غزة بعد انسحابين وحربين
غزة – فلسطين – فداء عيتاني
“الطائرات من دون طيار تراقبنا ليلا نهارا” يقول احد الشبان في غزة، “هذه الطائرات تصورك وانت تعمل، وفي النهاية ويوم الاشتباك يأتي الحساب فتضرب اسرائيل المواقع المرصودة” يضيف، قبل ان يشير ” في حرب 2008- 2009 اطلقت اسرائيل مئات طائرات الاستطلاع، بتنا نشعر بانها ارسلت لكل مواطن طائرة فوق رأسه، ولكن في الحرب الاخيرة خفت حدة الطائرات كثيرا”
ومع ذلك فقد ضربت القوات المعادية كل اهدافها، ثم بدأت تضرب الاهداف نفسها مرة ثانية، كانت المقاومة في غزة – فلسطين بفصيلها الاكبر حماس قد ضربت من الساعات الاولى عمق اسرائيل، على عكس كل مرة، واستخدمت بعض اهم ما لديها في معركة سريعة.
لم تضرب اسرائيل هذه المرة المناطق السكنية، يقول ابناء غزة، لقد ضربت الاراضي الزراعية خاصة من حيث تنطلق الصواريخ. ووفق الخسائر فان الضرر الاكبر وقع على الاراضي الزراعية التي تشكل ركيزة اساسية في انتاج غزة ان كانت تنتج غزة من شيء غير المقاومة والكثافة السكانية والمتخرجين من الجامعات فيها.
انتهت الحرب الثانية في غزة على غير ما انتهت اليه الحرب الاولى، في نهاية العام 2008 وبداية العام 2009 تقدمت قوات الاحتلال الاسرائيلية لتصل الى مربع الجامعات على طرف مدينة غزة، كانت منطقة التقدم الرئيسية هي اراضي المستوطنات السابقة في القطاع، ومنها على الطرق الرئيسية الى مدينة غزة، وسط مقاومة متفاوتة بحسب الامكانيات المتاحة حينها.
ثلاثة اعوام انطوت لتصبح غزة اكثر كثافة سكانية، ولتكتسب المقاومة وجناحها الرئيسي – حتما في القطاع – حركة حماس المزيد من القدرة على المناورة والقتال، وتبدي شراسة ربما ترتبط بانفكاكها عن محور والتحاقها باخر، ربما هذا اضافة الى تغيير في نوعية التسلح واضافة صواريخ من طراز كورنيت الى منظومة الاسلحة المضادة للدروع، هو ما جعل الجيش الاسرائيلي يفكر مليا قبل التوغل في القطاع هذه المرة.
اضف الى ما سبق ان عملية الجيش الاسرائيلي هذه المرة لم تكن مخططة مسبقا، ولم تكن تستحق ربما بالعقل الاسرائيلي، دفع كلفة جدية مقابل التقدم، كانت اسرائيل قد تخلصت من احد الد اعدائها اي احمد الجعبري قبل بدء العمليات الحربية، ولم تكن اساسا تعمل على استئصال حركة حماس وكتائب القسام وباقي الفصائل المقاومة، ولم يكن هناك من افق سياسي حقيقي او مطالب اسرائيلية محددة مثل عملية الرصاص المصبوب، حين كان الهدف الاسرائيلي الاول الضغط من اجل المفاوضات على اطلاق سراح جلعاد شاليط، وبعد تلقي الجانب الاسرائيلي لكلام مفاده التشدد خلال لقاء سري بين الطرفين في اليونان، قررت القيادة الاسرائيلية التقدم وسحق المقاومة في غزة باقل قدر من التكاليف، وبعد اقل من اسبوع من تلقي الجواب الفلسطيني المتشدد من احد الملاصقين لحماس في العاصمة اليونانية اثينا، بدأت العملية العسكرية بغدر حفل تخرج للشرطة الفلسطينية في القطاع.
ذاك ما كان من العملية العسكرية في 2008 – 2009، اما في العام 2012، وبعد اغتيال القائد احمد الجعبري المشرف والمنفذ لعملية اسر والتفاوض على شاليط، بدأت ردود الفعل المقاومة من غزة تستدعي ردا اسرائيليا يثبت قدرة الردع الاسرائيلية العالية، ويحافظ على هيبة الاحتلال فوق سماء القطاع وفي ارضه، فاعلنت عملية عمود السحاب الاسرائيلية لتقابلها عمليات حجارة السجيل الغزاوية، والتي انتهت الى هزيمة العدو، وصمود حماس حتى اللحظة الاخيرة.
ثمة مكاسب بسيطة يلمسها المواطن الغزاوي بعد هذه الحرب “لم نكن نستطيع الوصول الى هنا قبلا، والا كان الجنود الاسرائيليون (اليهود بالتعبير المحلي) يحولننا الى منخل” يقول احد الشبان وهو يتقدم بنا الى مسافة 300 متر من المواقع الاسرائيلية، كان مجرد الاقتراب من موقع التجسس الاسرائيلي الاكبر في المنطقة المسمى بالـ”عين” يعني الموت، اليوم لم يعد الاسرائيليون يطلقون الرصاص عشوائيا وتلقائيا على المارين، والمقتربين من مسافات بعيدة.
ربحت غزة بعض المجالات الحيوية في البحر ايضا، ولكن “لا امان للاسرائيليين” يقول احد الشبان من المواطنين، فهؤلاء “يمكن ان يطلقوا علينا عملية عسكرية في اية لحظة يرغبون او يجدون فائدة لهم” يؤكد من خبرة العيش في القطاع.
الحرب الاولى شهدت دمارا كبيرا، والحرب الثانية تعرضت بعض المواقع للضرب، انصار فتح يؤكدون ان الحرب الثانية استهدفت مواقع عسكرية، او مباني كانت تستخدمها المقاومة، او سبق ان استخدمتها المقاومة، وكذا يفعل احد مقاتلي حركة الجهاد الاسلامي الذي يقول ان الاستخدام الخاطئ للمناطق ادى الى ضرب بعض المدنيين، وحين تسأل ان كان الجيش الاسرائيلي يتورع عن ضرب المدنيين فان الجواب يأتيك “لا” ولكن حين يقرر الاسرائيلي ضرب العسكريين فقط كالحرب الاخيرة فان اعطائه الحجة لضرب المدنيين امر خاطيء.
يتحدث شبان عن اتصال جيش العدو باحد القاطنين في المباني، يقولون له اخلي المبنى، فـ”جيش الدفاع سوف يدمر المبنى” يرفض الرجل اولا، فيصرون عليه: “امامك 3 دقائق لاخلاء المبنى والا قصفناه” يخبرهم الرجل بان والدته مريضة وسوف يتطلب الامر المزيد من الوقت، فيأتيه الجواب: اخلى المبنى نحن نراقبك وحين تخرجون سنضربه.
يؤكد عنصر بالجهاد الاسلامي بان هذا ما حصل، وحين خرجت العائلة من المبنى تم قصفه واكتشف صاحب المنزل ان تحت منزله يمر نفق عسكري للمقاومة.
لا ملاجيء في غزة، المدنيون يتجولون في العراء، ويقطنون تحت خطر القصف المدفعي والطيران، بينما المقاومة استفادت من تجاربها السابقة، ومن تجارب حروب المقاومة في لبنان، وها هم انصار حماس يتحدثون عن الحرب التي جرت وقيدت من تحت الارض، وعن شبكات الصواريخ التي اطلقت نحو الاحتلال من مواقع تحتارضية، وعن شبكات الانفاق التي بات يمزح البعض بالقول انها ستؤدي يوما الى انزلاق غزة الى البحر، وهو حلم غولدا مائير القديم للتخلص من مشكلة القطاع.
غزة انتصرت، ناسها صمدوا، المقاومة لم تتكلف الكثير هذه المرة، وان زادت الانتصارية في خطاب المقاومة فان الواقع انها ربحت جولتها في الحفاظ على قوتها وليس في تحريرها لمزيد من الارض او في ضرب العدو، بل في خرق الهيبة وضرب العمق وهو ما لم يحصل قبل الحرب الاخيرة واطلاق حماس لـ 1500 صاروخ، والجهاد لـ500 اخرى، وباقي الفصائل لاعداد متفرقة.
غزة انتصرت هذه المرة بانتظار جولة جديدة، ومزيد من الحماية لمواطنيها.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة