بعد القذافي: الجزائر ولعنة أوروبا
ماذا يعني إسقاط النظام الجزائري؟
يُنقل عن الرئيس الفرنسي ساركوزي قولُه، خلال حديثه في قمة أصدقاء ليبيا الأخيرة في باريس، إلى رئيس المجلس الوطني الإنتقالي في ليبيا، مصطفى عبد الجليل، إن الهدف المقبل بعد ليبيا سيكون الجزائر.
لا يستطيع أحد أن يجادل لماذا انتظرت فرنسا، على سبيل المثال، عشرة أعوام قبل إطاحة نظام لوران غباغبو في ساحل العاج، ولماذا تقرر فجأة، بعد إسقاط نظام العقيد القذافي، أن الدور قد حان للجزائر. لكنَّ النظر إلى مراحل إسقاط النظام الليبي التي استغرقت ستة شهور من القتال حتى الآن، سيكشف أن الإستعدادت لذلك كانت قد بدأت قبل وقت طويل، وهو ما يحمل على الإعتقاد أن خطة إسقاط النظام في الجزائر قد تكون قيد التنفيذ.
فتفكيك ليبيا وهي دولة مشابهة للجزائر ولديها جيش وأجهزة استخبارات وشرطة وقدرات عسكرية، احتاج إلى خطوات سرية تتضمن تهيئة قيادة للمعارضة واختراق قيادة الجيش والمؤسسات الأمنية والسياسية لإحداث انشقاقات عندما تدق ساعة العمل العسكري ويتم استصدار قرار من مجلس الأمن يغطي على بدء الهجوم.
الجزائر، بلد الثروات الطبيعية، والقوة الناهضة في الساحة الدولية، كانت على الدوام ضحية لعنة إسمها القرب من أوروبا، والاستعمار الأوروبى المتكرر لها، منذ العصر الإغريقي وصولاً إلى الروماني ومروراً بالبيزنطي والوندالي والإسبانى وفرسان مالطا والفرنسي.
والأمثلة على هذه اللعنة لا تحصى، فقد ردت فرنسا الجميل للجزائر التي ساعدتها أثناء حصار الدول الأوروبية لها بعد الثورة الفرنسية، وقدمت لها قروضاً بقيمة 20 مليون فرنك فرنسي، فقامت باحتلالها في أعقاب حادثة المروحة الشهيرة. فقد رفض ملكها شارل العاشر في البداية رد الديون، ثم تذّرع بتلويح حاكم الجزائر، الداي حسين، بمروحته في إشارة لطرد القنصل الفرنسي من مجلسه بسبب أسلوبه الوقح في مخاطبته، ليرى في موقف الجزائر إساءة لشرف فرنسا وكرامتها.
وهذه الإساءة كلفت الجزائر احتلالها منذ عام 1829 حتى 1962، لتستقل بعد صراع دموي كلفها مليوناً ونصف المليون شهيد.
وخلال العقود الثلاثة الماضية أصابت هذه اللعنة مرة أخرى الجزائر التي تناست تجارب الماضي وقررت إقامة شراكة مع أوروبا، بموجب عقود مبرمة طويلة الأمد تنص على شراء الغاز الجزائري بأسعار محددة غير قابلة للتغيير. وبناء على هذه العقود إستدانت الجزائر بكلفة فائدة باهظة لبناء أنابيب النفط والغاز التي ستضمن أمن الطاقة لأوروبا، وعلى أساس أن عوائد النفط والغاز ستغطي الأكلاف وتسمح بإطلاق مسيرة تنمية إقتصادية حقيقية.
إلا أن انخفاض أسعار النفط والغاز نهاية الثمانينات جعل الشركاء الأوروبيين يلحسون تواقيعهم ويتركون الجزائر تواجه ديوناً متفاقمة في ظل عجز مالي فادح شل الإقتصاد وخطط التنمية، وقاد إلى سلسلة أزمات إجتماعية وإقتصادية وأمنية دموية وإلى سنوات من الأحداث الإرهابية التي لا تزال آثارها ماثلة في حياة الجزائر بعد نحو 20 عاماً من انطلاقها، عبر التفجيرات والإغتيالات التي لا تزال تحصد ضحايا بين الفينة والفينة.
