ماذا بعد الثورة؟
إن التقلبات التي عرفتها دول الربيع العربي تدفع المراقبين إلى إعادة النظر في الحماسة التي ميزت الصحافة والحكومات الغربية في نظرتها إلى هذه الثورات. في ذلك دليلٌ على جهلٍ عميق لحقيقة وواقع المجتمعات العربية. الحذر عاد إلى الواجهة. كيف ستفسر الحكومات الغربية لشعوبها دعم ثورات أوصلت «الإسلاميين» إلى السلطة. أو كيف ستفسر هذه الحكومات إنفاق ملايين الدولارات لنتيجة كهذه؟ ولكن الأكثر صعوبة يبقى تفسير الدعم الذي أعطته هذه الحكومات على مدى عقود من الزمن إلى الطغاة بإسم الحرب على الإسلاميين المتشددين وعلى الإرهاب من أجل أن يصل نفس الإسلاميين في نهاية المطاف إلى الحكم بسبب الضغط الغربي، إن كان دبلوماسياً أوعسكرياً.
ما الذي تغيّر منذ كان بن علي أو مبارك من الحلفاء، أو منذ ما كان القذافي يستقبل في كل العواصم الغربية؟ إن طبيعة هذه الأنظمة الاستبدادية لم تكن سراً على أحد، التنسيق والتعاون بين أجهزة الإستخبارات الفرنسية، البريطانية أو الأميركية مع أجهزة الأمن المتعددة لهذه الأنظمة كانت علنيةأيضاً. تلزيم التحقيقات، الاستجوابات والتعذيب على أنواعه، كان يحدث بشكل منتظم.
مكافحة الإرهاب تحولت إلى مكافحة الطغاة لشعوبهم، ما غذى الإرهاب والحركات الأصولية. إن الحرب على الإرهاب أصبحت سبب حياة الأنظمة المستبدة، التي لم تتهاون في قمع شعوبها وفي مبالغة خطر الحركات الإسلامية على أنواعها من أجل تبرير القمع الدموي على مدى عشرات السنين.
إذا «تميزت» دولاً مثل الولايات المتحدة بعدم فهمها للواقع العربي والإسلامي، فلايمكن تفسير عدم وعي دول ٍمثل فرنسا أوبريطانيا لأخطار اللعبة السياسية الحالية. إنالمثل الأفغاني ليس ببعيد، أوسامة بن لادن، وإن كان ميتاً، لايزال حاضراً في الأذهان.
ماهي الأمور التي يجب أنت ؤخذ بالحسبان لتقدير الموقف؟ من هم الأشرار ومن هم الأخيار، كما يقول أصدقاؤنا الأميركيون. هل شخصٌ مثل عبدالحكيم بلحاج مقاتل من أجل الحرية أو إرهابي؟ ما الذي تغير منذ القبض عليه من قبل المخابرات البريطانية وتسليمه إلى القذافي؟ المسؤول العسكري لطرابلس يتحضر لرفع دعوى قضائية ضد الدولة البريطانية، لأنه مثل الكثيرين قبله تعرض للإذلال والتعذيب والحبس على أيدي رجال القذافي.
أكثر من ذلك، العديد من الخبراء والاختصاصيين يجزمون إن إزاحة بلحاج هي التي أدت إلى التقارب بين مجموعته والقاعدة، بعدما استولى المتشددون على زمام الأمور. الجدير بالذكر هو أن هذه المجموعة المقاتلة هي التي وضعت متفجرةً (في مدينةسرت عام١٩٩٦) كادت أن تودي بحياة العقيد الليبي. هل هذا التفجير كان محقاً، طبعاً لا إذا نظرنا إلى الأمور من المنظار السائد في ذلك الوقت… من غيرأن ننسى أن أول عملٍ عسكري للثورة الليبية كان تفجيراً إنتحارياً على بوابة ثكنةبنغازي؛ وهو أمر لم يلق تغطية تذكر من قبل الإعلام الغربي في سرده وقائع الثورة الليبية.
ما هي تطلعات العواصم الغربية؟ لما التعجب عندما يعلن مصطفى عبدالجليل أن الدستور الليبي الجديد سوف يكون متناغماً مع الشريعة الإسلامية. فإن رجالات ليبيا اليوم، إن كانوا مدينين لباريس، للندن أو لواشنطن، فهم مدينون قبل كل شيء إلى المقاتلين الذين أوصلوهم إلى السلطة. هؤلاء هم نفسهم الذين قمعهم وقتلهم نظام القذافي لعقود، بينما كان العديد من أركان النظام الجديد من الموالين للقذافي ومن المبجلين بالكتاب الأخضر.
لما التعجب عندما نرى أن حزب النهضة في تونس نجح نجاحاً ساحقاً. خيارالشعب التونسي ليس خياراً إحتجاجياً بل خيار يبيّن عن إلتزام سياسي. لأنه بينما كان العالم يسلح نظام بن علي ويدعمه، كان مؤيدو حزب النهضة يسجنون ويقتلون على أيدي رجالات هذا النظام. الشعب التونسي لم ينس، كيف لشعبٍ قهر لعقود أن ينسى. ما هو البديل الذي نؤمنه للتونسيين أو للشعوب العربية المنتفضة؟ التغيير لا يؤمن الخبز اليومي، الحرية لا تحسن الضمان الصحي ولا الحياة اليومية لملايين العرب الذين ليس لديهم إنترنت ولا الوقت لمناقشة الديموقراطية والأمور الفلسفية… لم التعجب عندما نلحظ قوة الإخوان المسلمين في مصر بعد الثورة؟ فإنهم منظمون ومتجذرون في المجتمع المصري، ممثلوهم في كل مكان، في الأحياء الفقيرة المنسية منذ سنين من قبل الدولة وأجهزتها. كيف يمكننا أن نتخيّل أن الإخوان المسلمين سيتبخرون من المشهد السياسي بمجرد أن قرر الغرب أن ربيع العرب قد بدأ وأن الديموقراطية هي الرابح وإنه من غير الممكن أن تختار الشعوب العربية الإسلاميين لأن المثال الاقتصادي والسياسي الغربي يحتذى به.
لا يجوز الظن أن مجرد دعم الغرب للثورات العربية سيجعل سجله ناصع البياض بالرغم من عقود القمع في الحرب على الإرهاب وعلى المد الشيوعي قبله. الرؤية على المدى البعيد غير واضحة بتاتاً، ولكن ما هو واضح هو أن الغرب فقد المبادرة. من أجل أن تكون هذه الثورات مثمرة وبناءة يجب التركيز على التنمية، لأن الفقر يولد التطرف. لا يجب أن ننسى أنه بالرغم من الأموال التي ضخت في أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين، فإن أحزاب اليمين المتطرف تسجل أعلى مستويات في هذه البلاد. لا يجب أن ننسى أيضاً أن أدولف هيتلر جاء إلى الحكم بعد انتخابه ديمقراطياً.
لا يجب تكرار نفس الأخطاء بدعم الأنظمة أياً كانت، يجب دعم الشعوب عبر التعليم والتنمية والتأمين الصحيّ… فإن هذا هو الرهان الصحيح، لأن هذا السبيل يمكن أن يفيد أوروبا التعبة وأن يوظف طاقات الدول العربية الهائلة وأن يحسن وضع شعوبها.
إذا أردنا نهايةً سعيدة لايجب تكرار نفس الأخطاء، لأنه ليس بمجرد أن هلّل الليبيون للرئيس ساركوزي أو لرئيس الوزراء كاميرون، أصبحوا مغرومين بالغرب.
لأن التاريخ لا ينسى وإن كان للرجال ذاكرة إنتخابية قصيرة. فكرة أخيرة أظنها ضرورية نسبةً إلى التطورات الأخيرة في ليبيا، في تعليقه على أخر التطورات، قال ماثيو مابين (صحافي للقناة الفرنسية فرانس٢٤): «مصراته المدينة الأكثر تضرراً في الحرب الليبية بعدحصار دام ثلاثة أشهر… ولكن تضررها لايوازي تضرر مدينةسرت التي سويت بالأرض». ما يدعو إلى التفكير عندما نذكر أن العالم دخل الحرب لتفادي نفس المصير لمدينة أخرى: بنغازي.