عن المقاومة والثورات والامير علاقة: محمد عيتاني اديبا وادبا وحياة
فداء عيتاني
في صدر غرفة الجلوس في منازلي المستأجر، ارفع دائما صورة محمد عيتاني، الرجل الوالد والكاتب، وصاحب الوجه الطفولي والابتسامة المحببة. لم تسعفنا الحياة لتمضية الكثير من الاعوام معا، رحل الرجل وانا في العشرين من العمر، وترك لي اخوة وكتبا مؤلفة واخرى مترجمة، وارثا كبيرا من المبادئ التي تسمى في حياتنا اليومية في لبنان (هبل).
الارث الذي اعتقد بانني لا زلت احمله كيفما ادرت وجهي، ومهما فعلت في دنيا، هذا الارث اعطاني كل ما لدي، اناس احبهم واصدقاء مقربون، وصفاء ذاتي، والام في العيش حين نرى الانسان يقتل الانسان، او يضطهده، او يستغله، الا انه ايضا اعطاني معنى التمتع بجمال الدنيا، وروعة الادب، وعشق السرد والقص والروايات المبنية، واصوات الدنيا وانغام النمو، وضحك الاطفال وعرق الفقراء، وتعب النساء، وامزجة الناس المختلفة المتناقضة.
حين كنت مراهقا، وحين اصبحت شابا، كان محمد عيتاني الاب يتحمل (كما كل والد) مزاجية مراهق، وطيش شاب، يعتقد بانه يفهم الحياة ما ان بدأ يعيها، وكان الرجل فخورا بكل ابنائه، ولكنه مر بمراحل من الشكوك بما كتب.
كان قبيل بداية الحرب فخورا بحزبه وبمحاولات تغيير الكون، وبالعمل على منع استغلال الانسان للانسان، والسعي لتغيير نظام الحكم الطائفي الرأسمالي في لبنان، اكثر مما كان يهتم باطفاله الصغار، ومع بداية الحرب تكبد محمد عيتاني صدمة كبيرة في مشاهدة ما كان يعتقده ثورة وطنية للتغيير الديموقراطي تتحول الى حربا اهلية، وتحمل ابشع وجوه القتل المذهبي، انعزل وانكفأ وقلت كتاباته وغرق في الاسئلة الانسانية الكبيرة، واغرق نفسه في هموم الحياة الصغيرة.
ومع تقدم العمر لم يتخل يوما عن القراءة والعمل، ولكن العمل عنده غير العمل لدى الناس، فتلك القيمة للحياة والمال لم تكن واضحة لديه، كان يعيش في عالم نصف خيالي، ونصف واقعي، فيعمل ليعمل، ويعيش ليتخيل حياة افضل، ثم حين يتعب يخرج الى الشرفة ويدخن سيجارة مطلا على شوارع قليلة من بيروت التي كتبها قبل ان يعود الى الداخل ويتابع العمل.
هكذا حصل ليلة وفاته في العام 1988، حين خرج الى الشرفة ليدخن في ليلة شتوية من ليالي اذار، ثم عاد الى الداخل، وببساطة شديدة مات خلال دقائق.
بيروت التي كان يطل عليها هي بيروت التي عاش تحولاتها، وهو المولود في العام 1926، حين كبرت وتحولت الى عاصمة، وبدأت تأتيها الايد العاملة من الجنوب والبقاع والشمال، وبدأت بالتضخم والتحول الى دار سياحة جنسية للعرب والغرب، وبدأت تضطهد ابناء بلدها، هي بيروت التي اتسعت للبيارتة والفقراء القادمين من القرى، والتي ظلمت الجميع: صيادي الاسماك والمزارعين واصحاب الدكاكين وسائقي سيارات الاجرة، والعتالين في باب ادريس، والمقاتلين الثائرين في ثورة العام 1958. بيروت التي التبست علاقتها بالمقاومة الفلسطينية بين اكثرية شعبية محتضنة ومرحبة وبين سلطة رافضة ومعارضة.
لم يتوقف خيال محمد عيتاني ومحاولته تصوير الحياة حوله هنا، بل راح خياله يلعب بين صفحات التاريخ، فيخرج منه الامير الصوري (ابن صور) البحار الاسطوري علاقة، ويضع جلده المحشو تبنا بعد ان نكل به الحاكمون، في مواجهة شخص الامير علاقة التاريخي، التاريخ يحاكي الرجل المسلوخ والمنكل به، والشخصية الاسطورية لا تفهم كيف يستمر سعي التاريخ الى تحسين حياة الناس الفقراء.
تكتشف محمد عيتاني مرة اخرى في ظل تغير الحياة، تستمر كتاباته في الحياة، حاملة من الدنيا الاشياء التي لا تموت، تبقي لنا وعيا ادبيا بما مضى، بتاريخنا، بتاريخ لبنان القاسي والمثير للحنق من فرط ظلمه للناس، تترك لنا صخرة يمكننا ان ندل عليها ابناءنا واحفادنا باننا من هنا اتينا، وهكذا كانت بلادنا، وهذا تاريخ الفقراء فيه، بحارين وصيادي سمك ومزارعين وفقراء ريفيين ومسطوتنين في مناطق الاوزاعي وصور، وغيرها من القرى والمدن، وان بيروت لم تكن فقط رأس بيروت، او مجموعة صيادين بسطاء ومفتولي العضلات، بل كانت احلاما مات اصحابها وبقيت احلامهم في ارواحنا تسبح مع ايامنا التي تصبح اسرع فاسرع.
تكتشف في قراءة ثانية لمحمد عيتاني ما لم يكن ان تراه وانت تركض لاهثا خلف الحياة.
اليوم نصدر الطبعة الثالثة لكتاب محمد عيتاني “اشياء لا تموت”*، وفيه تأكيد جديد على مقاومة الادب للموت، وارادة الناس على الحياة الافضل، التي لا تمر دون صراع وقتال ومقاومة عنيدة ضد كل جبار وطاغية وكل محتل وغازي، اليوم نصدر الطبعة الثالثة لاشياء لا تموت ولا يحضر في ذاكرتي الا صورة محمد عيتاني منكسرا بعد سقوط بيروت في يد الغزاة الاسرائيليين في نهاية صيف العام 1982، ثم تألق ضحكته وسعة ابتسامته حين بدأت عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وكل الاطراف المقاومة، في اتي اكلها، وفي تحرير بلادنا شبرا شبرا، من بيروت الى الضاحية الجنوبية والجبل ثم الساحل ثم اغلب ارض الجنوب، كانت ابتسامته تتسع ويزداد تفاؤله بالحياة كلما شاهد نتائج مقاومة شبان يافعين لعدو احتل بلدهم.
اليوم ومع صدور الطبعة الثالثة لا ارى بين دفتي كتاب محمد عيتاني الا ان الاشياء التي لا تموت هذه هي احلام شعبنا اللبناني، ومن خلفه شعوبنا العربية، بحياة افضل، وبرفع كابوس الظلم والاحتلال والاستغلال عن ارواح الناس البسطاء والفقراء في بلادنا، الاشياء التي لا تموت هي نضال الناس وسعيهم اليومي للاستمرار في الحياة مع امل بالا تسحقهم الدنيا والا يمحي طمع الاثرياء النور في عيون اطفالهم.
*تصدر الطبعة الثالثة من كتاب “أشياء لا تموت” عن دار الفارابي، وسيقام حفل اطلاق الطبعة في جناح الدار في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، يوم السبت في 15 كانون الاول 2012، بين الساعة السادسة والسابعة مساء.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة