اللعنة على كل الاتفاقات … غزة ما زالت محتلة
غزة فلسطين – فداء عيتاني
في مساء الاحد في التاسع من كانون الاول 2012 يمر الطيران الاسرائيلي فوق القطاع، تمر طائرة على ارتفاع منخفض، مرة، ثم اخرى، ثم ثالثة، تطير هذه الطائرة فوق رؤوس السكان الذين لا يبالون، في الساعة الثامنة والنصف تكاد الناس تنفض من اغلب شوارع المدينة، ومن المخيمات المحيطة بها على طول القطاع، وتعتزل منازلها.
في صباح اليوم التالي الاثنين يحلق الطيران مجددا فوق مخيم البريج، وباقي انحاء القطاع البالغ 360 كلم مربع، تدور الطائرات فيسأل شاب صديقه في سيارة التاكسي، ما هو اليوم؟ الاثنين يأتيه الجواب، اذا عادي، فالاميركيون والاسرائيليون يجرون مناوراتهم. اية مناورات؟ المناورات المشتركة بين الجيشين الاميركي والاسرائيلي التي تجري كل يوم اثنين.
باقي ايام الاسبوع تمر الزنانة او طائرة الاستطلاع من دون طيار طوال الوقت فوق غزة، الغزاويون اعتادوا الامر ايضا، الطائرة اصبحت اداة اغتيال دائمة، تستطلع وتغتال حين يريد الاسرائيليون ذلك، والغزاويون يعلمون ذلك الا انه جزء من طبيعة حياتهم الان.
تدخل الى المحال التجارية، البضائع الاسرائيلية اكثر مما يمكن ان يتخيل المرء، العديد من المواطنين هنا يفضلون استخدام المواد اسرائيلية الصنع كونها اكثر جودة، لا مقارنة بين حليب الاطفال الاسرائيلي وحليب الاطفال المصري المستورد من الانفاق، من الذي لا يرغب بتوفير الافضل لاطفاله؟ يخبرك احد السكان ان الاسعار تنافسية، ومتقاربة جدا، والجودة مختلفة تماما، ويضيف “علما ان المواد الاسرائيلية مصنعة خصيصا لتصدر الى مناطقنا، وتستخدم مواد اقل جودة من تلك التي تصنع للاستهلاك في اسرائيل او للتصدير الخارجي، وهذا ضروري حتى تتمكن السلع الاسرائيلية من منافسة السلع المستوردة من مصر”.
البضائع الاسرائيلية ايضا في اسواق الخضار، حيث تتكدس كراتين مطبوع عليها باحرف عبرية كبيرة، تصدم ناظريك، تشتري من البضائع الاسرائيلية وتدفع بالعملة الاسرائيلية، وتستخدم الوقود المستورد من اسرائيل، نظرا لان الوقود المهرب من مصر لا يتجاوز الـ 90 اوكتان (بحال كان سوبر) او اقل، اضف الى انه مضروب بمادة الكلور.
حين تتحدث مع شبان غزة المقاومين يخبرونك انه اتصل بهم فلان بالمخاشير، عفوا، ما هو المخاشير؟ ينظر احدهم الى الاخر، ما اسم المخاشير بالعربية؟ ماذا تقولون انتم في لبنان؟ لاسلكي؟؟ مخاشير اذا هو جهاز الاتصال اللاسلكي الذي يكاد لا يعرف مقاومون من الجهاد الاسلامي (او حماس او فتح) اسمه بالعربية، ثم يخبرك شاب اخر عن حادث وقع على الرمزون مع مشفا ما ادى الى … لحظة ما هو الرمزون؟ وما المشفا؟ اشارة السير وجبالة الباطون، بالعبرية طبعا.
تتعدد الكلمات المستخدمة في اللهجة الفلسطينية المحكية، يضيق احد المقاومين ذرعا بما نسأل، فيطرح حجته، في لبنان انتم ثقافتكم فرنسية لان الفرنسيين احتلوكم، نحن هنا ثقافتنا عبرية، انتم تستخدمون كلمات فرنسية، ونحن نستخدم كلمات عبرية.
لم يتوقف الامر على الكلمات العبرية، الاثنين في العاشر من كانون الاول تتوغل اليات اسرائيلية داخل القطاع، بضع عشرات من الامتار، او مئة ربما باتجاه كوسوفيم، المكان الخالي للمستعمرة القديمة التي حملت اسم “الجذور” بالعبرية والتي انسحب منها الاسرائيليون لاحقا. بعد حوالي الساعة او يزيد نمر في المكان، كان الاسرائيليون قد انسحبوا، وعاد اطفال صاحب الارض للركض في المكان، وعلى طول الشريط تمر اليات اسرائيلية، بينما نمشي برفقة اصدقاء فلسطينيين، ونتقدم باتجاه المواقع الاسرائيلية، ويؤكد لنا الاصدقاء ان الاسرائيليون وبعد الحرب الاخيرة كفوا عن اطلاق النار على من يقترب من الشريط، وانهم قبلا كانوا يطلقون النار حين اقتراب اي كان لمسافة اقل من 600 متر بينما اليوم يتركون من يشاء الاقتراب حتى مسافة 300 متر، ولكن بعدها؟ بعدها يطلقون النار. اذا هناك 200 متر فارق.
