يسمع به جزرةُ في قريته!
لم يتنبَّه المهندسُ إلى الفلاح حتَّى فرغَ من عمليَّاته الزراعيَّة المُتتابعة. وكان الرجُل البدينُ يخلع- بعد كُلِّ عمليَّةٍ- رُوبَه الأبيضَ المُتَّسخَ، فإذا تحتَه رُوبٌ آخرُ أبيضُ ناصع! وعندما لاحظَ تامرٌ انشداهَ جزرةَ بل استنكارَه، ضحك طويلاً، ثم قال:
_ العلم يتقدَّم.. أراكَ بكَّرتَ بالحضور.. حسناً فعلتَ، فقد ظهرت نتيجةُ الفحص. تفضَّل بالجلوس.
جلس المهندسُ وراء مكتبه وهو يخلع نظَّارتَه. وجلس جزرةُ قبالته. قال المهندس:
_ بستانك يا جزرةُ لا يشكو من أيَّة آفة. تُربةٌ خصبةٌ حقَّاً..
شعر الفلاحُ- وهو يتسمَّع إلى المُهندس تامرٍ- بجفافٍ في حلقه. وعرفَ أنَّ صوتَه سيَخذُله لو فتح فمَه بالسؤال: “وبذوري؟”. فاضطُرَّ إلى الإنصات طويلاً لشرح المهندس- المُتباهي بعلمه- حتَّى قال أخيراً:
_ أمَّا بذورُك أنت.. فصالحة!
فسأله الفلاحُ بصوتٍ لا بأسَ به:
_ لماذا إذاً أيها المهندسُ لم يحمل البستان؟
_ قد تتأخَّر بعضُ البساتين في حملها، هذا طبيعيٌّ.
ثم بسَط الرجل ورقةً على مكتبه، وخربَشَ فيها، ورفع رأسه وقال:
_ ابذُرْ أرضَك بين اليوم الحادي عشر واليوم التاسع عشر من كلِّ شهر. فإذا حَمَلتْ تَعهَّدْها بالرعاية أربعين أُسبوعاً قبل القطاف.. وقد وصفتُ لها بعضَ الكيماويَّات المُقوِّية.
وامتلأ قلبُ الفلاحِ بخوفٍ وحنان.
* * *
جعل جزرةُ يقضي معظمَ أوقاته في بستانه الحبيب، مُنشغلاً ببناء سِقالةٍ عاليةٍ يرفعُ عليها أغصانَ داليته الغالية. ويتعب الفلاحُ ويجلس إلى الدالية، فتُظلِّله مُمتنَّةً، وتنفُث عليه النسماتِ الرقيقةَ تُجفِّف عرقَه وتُنعشُه، حتَّى إذا جاعَ أحنَت عليه عناقيدَها الشهيَّة، وألقَمَته الحبَّةَ وأُختَها في صفاء وهناءة.
وأسندَ جزرةُ ظهرَه يوماً إلى جذعَي الدالية، يستريحُ من نَكْتٍ بالمعول. فإذا بوخزةٍ يشعر بها في خاصرته! التفَتَ وراءه مُنزعجاً، فوجد شوكةً نابتةً عند أصل الدالية. مدَّ يده مُقطِّباً يُريد أن يقتلعَها. فاعترشَ- في الحال- على ذراعه غُصنٌ من الدالية يمنع يدَه عن الشوكة! صرخَ مُحتجَّاً:
_ لقد آذتني هذه الشوكةُ، ولا بُدَّ أن أقتلعَها من بستاني.
_ إنَّها صديقتي. قد اشتبكت جذورُها بجذُوري. فإذا اقتلعتَها مَزَّقتَني!
قام جزرةُ غاضباً، وغادر البستان. فانطبقت البوَّابةُ وراءه بطقطقةٍ عنيدة!
وعرف بلُّوطةُ بالخلاف، فعرفت به القريةُ في قَيظ تلك الظهيرة بالساحة. وقال أبو عِنَبةَ صاحبُ البستان مُنكِراً:
_ لا أعرف لأرضي شوكاً!
فصاحت الستُّ أمُّ جزرة:
_ بلى! أحسستُ بشوكتها من أوَّل الأمر. ولكنَّ جزرة كان أعمى!
فهتف بها جزرةُ:
_ أُمَّاه..
فصرخت به أمُّه:
_ اسكُتْ أنت. قلتُ لك خُذْ بستانَ خالكَ يوسف أفندي، فأبيتَ!
فقال لها زوجُها أبو جزرة مُعاتباً:
_ لا تَنطِقي كلامَكِ حامضاً كالعهد بكِ دوماً..
وهتفَ أبو عنبةَ بالعمِّ شَمندرةَ أن يتدخَّلَ بما لحلاوة كلامه من أثرٍ مشكور. فقال الرجلُ في حَسرة:
_ كان ذلك بالأمس. أما اليومَ فإنَّ أمثالَ تامرٍ البستانيِّ يُحذِّرون من حلاوتي الزائدة! لذا سأكون مُعتدلاً فأقول لجزرة: يا بُنيَّ، إنَّ لكُلِّ بستانٍ شوكةً أو شيئاً مثل ذلك.. ها هي زوجتي سفرجلة مثلاً “كُلَّ عَضَّةٍ بغُصَّة”!
ازدادت سفرجلةُ اصفراراً، وهمَّت بالردِّ على زوجها بما يستحقُّ. فبادرها مُستدركاً:
_ ولكنِّي أذوبُ حُبَّاً باستدارة خصرِها!
فظلَّت المرأةُ صامتةً وهي تتلمَّظ. ثم خاطبَ شمندرةُ أهلَ القرية بجدٍّ:
_ وأنتم دعُوا جزرةَ لبستانه.
* * *
وفي ذات صباحٍ أراد جَزَرةُ الدخولَ إلى بستانه. فامتنَعتْ عليه البوَّابة!
تراجعَ عنها مُستغرباً يتساءل. وألقى بصرَه فوقَ عُلَّيقة المدخل نحو سماء البستان. فرأى قُبَّةً عظيمةً من الزهرِ الأبيض المُشرَبِ بحُمرة! استخفَّه الفرحُ، وراح يرقصُ أمام البوَّابة المُنغلقة؛ لقد أزهَرَت الشجرتان، وقريباً ستُثمران. فيا لَلفرحة!
وعانقته أُمُّه، فشدَّ عليها بحماسٍ حتَّى هتفت به مُحذِّرةً:
_ أنتَ تعصِرني يا ماما!
وذَرَفت دمعتينِ حامضتين. وضحك أبوهُ عن قلبٍ أبيض.
* * *
ضاعفَ جزرةُ عنايتَه ببستانهِ الحامل. وشَهِدته الساحةُ في النهار ينقل على كتفه شوالات السَّماد العُضويِّ، وفي الليل ساهراً على حراسة البوَّابة. ولمَّا ثقُلَ الحملُ عَرضَ عليه بلوطةُ بعضَ عِصِيِّه الغليظة ليسندَ إليها شجرتَه المُثمرة أن تَنُوءَ بحملها الثقيل. غيرَ أنَّ الفلاحَ النشيطَ أبى ذلك مُصرَّاً على إسناد شجرتهِ بنفسه، قائلاً لبلُّوطة في هِمَّةٍ عالية:
_ وماذا أفعل أنا؟
وشَهِدته الساحةُ- في طَورٍ آخَر- واقفاً بطوله يسند غُصنَ الشجرة الحامل بتفانٍ لا مزيدَ عليه حتَّى صار جزرةُ نادرةَ الساحة. والحقُّ أنَّه كان للفلاح الجديد- كُلَّ يومٍ من أيَّام حمل بستانه- شأنٌ لا يُلامُ القرويُّون كثيراً على الضحك منه:
في يومٍ أقلقَ جزرةُ الساحةَ وهو يركض فيها صارخاً:
_ أنجدوني.. أنجدوني يا أهلَ الضيعة!
وعاد بلُّوطة يسأله بلهفة:
_ قُل ماذا بك؟
أطلَّت الوجوهُ من النوافذ المُشرفة على الساحة؛ خيارةُ حولَ فمهِ شيءٌ من اللبنة التي كان يأكلها، حُمُّصةُ على وجهها زيتٌ قد ادَّهنت به..
فقال جزرةُ لاهثاً:
_ إنِّي أسمع طنيناً كلَّما ألصقتُ أذُني بالبوَّابة!
فسألت تينةُ خائفةً وهي تتمسَّك بزوجها لوزةَ وقد نزلا إلى الساحة دَحرَجةً:
_ ماذا يعني هذا؟
تقبَّضَ وجهُ أمِّ جزرةَ كأنَّها اعتَصَرت حامضاً. وتمتمَ زبيبةُ العجوزُ وقد فاقَها تقبُّضاً:
_ لعلَّها الدبابير!
وذعرت الساحةُ بالناس يتراكضون في كافَّة الاتِّجاهات وهم يصرخون فزِعينَ.. حتَّى سمِعوا بلُّوطةَ يقول برجاء:
_ استدعُوا تامراً يا جماعة.. استدعُوا المهندس.
