طانيوس دعيبس
المناورة السياسية هي الأسلوب السائد اليوم لدى جبهتي الصراع المتواجهتين في لبنان. وأسبابها تتصل بواقع مفاده ان الطرفين لم يتوصلا إلى القناعة بضرورة التسوية في هذه المرحلة من الأزمة. وبالرغم من أن الجميع يدرك حجم المخاطر المحدقة بالبلاد، إلا أن المراهنة على حجم الإنتصار واستهوال حجم الخسارة يبدوان أقوى من دهم المخاطر. لذلك يبدو الجدال حول الحوار وضرورته عقيماً وفي غير مكانه. ويصبح بالتالي من المفيد ان يغيّر رئيس الجمهورية مقاربته لهذا الموضوع، إنطلاقاً من ان الهدف هو التسوية وليس طاولة الحوار والجلوس حولها. فتحلق القيادات السياسية حول الطاولة يكون الفصل الأخير من التسوية وليس بدايتها. وفي الأساس، يرتبط وجود طاولة الحوار بالبحث ببند واحد هو الإستراتيجية الدفاعية. فيما موضوع الخلاف اليوم متمحور حول تركيبة السلطة. وهو ناتج عن اختلال في الموازين يدفع المعارضة إلى المطالبة بتغيير الحكومة، من دون ان تمتلك القدرة الذاتية لتحقيق هذا الهدف. الأمر الذي يسمح للأكثرية الحكومية بهوامش واسعة للحركة تعطيلاً لمطلب المعارضة.، تبدأ بمطالبة الأخيرة التحاور معها أولاً بهذا الشأن، ولا تنتهي باعتبار أن المعارضة اوقعت نفسها بمأزق عندما أعتمدت سياسة لإسقاط الحكومة لا تستطيع تامين مستلزماتها.
إذن، يعكس المشهد السياسي صورة طرفين، واحد يعلن المقاطعة وآخر يشترط الحوار، من دون أن تكون التسوية السياسية هدفاً لأي منهما. فيصبح بالتالي عبثياً أن يدعوا إلى التحاور قبل تحضير مسبق لصيغة التسوية الممكنة بينهما. ومن هنا يمكن ان تبدأ فعالية مبادرة وليد جنبلاط والحزب التقدمي الإشتراكي.، بالترافق مع فعالية الرئيس سليمان ومرجعية موقع الرئاسة في إنتاج صيغة وشروط التسوية المرغوبة. وقد عبّرت عن ذلك بوضوح كتلة “المستقبل” انيابية في بيانها الأخير حين اعتبرت ” أن قسماً كبيراً من المعطيات بات متوفراً أمام رئيس الجمهورية كرئيس للدولة وكحكم بين الأطراف والمواقف المتباينة لكي يلعب دور التوفيق بين كل الإتجاهات ..”. بما يعنيه ذلك من تسليم للرئيس بمرجعيته في صياغة التسوية الممكنة.
الجولة التي يقوم بها وفد الحزب التقدمي الإشتراكي تحصد موقفاً تجمع عليه القوى التي التقاها، ومفاده الترحيب بالمبادرة من جهة والإختلاف على طريقة الوصول إليها من جهة ثانية. والتصريحات التي تطلقها القوى السياسية تدل على أن كلاً منها يريد أن يأخذ من المبادرة البنود التي تتوافق مع مواقفه ورغباته، فيما المبادرة كل لا يتجزأ، وقد بنيت في الأساس على منطق التوازن بين المختلفين. ما الذي ينقص في هذا المشهد؟ الناقص هو بنود التسوية. وهي، على ما يبدو، المهمة المناطة بفريق سليمان-جنبلاط. ومنطقها أصبح معلناً ينطلق من ضرورة التخلي عن المراهنة على الحدث السوري وإعلان الطرفين المتورطين في “ميدانياتها” الإنكفاء عن هذا التورط، ومن أولوية تحصين السلم الأهلي مع ما يعنيه ذلك من خطط عسكرية وامنية واضحة ومبرمة ومغطاة سياسياً ، ومن اعتماد “إعلان بعبدا” ركيزة سياسية للتسوية المطلوبة، ومن التوافق الواسع حول ضرورة التغيير الحكومي، ومن صيغة “مشروع الدولة القادرة على حماية اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم وتبديد هواجسهم المتبادلة” التي وردت في المقدمة السياسية لمبادرة وليد جنبلاط، بما تتضمنه من إشارة إلى ضرورة بداية البحث الجدي والمتزامن لمعضلتي الحدود ( شرقاً وشمالاً وجنوباً) والنظام السياسي الإقتصادي الإجتماعي الذي بواسطته يتكامل مشروع الدولة. وهو مشروع لا يستقيم بشعار أوحدية الدولة بتقرير الحرب والسلم وحده، أي بما يتعلق فقط بمعضلة الحدود. فالإقتصار على هذا الشعار هو توظيف لمشروع الدولة في الصراع السياسي. فيما المطلوب مشروع متكامل على الحدود وفي الداخل.
التسوية التي أتحدث عنها هي تسوية متكاملة وواسعة و”تاريخية” حسب توصيف يحبه سمير فرنجية. فالواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي اللبناني المتهاوي يتطلبها. والأوان أوانها. والقادر على صياغتها هو الطرف غير المنهك بالمواجهة، غير المأسور بمواقفه وبمتطلبات تحشيده لها، وغير المرتبط بمراكز قوى خارج لبنان فاعلة في ما يعتمده من خيارات. التوصيف ينطبق طبعاً على ما أسميته فريق سليمان – جنبلاط، إلا أنه لا يقتصر عليهما. فهو يصبح أكثر فأكثر واسعاً ووازناً في البلاد.