لا أحد يستطيع أن يعرف ماذ ا يدور في خلد المسؤولين الفرنسيين الذي يعلنون صراحة أن تحكُّم روسيا في واردات الغاز إلى أوروبا يجعل أوروبا الغربية تحت رحمتها وعرضة لإبتزاز استراتيجي يهدد أمنها القومي. ويفسر هذا الأمر، على سبيل المثال، لماذا حرصوا على إطالة أمد بقاء شركة توتال في إيران رغم الضغوط الأميركية عليهم، ولماذ يسعون بكل الوسائل إلى تنويع مصادر الطاقة التي تستوردها بلادها.
الجزائر التي بدأت التصدير بالأنابيب إلى أوروبا عبر تونس فصقلية، بعد تدشين أنبوب الغاز الأول عام 1982 ثم الأنبوب الثاني عام 1987 ثم أنبوب الغاز الثالث العام الماضي تعتبر ثاني مصدر للغاز إلى أوروبا بعد روسيا، إذ أنها تصدر سنوياً سبعة مليارات متر مكعب من الغاز تشكل ما نسبته 21,2 في المئة من إجمالي واردات أوروبا.
ورغم أن لدى الجزائر إحتياطات مؤكدة تعادل 3 في المئة من إجمالي الإحتياط العالمي، وتحتل بذلك المرتبة السابعة عالمياً، إلا أن إمكاناتها الحقيقية تتعدى بكثير هذه النسب المتواضعة، ذلك أن نحو 90 في المئة من مساحة الجزائر والمتمثلة بالصحراء الكبرى التي تتجاوز مليوني كيلومتر مربع لم تخضع لعمليات تنقيب حقيقية، وهي حتماً قابلة للرصد من الأقمار الإصطناعية، بما فيها الفرنسية والأميركية، التي تستطيع أن تتعرف من الفضاء إلى مواضع المكامن الجوفية العملاقة والهائلة من الغاز والنفط التي يزخر بها باطن الأرض الجزائرية.
في حديثه الذي حاول نفيه لاحقاً، قال وزير الخارجية الفرنسي، آلان جوبيه، إن ما قامت به فرنسا في ليبيا هو استثمار في المستقبل. وما أظهرته برقية من المجلس الإنتقال الليبي إلى أمير قطر سرّبها، عل ما يبدو الأميركيون أو البريطانيون أو الإيطاليون المستاؤون، هو أن فرنسا حصلت على حق وضع اليد على 35 في المئة من ثروات ليبيا من النفط والغاز.
الجزائر بقبائلها التي تنيف عن الخمسمئة وبعدد سكانها الذي يقارب الأربعين مليون نسمة، وبالدروس التي تعلَّمتها من عملية إسقاط النظام الليبي، هي حتماً غير جماهيرية العقيد القذافي ذات السبعة ملايين نسمة.
في ليبيا دفع الليبيون 50 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى ثمناً لمشروع إسقاط النظام. لعلَّ الجزائر التي دفعت مليوناً ونصف مليون شهيد، حينما كان عدد سكانها لا يتجاوز الثمانية ملايين قبل نصف قرن، ستدفع حتماً ثمناً أكبر بكثير لمن يريدون استباحة أرضها، فيما لو طال أمد النزاع.
هناك أمهات كثيرات وأطفال صغار كثيرون لا يعرفون بعد أن ثمة دولة غريبة قررت الإستثمار في المستقبل. لكنههم سيحظون بالوقت الكافي للتمعن في معنى هذا الإستثمار. فآلام الترمُّل واليتم والثكل لا ترحل. إنها فقط توقظ ذاكرة الذين لا يعرفون لماذا قتل أحباؤهم، وتعرّي جرائم الذين يدمرون مستقبل الآخرين لأنهم يريدون الإستثمار في مستقبلهم.
عماد خياط: إعلامي عربي في باريس.