عُواء
إلى صديقتي التي تمرّ في أوقات عصيبة لكنها تخرج منها بإرادة صلبة. إلى التي ستصنع مستقبلاً زاهراً، أحبّك كثيراً.
علي السقا
الليل طويل. لا أقوى على النوم. صراحة، لا أريد أن أنام. قد ادخل في النوم دون أن اتحضر له. أي ان يغلبني النعاس فجأة، ثم أصحو فأجدني كنت نائمة. أستيقظ وأنا الى جانب السرير لا عليه. قد أكون غارقة في النوم حتى لا أشعر بأني تزحزحت عن الفراش ثم هويت أرضاً. لكني، لا أنفك أكتشف، أن يدي كانت مقيّدة الى رِجل السرير وأني كنت، على الأرجح، متكومة في تلك الزاوية وقتاً لا بأس به. معصمي متورّم، كأن سواراً أحمر يلتف حوله. ما زالت يدي مقيّدة. سأحررها الآن. يخيّل إليّ أني أفعل هذا كل يوم. أهرب من النوم ثم لا ألبث أن أستسلم. أصحو وما أن أهمّ بالوقوف حتى أقع. أنظر الى يدي الثابتة في مكانها لأراها مربوطة الى طرف السرير ومعصمي أحمر متورّم. ثم، ثم أنفجر بالبكاء. لا أعرف ما الذي يحصل لي. حتى أن ما أخبرني به زميلي في الجامعة ذات صباح، وكنا قبلها ندرس سوياً عبر الحاسوب المحمول حتى وقت متأخر من الليل، لم يقنعني. قال لي أني تفوهت بكلام غريب، وأنه سمع مني أشياء كان يجهلها. لا أتذكر أني حادثته. يقول أني سردت تفاصيل رهيبة. ثم صرت أصرخ وأبكي، وأن صوتي أضحى متهدجاً. لعلّي كنت أهلوس؟ ما ادراني. لكنه يصرّ، بغض النظر عن مسألة الهلوسة هذه، أني رددت كلمتي”المصعد” و”الشغّيل” كثيراً . لم يصدق ما رويته في نومي. المصعد والشغّيل. ممممم… من هما؟. حسناً، قد يكون أفضل أن أتكتم. لكني متعبة. متعبة جداً. أنا لست أنا…انا… ما هذه الدماء؟ من أين أتت؟ الدماء تسيل على فخذي… سروالي الداخلي يعتصر بالدم أيضاً. ما هذا…ما هذا!!!! أوه ….
* * *
أشعر برأسي ثقيل. ربما أكون صدمته. أعتقد أنه أغمي عليّ، والا فلماذا أنا مطروحة هكذا. رأسي يؤلمني. حسناً، سأغمض عينيّ وأحاول تناسي الألم. بئس محاولة. ألمي كامنٌ. ليته يصبح ألماً في الرأس فحسب.
أن اتناول بضع حبوب مسكّنة فينتهي. لكن الأمر ليس بهذه السهولة أبداً. أن أعيش كل فترة بشخصية مختلفة تماماً عن التي سبقتها. أنا الخجولة. الوقحة. الذكية. الساذجة. الصبية. الطفلة. أنا الماضي المقيم في داخلي. المصعد. الشغّيل. سنين مضت قبل أن يقفز هذا الماضي بغتة ويشتد كحبل غليظ حول رقبتي. أكاد اختنق.
* * *
– “نزلي العبي تحت”
– “ما بدي، خليني هون”
– “نزلي ولييييي”
كان عليّ اللعب في باحة المبنى. أن يأتي شاب بثيابه الرثة ، والذي يعمل في المحل المقابل، ما أن يلمحني، ثم يجبرني على دخول المصعد رغماً عني.
-“تعالي، إقتربي أكثر” يقول ثم يجذب رأسي بقوة ناحية سرواله الذي كان يفك أزراره بسرعة.
رائحة عرقه نتنة، وكذلك رائحة فمه. كل ما كان يكشف عنه نتناً. كل ما أجبرت على فعله كان نتناً.
– “رح قول لأمي كل شي”
-“اذا بتحكي بذبحك” كان يجيبني ويده ترسم حركة السكين وهي تحزّ العنق.
* * *
هذا الجسد ليس لي. كيف لي ان البس جسداً آخر غير هذا الذي أحمله؟ واظبت مراراً على اشعاره برفضي له لكن لم يستجب. أن التقط موساً وأعمل فيه تشطيباً، أو أن أحفر في لحمه “أنت لست لي، أنت لها وحدها وهي ماتت”. لكني أحيا به شئت ذلك أم أبيت! هل عليّ ان أتصالح وجسدي كي أستطيع البقاء؟
* * *
-“هيدا الشغيل يلي عند عمو(…) عمل معي هيك”
-“مبسوطة بحالك؟” أجابني أخي.
لم أعد قادرة على إخبار أمي بما كان يحصل معي. صرت أرتعب لمجرد فكرة أن تدري بالموضوع. أربع سنوات مرت وأنا على الحال نفسها. أخاف الافصاح كي لا أتحمل العبء وحدي. لم أرتاح الا في اللحظة التي أقفل فيها المحل فجأة، فغادر صاحبه ومعه الشغيل. أسوء ما قد يمرّ فيه المرء، أن يرى نفسه محارباً من أقرب الناس اليه. ممن يفترض بهم أن يكونوا الى جانبه في محنته. أهلي وقفوا ضدي. أضحيت أنا المذنبة وأنا العار. أستطيع بسهولة أن استعيد مشهد باب غرفتي الذي لم يكن ينفتح الا ليدخل منه الطعام، ثم يعود ويقفل بالمفتاح. كنت سجينة. حتى أني منعت من استكمال دراستي. منعت من القيام بأي شيء.
* * *
المرضى هنا أصحاء أكثر ممن هم في الخارج، هذا ما سأصارح به من أصادفه لحظة أتخطى المدخل الفسيح في الاسفل.
لا أحد ممن هم الآن الى جانبي حاول أذيتي وأنا أقيم بينهم منذ نحو اسبوع. إنهم لطيفون للغاية. لا ينفك هذا العالم الذي في الخارج يجعلنا نخاف ممن يدخلون مصحاً نفسياً. هل بات عليّ أن اخاف من نفسي؟ هل يعقل ان اصبح بعبعاً تخيف به الأمهات صغارهن محذرات “بدي احبسك مع المجنونة”؟ لست مجنونة. انا تعبة قليلاً فحسب. بضعة ايام واخرج الى الحياة ثانية. اكل واشرب متى اشاء، واسهر طوال الليل ثم انام صباحاً. كما انني لم اخبر احداً باني سأدخل مصحاً نفسياً.
الطبيب ارتأى أن ادخل المصح. قال لي ان حالتي تستدعي ذلك، وانه لم يعد من الممكن تركي وشأني. ذلك أن ما يسمى بـ”شأني” لم يكن على ما يرام. اشعر بدوار… لو يتوقف نزيف الدم هذا.
أخاف الأحمر. الأحمر القاني الذي يكرج بسرعة هائلة قبل ان يستقر عند قدمي يرعبني. سيل من اللون الاحمر يتدحرج كلما يداعبني احد. على فكرة، لم يكن شبقاً جنسياً ما يدفعني الى فعل ذلك، ولا اعرف ما الذي كنت اتفوه به حتى اجدني في ركن خفي مع أحدهم في الجامعة.
* * *
أعلم أني إنهرت مراراً. لا بدّ لي من عزيمة تنتشلني من هذا الجحيم. أن أذهب الى الجامعة. أن أخرج. أحبّ.أحلم. أعيش! أن أصرخ بوجه الذئب” تباً لك! إني أولد من جديد!” لكني ما زلت صغيرة على مواجهة كهذه. او هكذا يخيل اليّ.
-“هلق رح نبلش علاج على سنة، بدك تتجاوبي لتصيري منيحة، أوكي؟” قال لي الطبيب.
أومأت برأسي ايجاباً. علاج لمدة سنة؟ كيف سأمضي كل هذا الوقت؟ بأي حال، لن اتركني للذئاب الجائعة.
السلام الذي انعم به هنا، في المصح، جعلني اكتشف عن غير قصد ان جامعتي حيث ادرس واسكن بعيداً من عائلتي، مليئة بالذئاب، وان عائلتي، اي امي وابي واخوتي ذئاب ايضاً.
ذئاب تتحين الفرص لتنهش الجسد الطري، وذئاب اخرى تلفظني لاني لم يعد بي لحم يكفيها.
دنيا ذئاب!
أريد أن ارقص!