وجاء تامرٌ البستانيُّ. فدخلَ وكشفَ وعاينَ- وأهالي الضيعة مُنتظرون في الخارج قلقين.. ثم خرجَ باسماً يُرافقه جزرةُ واجماً. قال:
_ لا دبابير! ولكنَّني أحبُّ أن أقول لكم إنَّ الدبابيرَ أصدقاءٌ لنا لا أعداء..
فقطَع الأهالي استرسالَ المهندسِ سائلينَ بصوتٍ واحدٍ:
_ فما هذا الطنين؟
_ إنَّها آفةٌ زراعيَّةٌ طفيفة تُعالَج ببعض الكيماويَّات.
وأنشأ المهندسُ يشرح الآفةَ وعلاجَها.. إلا أنَّ شرحَه ضاعَ في ضجَّةٍ من الضحك والفرح بالسلامة.
وفي يومٍ آخَرَ طافَ جزرةُ بيوتَ القرية بيتاً بيتاً يبحثُ كالمحموم عن سُكَّرٍ ناعمٍ- من غير أن يُجيبَ عن سؤال الأهالي: لماذا؟
أعطاهُ العمُّ شَمندرةُ حَفنةَ سُكَّرٍ من نفسٍ كريمة. فهرول الفلاحُ عائداً إلى بستانه. ولمَّا سُئلَ شمندرةُ، أجابَ ضاحكاً:
_ قال إنَّ أرضَه اشتَهت السكَّر الناعم!
* * *
كان الحارس بلوطة يُهوِّم قُبيلَ الفجرِ عند بوَّابة البُستان عندما هزَّهُ جزرة بعُنف هاتفاً:
_ آنَ الأوان.. آن أوانُ القطاف!
رفع بلوطة قلنسُوته عن عينيه وتثاءبَ، ثم نظر إلى جزرة، فرآه يروح ويجيء أمام البوَّابة المُنفرجة وهو يتخلَّل شُرَّابتَه بعصبيَّة. فقال له بنبرةٍ ناعسة:
_ صبراً.. ستجني إن شاء الله ثماراً طيِّبة.
توقَّفَ جزرةُ لينظرَ عبرَ البوَّابة، وقال في إشفاق:
_ ولكنَّني أخافُ على البُستان أن يَخرِبه القِطاف.. سمعتُ أنَّ مِن القطَّافينَ مَن يقتطفُ الثمرةَ بكسر غُصنها، ومنهم مَن يجتذب الفرعَ العالي نحوه حتى ينخلع!
لوَّحَ الحارسُ بعصاهُ العتيقة صائحاً وقد دبَّت في أطرافه اليقظة:
_ لن أسمح بهذا.. سأُراقبهم جميعاً.
فتساءل الشابُّ بيأس:
_ كيف ستُراقب وأنت لا تستطيعُ ترك نُقطتك خارجَ البوَّابة.. مَن يُدريني ماذا يفعل بالداخل!
سأله بلُّوطةُ باهتمام:
_ لمن عهدتَ بالقطاف؟
_ لتامر البستاني.
تراخت أطرافُ الحارس بالاطمئنان، وقال:
_ آ نعم! قلتُ لك إنَّه مشهورٌ بالشطارة. أحضره الحاجُّ خَوخةُ لقطاف ابنته فِجلة. وها هي البنتُ في صحَّةٍ وعافية.. وإن كانت تشكو من ألمٍ خفيفٍ في عُنُقها.
_ رِفقاً بأعصابي يا بلُّوطة!
_ ها ها.. إنَّي أمزح.
فقال جزرةُ وقد هدأ قليلاً:
_ ولكنَّ المُهندسَ لم يسمح لي أن أشهدَ القطاف.. قال “بل تنتظر في الخارج حتى نُخرجَ إليك ثمارك”.
_ توكَّل على الله، وادعُ لبُستانك بالسلامة، ولثماره بالصحَّة والاكتمال.
ها هي الشمسُ ترتفع إلى الظهيرة. حدَّثته نفسُه الجَزِعةُ بأن يقتحمَ البوَّابةَ ليرى بعينيه. وهتف قلبُه بالبستان أن يُدنيَ قُطوفَه. وإذ ذكَرَ الثمارَ ذاب قلبُه إشفاقاً.. الشمسُ تنحدرُ نحو الغروب.. لعلَّ.. وخرج تامرٌ عاصباً رأسَه بمنديلٍ أخضر، ندِيَّ الجبين والنظَّارة، باسماً، يحمل سلَّةً مفروشةً بالقشِّ الطريِّ، ناولها لجزرةَ وهو يقول:
_ مبروك..
تناول جزرةُ السلَّةَ برفقٍِ شديد. ونظَر فيها بلهفة. فطالعته ثمرةٌ يانعةٌ نضِرةٌ تفتح سَدَدَ النفس. فهتفَ جزرةُ مُهلِّلاً:
_ إجاصة!