وفي البحر ايضا، اصبحت مطاعم السمك في غزة تقدم لك وجبات الطعام ويخبرك صاحب المطعم ان هذا السمك اصطيد في الاميال الاضافية التي تمكن الفلسطينيون من الصيد فيها، وهي اميال دفع الى اليوم 11 من الصيادين ثمنها اعتقالا من الزوارق الحربية الاسرائيلية.
الغزاويون يتحدثون عن لبنانيين يقاتلون على الخطوط في الجبهات، لبنانيون من اولئك الذي يطالب البعض في لبنان بحل قضيتهم الانسانية، هنا يطلقون النار ويقتلون الفلسطينيين بانتظار ان يعودوا الى وطنهم مع تعويضات جيش الدفاع الاسرائيلي، اما في غزة فان وجود هؤلاء “عادي” ايضا وايضا.
في المنازل لا يمكن ان تفتح خزانة مطبخ دون ان تجد الحروف العبرية، الحرف اليف هنا، وجود اسرائيل اكثر من اليف، انه “عادي” وحين نتحدث عن الجودة فان المثال هو اسرائيلي، تلك الدولة التي تقتل من ابناء فلسطين كل من رفع رأسه، وتتعمد استعراض خبراتها التقنية العالية في الحرب على الفلسطينيين، فترمي من يحمل جهاز خليوي بناء على الرقم، حتى لو كان الجهاز مطفاء، ليفهم المقاومون انهم يقاتلون دولة متقدمة وقادرة، بينما الفلسطينيون يتحدثون عن الانا والنحن بقلة تقدير ويكررون “نحن لا نحب انفسنا ولا نحب بعضنا”.
ولكن معلمي الاسرائيلي يحبني، يقول عامل بناء، اشتغل لاكثر من عشرين عاما في اسرائيل منشئا لمستوطنات لحساب متعهد اسرائيلي، قبل ان تغلق السبل في العبور نحو اراضي الدولة الاسرائيلية، ومعلمه هذا لا يزال يتذكره ويرسل له المال بين حين واخر علما انه ومنذ اكثر من خمسة اعوام لم يعمل لديه.
القصة تتكرر هنا، وتسمعها من اكثر من طرف، عن عمال لا يزال ارباب عملهم الاسرائيليون يرسلون لهم الاموال ويتصلون بهم ويسهلون لهم امورهم الصحية خاصة، فالقطاع الطبي في مناطق غزة ليست على مستوى عال من القدرة، كما ان العديد من المواد قد لا تتوافر دائما.
في مقابل هذا تجد الكبار في السن الذين لا يزالون يرفضون اي عمل في اسرائيل، يخبرونك عن حالة رفض، لم تعد موجودة لدى الجيل المتوسط، بينما الجيل الشاب يعي اليوم على وضع لا يطرح امامه خيار العمل في اسرائيل، ولكنه وبدل العمل مقابل مئة دولار في اليوم (384 شيكل) في اماكن بناء وبظروف عمل مقبولة، عليه ان يعمل في الانفاق مقابل المبلغ نفسه ولكن بظروف يمكن ان تؤدي الى الموت.
في البحر تقف اسرائيل بطريق رزق الفلسطينيين وفي البر ايضا، وفي الجو، وعلى طول القطاع وعرضه الذي لا يتجاوز مسافة اربعة كيلومترات في بعض المناطق من البحر الى الشريط الاسرائيلي الشائك، وفي الاسواق، وفي الصيدليات، وفي الحديث اليومي، وحين ترتاح غزة فانها تأكل من الصناعات الاسرائيلية، وحين تبدأ الحرب فانها تعيش تحت نيران اسرائيل.
لم تعد المسألة اذا ما كان لدى حماس صواريخ ام لا، اسرائيل تستمر بكي الوعي الفلطسيني، والتعامل مع المناطق المحررة كمزرعة تابعة لها، لا شيء يمكن ان يوقف هذا الواقع الخانق لا شيء الا المزيد من التغيير في كل شيء، هذا المارد المكبل في غزة يجب ان ينفجر غيظا ليغير كل شيء، كل حياته وكل افكاره الاجتماعية، كل طقوسه، وكل قواه السياسية.
حينها يمكن القول ان غزة حرة ومحررة وغزة خطوة اولى نحو تحرير كل فلسطين.
اللعنة على كل اتفاقات التسوية واللعنة على نتائج المفاوضات
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة