«لائكية إن شاء الله!» يحاصر نادية الفاني
وردة السعدي
“حرية، مساواة، لائكية”، تحت هذه الشّعارات التّي طبعت الفيلم الوثائقي “لائكية إن شاء الله!” لنادية الفاني، ثار حنق الإسلاميين التونسيين، فهل اللائكية (العلمانية) مبدأ يزعج الإسلاميين؟ أم أنّ إقصاء الإسلاميين من السّاحة السّياسية التّونسية لمدة طويلة وقهرهم في السّجون جعلت كلّ ما هو لائكي يشكّل استفزازاً لتواجدهم؟
تسعة أشهر مضت بعد فرار بن علي، فرار كتبته عليه ثورة الياسمين، ليخرج التونسيون الأحد لانتخاب المجلس التّأسيسي. انتخابات تاريخية، مستقبلها معلّق بين صناديق الاقتراع، فترة حاسمة تأمل فيها مخرجة الفيلم الوثائقي نادية الفاني، الفرنسية من أصول تونسية، إرساء أسس مجتمع “لائكي”، كلمة جعلت من البعض يهدّدها حتّى بالموت.
“العصيان”، كان العنوان الأول لفيلمها الوثائقي قبل أن تستبدله بالعنوان الحالي والذّي خصّصته للملحدين في تونس، لكن المخرجة أدركت سريعا أنّها لن تعثر على من يتجرأ ويعلن جهرا أمام عدسة الكاميرا “أنا لا أومن باللّه”، وتضيف شارحة أنّ: “أصحاب الرّدة في الإسلام مآلهم نار جهنم”.
ولدت نادية الفاني في عام 1960 من أمّ فرنسية وأبّ تونسي، الوالد كان من بين القياديين في الحزب الشّيوعي بعد الاستقلال، وهي تعيش حاليا في فرنسا منذ تسع سنوات، لكنّ ذاتها كلّها تحوم على الضّفة الأخرى من البحر المتوسط. في عام 1990، أنشأت في تونس شركتها للإنتاج “زيوه نوار موفيز” أو “أفلام العيون السّوداء” وشرعت في إنتاج سلسلة من الأفلام الوثائقية والخيالية.
عندما بدأت في تصوير الفيلم الوثائقي: “لائكية، إن شاء الله!”، في صيف أغسطس/آب 2010 في تونس، جسّدت دور الشّخص الذّي يأكل ويشرب خلال شهر رمضان، وبدأت تستقصي لاستجواب أشخاص ومعرفة علاقتهم بالصّوم. مبادرتها هذه لم تكن لاستفزاز الغير لكنّ هذا يدلّ على ظمئها الشّديد لتجرّع الحرية. “يجب أن يقتصر الدّين على المجال الشّخصي، لكن ما نراه اليوم هو أنّه حاضر بكثرة على السّاحة العامة”، هكذا كان تقييم نادية الفاني.
أمام عدسات كاميراتها، اعترف بعض البستانيين بعدم صوم رمضان حتّى يتمكّنوا من الحفاظ على قواهم البدنية، وهاك نادل يفشي لها أنّه يحتسي بين الفينة والأخرى فنجان قهوة ويدخّن سيجارة… عيون تحدق بها عندما تدخل صالون قهوة وهي تحمل كاميراتها على كتفها لتصوّر “المفطرين”. “نعم يمكنهم العصيان، لكن يجب أن يبقى ذلك سرًّا، ربّما تتساءلون عن علاقتهم مع الطعام خلال النّهار، الحقيقة هي أنّ كلّ واحد يرجع إلى منزله ليكسر الصّيام، وهذا لم يكن له وجود خلال السبعينيات”. صورة النّفاق هذه هي التّي أرادت إظهارها المخرجة.
عندما بدأت المخرجة تصوير فيلمها الوثائقي، كانت تونس لا تزال ترزح تحت سياط ديكتاتورية بن علي المخلوع، لكن مع بداية التّحركات في تونس لتشتعل نيران الثورة، انتقلت نادية الفاني إلى ميدان الانتفاضة التونسية واندمجت بين المنتفضين وخلال اجتماعات نوقش مبدأ اللّائكية. عندها قررت أن تطلق على فيلمها عنوان: “لا ربّ، لا سيّد”، واعترفت المخرجة بأنّها صدّقت حقيقةً أنّ “بعد الثّورة، كنّا دخلنا في العصرنة، والعصرنة تستوجب أيضا القدرة على نقد الدّين بالأسلوب الإيجابي للكلمة”.
وهنا بدأت بوادر التّخويفات والتّهديدات تجاه المخرجة، ففي مدينة “كان” الفرنسية نصحها بعض المخرجين بتغيير عنوان فيلمها “لا ربّ، لا سيّد”، وهذا لم يكن بتاتا “خوفا من الإسلاميين”، كما تشير إلى ذلك نادية الفاني، لكن كان من السّهل جدّا أن يثير استفزاز الإسلاميين، فأصبح عنوان الفيلم “لائكية إن شاء الله!”، إلاّ أنّ هذا لم يمنع بعث الجدل حوله.
وفي حوار مع التلفزيون التونسي، تجرّأت نادية الفاني وقالت إنّها ملحدة، ولم يتوان المتطرفون الرادكاليون في تسجيل الحوار ونشره على الإنترنت. في شهر حزيران/يونيه الماضي قامت جماعة من المتطرفين بتخريب قاعة سينما في تونس العاصمة حيث كان من المفروض عرض فيلمها. ومنذ تلك الحادثة، وهم يهدّدونها بالموت عبر شبكة الانترنت، بل حتّى أنّهم ينقضون عليها عبر الفايسبوك ويرسلون لها برقيات مجهولة. الأمر ذهب إلى أبعد من ذلك، ففي تونس، أصدرت محكمة جنايات في حقّها قرارا بملاحقتها بحجة إهانة المقدّسات والمساس بالأخلاق الحسنة والمبادئ الدّينية. “المجزع في الأمر هو أنّ قاضياً تونسياً، بعد حقبة بن علي، يقبل هذه الشّكوى، كنت أدرك أنّ الفيلم سيحدث ضجّة لكن لم أتخيّل البتة أنّ الهجمات ستكون على هذا المستوى من الخساسة والنّذالة”.
الخلط بين العلمانية والإلحاد لا يزال قائما في تونس وهذا لا يساعد في التّقدم إلى الأمام بتاتا، “ومع ذلك فإنّ مفهوم اللّائكية أو العلمنة لا يسلب الهوية المسلمة للشّخص، لكن الشّارع لا يزال يخشى اللّائكية ولو أنّهم قاموا بالثّورة”، هذا ما تتأسّف عليه المخرجة. هل هذا يدلّ على أنّ الشّارع يخشى من المتطرفين؟ “لا، لا أظن ذلك، لكنّه يخشى تهميش المجتمع له”.
ورغم ذلك ترى الفاني، وهي ترسم ابتسامة على وجهها، أن الرّقابة والحجب تراجعا كثيرا فـ”الثّورة كانت أنجع دواء”.
وحاز فيلمها الوثائقي، الذّي عرض لأوّل مرة في قاعات السينما بفرنسا يوم 21 أيلول/سبتمبر الماضي، على الجائزة الدّولية للعلمنة. وإذا كانت نادية الفاني غادرت تونس لاختناقها من سياسة بن علي ولأنّها لم تعدّ تتلقى أيّ تمويل لعملها، فهي تعترف صراحة أنّه صعب عليها البقاء بعيدا عن تونس: “أنا أرغب في العيش هناك، لكنّ الآن مع كلّ ما يحدث أنا أخشى العودة خاصة إذا قام البعض بمصادرة جواز سفري، أنا آمل في العودة والاستقرار هناك وأن أكون أخيرا حرّة”.