العقوبات على إيران: الأشد في التاريخ
في أول أسبوع للرئيس الأمريكي باراك أوباما في الرئاسة قال إنه سيمد يده إلى زعماء إيران إذا خففوا مواقفهم وأقنعوا الغرب بأنهم لا يسعون لصنع قنبلة نووية.
لكنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن وهو ما دفع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عام 2012 لأخذ خطوة كانا يحجمان عنها لفترة طويلة وهي فرض عقوبات تجارية للضغط على عصب الاقتصاد الإيراني وهو إيرادات النفط.
وهكذا أضحت حربا مالية تنطوي على مخاطر كبيرة. فحتى وقت قريب كانت إيران رابع أكبر مصدر للنفط في العالم حيث كانت تقدم نحو ثلاثة بالمئة من إجمالي المعروض في السوق العالمية. وكان من المحتمل أن تؤدي الجهود الرامية إلى حجب هذا النفط عن السوق إلى دفع أسعار النفط العالمية للارتفاع وإحداث اضطراب في نظام المدفوعات الدولي والضغط على التعافي الاقتصادي العالمي الهش. وفي عدة مقابلات وصف مسؤولون أمريكيون وأوروبيون كبار المناورات الدبلوماسية التي قاموا بها لإصدار العقوبات بدون إحداث صدمة في سوق النفط.
وأبلغ أوباما حلفاءه أن العقوبات النفطية هي السبيل الوحيد لتفادي حرب جديدة بين إسرائيل وإيران. وضغط مبعوثون أمريكيون على مسؤولين عراقيين وليبيين ومن قبلهم مسؤولين سعوديين لزيادة إمدادات بلدانهم من النفط الخام. وحاولت واشنطن وحلفاؤها تطمين أسواق النفط المتقلبة برسائل صيغت بعناية. وزار دبلوماسيون أمريكيون جنوب العراق للاطلاع على خطط لبناء مرافئ نفطية جديدة قد تساعد على تعويض فقد الإمدادات الإيرانية.
وقال مسؤولون أمريكيون إن التحدي كان في التضييق على صادرات النفط الإيرانية مع تخفيف مخاطر حدوث أزمة نفطية. وقال مسؤول كبير في إدارة أوباما “كنا كمن يحاول تمرير خيط في إبرة… كان الأمر دائما كرمي حجر النرد لأننا لم نكن نعلم ماذا سيكون رد الفعل.”
وبأحد المقاييس حققت المخاطرة المحسوبة نتيجة مرجوة. فإيران تفقد إيرادات بمليارات الدولارات شهريا وتدهورت عملتها بسبب العقوبات وسوء إدارة الاقتصاد. وتراجعت صادرات النفط الإيرانية 55 بالمئة في 2012 وفقا لبيانات وزارة الخزانة الأمريكية. وعوضت دول أخرى منتجة تلك الإمدادات وتراجع سعر النفط العالمي.
لكن لا يوجد حتى الآن دليل على أن الضغط حقق الأثر المرغوب وهو إقناع إيران بوقف تشغيل أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم الذي قد يستخدم في صنع قنبلة نووية. والعقوبات الأمريكية المفروضة على إيران قديمة قدم العداوة بين الحكومتين المستمرة منذ 33 عاما.
وتؤكد طهران أن برنامجها النووي سلمي وأن العقوبات غير مبررة. لكن في 2007 زادت التساؤلات بشأن البرنامج النووي الإيراني وأطلقت وزارة الخزانة في عهد الرئيس جورج بوش استراتيجية جديدة هي حظر التعامل مع البنوك الإيرانية الواحد تلو الآخر مما أجبر البنوك الأجنبية على الاختيار بين التعامل مع إيران والتعامل مع الاقتصاد الأمريكي الضخم.
وكانت الخزانة الأمريكية قد استخدمت هذا الأسلوب لتجميد أصول لكوريا الشمالية في بانكو دلتا آسيا في مكاو عام 2005 مما بعث برسالة واضحة للبنوك الأخرى. وقال دانييل جليزر مساعد وزير الخزانة لشؤون تمويل الإرهاب “تم اتخاذ قرار واع جدا.. وقلنا لنر إن كنا نستطيع تكرار ذلك مع إيران.” وسافر مسؤولو الخزانة في أنحاء العالم ومعهم قدر كبير من المعلومات المالية. وقال جليزر إنهم تحدثوا “بلغة المخاطر” مع المصرفيين والحكومات لإقناعهم بعزل إيران ماليا.
واستطاعت إيران التحايل على بعض الإجراءات. وقد وثقت رويترز كيف حصلت إيران على مكونات تكنولوجية أمريكية محظورة قيمتها ملايين الدولارات لاستخدامها في قطاع الاتصالات بواسطة شركات صينية وشرق أوسطية وإيرانية وكيف غيرت أسماء وأعلام سفنها للالتفاف حول عقوبات أخرى وكيف أخفت بعض مبيعاتها النفطية.
غير أن العقوبات تؤثر عليها سلبا وكان عام 2012 شاهدا على ذلك.
وكانت القشة الأخيرة التي جعلت فرض العقوبات النفطية ممكنا هي مواجهة دبلوماسية في تركيا في يناير كانون الثاني 2011.
فقد اجتمع ممثلون للقوى الخمس الكبرى وألمانيا في اسطنبول للقاء وفد إيراني. وأرادوا أن يعرفوا إن كانت إيران قد تلقي نظرة جديدة على اقتراح عمره 15 شهرا لنقل جزء كبير من اليورانيوم المخصب الإيراني إلى خارج البلاد مقابل حصولها على وقود لمفاعل طهران للأبحاث الذي ينتج نظائر مشعة للأغراض الطبية.
وكان من شأن موافقة طهران على ذلك أن يحرمها من نوع من الوقود يمكن تخصيبة بدرجة أكبر للحصول على مادة انشطارية للقنابل. وفي المقابل كان الإيرانيون سيحصلون على شيء كانوا يريدونه وهو وقود المفاعل وربما على صيغة تحفظ ماء الوجه لبدء مفاوضات نووية أوسع نطاقا.
لكن المفاوضين الإيرانيين في محادثات اسطنبول تمسكوا بالموقف الرافض وبما وصفه مسؤول أمريكي كبير باللهجة “القاطعة”. وسمح هذا الرفض القاطع -بعد عامين من جهود أوباما للتعاون مع الإيرانيين- لواشنطن بإقناع الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين بأن الوقت قد حان لفرض عقوبات أكثر صرامة.
وقال دينيس روس أحد كبار مستشاري البيت الأبيض في ذلك الوقت “أفقدونا الأمل في الدبلوماسية عند تلك النقطة.. جعلونا نيأس منها تماما.”
وفي أواخر 2011 أعد أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي تشريعا لاستهداف إيرادات النفط الإيرانية بشكل مباشر. فقد أرادوا أن يخولوا أوباما سلطة فرض العقوبات على البنوك الأجنبية بما في ذلك البنوك المركزية إذا تعاملت مع البنك المركزي الإيراني لشراء أو بيع النفط.
لكن فريق أوباما -الذي ضم مسؤولين كبارا من وزارة الخزانة- انقسم بشأن ما إذا كان الضرر الذي ستلحقه العقوبات النفطية بإيران أكبر مما ستلحقه بالاقتصاد العالمي أم العكس.
واعتبر كثيرون استهداف بنك مركزي خطوة خطيرة ولم يكن هذا رأي البيت الأبيض وحده. فإذا فشلت هذه الخطوة فإنها قد تسبب اضطرابات في نظام المدفوعات الدولي الذي تديره البنوك المركزية في العالم. وكانت هذه الفكرة قد نوقشت في السابق لكن بوش استبعدها.
وكتب جون هانا مستشار بوش في مايو ايار “أذكر بوضوح أن الرئيس بوش في عدة اجتماعات طلب من مستشاريه اقتراح وسائل جديدة للضغط على إيران وطرح صراحة فكرة استهداف البنك المركزي الإيراني.”
وأضاف “وأذكر بنفس الوضوح أن وزير الخزانة هانك بولسون استبعد الفكرة ووصفها بأنها ‘خيار نووي’ وتوقع أن تلحق أضرارا بالأسواق العالمية والاقتصاد الأمريكي.”
وفي 15 نوفمبر تشرين الثاني 2011 طلب مسؤول كبير في وزارة الخزانة من أعضاء بارزين في مجلس الشيوخ من بينهم روبرت مينينديز العضو الديمقراطي عن نيوجيرزي ومارك كيرك العضو الجمهوري عن ايلينوي إرجاء تقديم التشريع.
لكن في غضون أيام تقدم به الجمهوريون مما أجبر الديمقراطيين في مجلس الشيوخ -بمشاركة من وزارة الخزانة وإن لم يكن بمباركتها الرسمية- على التوصل إلى تسوية تمنح أوباما قدرا أكبر من المرونة لفرض العقوبات.
غير أن البيت الأبيض ظل مترددا. وفي 29 نوفمبر أرسل البيت الأبيض المسؤول الثاني في كل من وزارة الخارجية ووزارة الخزانة وفريق الأمن القومي يطلب من أعضاء مجلس الشيوخ على التمهل في إصدار التشريع.
وفي أول ديسمبر كانون الأول أرسل وزير الخزانة تيموثي جايتنر إلى السناتور كارل ليفين رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ لتسجيل “اعتراضه الشديد” على التشريع. وحذر من أنه قد يؤدي إلى شق صف حلفاء الولايات المتحدة فيما يتعلق بإيران ويعزز طموحات طهران النووية من خلال رفع أسعار النفط وبالتالي الإيرادات الإيرانية.
ووصلت الأزمة إلى ذروتها حين أدلى ديفيد كوهين وكيل وزارة الخزانة بشهادته أمام الكونجرس في ذلك اليوم. وقال مينينديز -وهو من أكبر المؤيدين لتقليص إيرادات النفط الإيرانية- لكوهين إن مناورات الإدارة الأمريكية لإرجاء التشريع “مشينة”.
ولم يعط السناتور مينينديز فرصة لكوهين للرد. وقال “ليس لدي أسئلة أوجهها لك. أردت فقط أن أصحح الصورة بعد أن حاولتم إبطال مشروعي.”
وصوت مجلس الشيوخ لصالح مشروع القانون الذي اقترحه ميننديز بمجموع 100 صوت موافق وبدون أي أصوات رافضة. وبعد عدة أشهر قال مسؤولون في إدارة أوباما إنهم كانوا يريدون فقط مرونة لتقليل المخاطر في الاستراتيجية الجديدة.
وقال كوهين في مقابلة بعد نحو عام من ذلك “كان الجدل في ذلك الوقت بشأن الوسائل وليس الغايات.”
وفي آخر يوم في 2011 وقع أوباما القانون لإصداره.
وقال مارك دوبويتز رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات وهي جماعة ذات ميول محافظة من أشد المنادين بفرض عقوبات على إيران “ما نتحدث عنه الآن هو الحرب الاقتصادية الشاملة.”
وكان من المنتظر أن تخسر أوروبا أكثر بكثير مما قد تخسره الولايات المتحدة إذا قيدت التجارة مع إيران. فلا يوجد تبادل تجاري يذكر بين الولايات المتحدة وإيران. لكن حجم تجارة دول الاتحاد الأوروبي مع إيران بلغ 27 مليار يورو (36 مليار دولار) العام الماضي منها واردات نفط بنحو 14 مليارا.
لكن في أواخر 2011 وتحت ضغط تهديدات إسرائيلية متكررة بتوجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية أخذ الاتحاد الأوروبي خطوات لفرض عقوبات نفطية وبحماس أكبر مما لدى البيت الأبيض.
وقال مسؤول أوروبي كبير في الأمن القومي “كنا في خوف شديد من أن تشن إسرائيل هجوما.”
ولم تظهر علامة على تباطؤ وتيرة البرنامج النووي الإيراني. ففي الثامن من نوفمبر تشرين الثاني قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إن إيران “قامت بأنشطة لها صلة بإنتاج جهاز تفجير نووي.” وذكرت أن إيران تعمل على وضع تصميم لسلاح نووي.
وفي 21 نوفمبر كتب الرئيس الفرنسي (السابق) نيكولا ساركوزي إلى زعماء القوى الكبرى لحثهم على فرض عقوبات على “نطاق غير مسبوق” تتضمن حظرا لتجارة النفط وتجميدا لأصول البنك المركزي. وقال مسؤول كبير في إدارة أوباما إن هذه الرسالة “أوقدت شرارة في كومة البارود التي ظلت تتراكم لوقت طويل.”
غير أن أوروبا كانت تعاني من أسوأ أزماتها المالية منذ الحرب العالمية الثانية وسيتطلب الأمر مفاوضات شاقة لمدة شهرين للحصول على موافقة كل دول الاتحاد.
وكانت العديد من الحكومات الأوروبية “مترددة بشكل هائل” بحسب عبارة دبلوماسي غربي. وكانت اليونان هي الأكثر قلقا. فقد كانت حكومة مؤقتة تدير شؤون البلاد في ذلك الوقت وتحاول الحيلولة دون إفلاسها وكانت تتمتع بشروط شراء مواتية من إيران التي كانت تقبل خطابات الضمان اليونانية حين كان العديد من المصدرين لا يقبلونها. وقالت أثينا إن الحظر النفطي سيسبب متاعب مالية أشد. وقال دبلوماسي غربي “لم يكن لدى اليونانيين حكومة. لم يكن باستطاعتهم أن يخبروك بقرارهم السياسي النهائي.”
وكانت أثينا تريد تطمينات بأنه سيتم توفير إمدادات بديلة. وعلى هامش اجتماعات حضرها دبلوماسيون خليجيون حثت كاثرين اشتون مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي السعوديين على التدخل. وطلب السعوديون بدورهم ضمانات مالية من المفوضية الأوروبية لبيع النفط لليونان لكنهم لم يحصلوا عليها. لكنهم في نهاية الأمر استجابوا للطلب حسبما قال دبلوماسي.
وفي يناير 2012 اجتمع دبلوماسيون من الاتحاد الأوروبي في بروكسل لتحديد التفاصيل النهائية. لكن العقوبات المالية كانت عائقا إذ أرادت عدة حكومات أوروبية أن تعرف كيف سيضر تجميد أصول البنك المركزي الإيراني بالتجارة في القطاعات غير النفطية.
ووضع الاتحاد الأوروبي استثناءات لحماية التجارة المشروعة. وفي 23 يناير أعلن الاتحاد الأوروبي أنه سيحظر على الدول الأعضاء استيراد النفط الإيراني بدءا من أول يوليو تموز وسيجمد أصول البنك المركزي الإيراني في الاتحاد الأوروبي. وحظر على الشركات الأوروبية أيضا نقل أو تأمين تجارة النفط الإيراني.
وحجبت الخطوة الأوروبية ما بين 450 ألف برميل يوميا و600 ألف برميل يوميا عن الأسواق العالمية. وعززت العقوبات الأمريكية الجديدة تلك الجهود حيث أجبرت دولا آسيوية ودولا أخرى على تقليل اعتمادها على النفط الإيراني.
وفي كل من البيت الأبيض وبروكسل ووزارة الخارجية الفرنسية ومراكز الأبحاث في واشنطن وضع الخبراء نماذج للتأثير المحتمل. وهو ما أظهر مشكلة إذ لا يستطيع أي نموذج أن يتوقع كيف ستتأثر السوق بفقد النفط أو بالإشارة إلى أن النفط الإيراني أصبح الآن في بؤرة اهتمام السياسيين.
وقال روس إن بعض مستشاري أوباما قدموا تحليلات تقول إنه سيحدث ارتفاع كبير لأسعار النفط مما سيضعف التعافي الاقتصادي الأمريكي. ورد آخرون على ذلك بأن السوق وضعت في حسبانها بالفعل علاوة مخاطر مرتبطة بإيران وأن الطلب العالمي على النفط سيظل ضعيفا لفترة من الوقت.
وقال روس “بين هذين التنبؤين المتضاربين كان من الصعب أن نعرف.”
وأفاد تحليل مشترك لألمانيا وفرنسا وبريطانيا مؤرخ في 16 ديسمبر 2011 وتم توزيعه على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أنه “يستحيل التنبؤ بشكل كامل” بتأثير حظر تجارة النفط الإيراني.
وذكر التحليل الذي حصلت رويترز على نسخة منه والذي لم يرد في وسائل الإعلام قبل ذلك أنه قد يحدث ارتفاع محدود في الأسعار لفترة وجيزة.
لكنه أضاف أنه إذا اعتبرت الأسواق الحظر حلقة أولى في سلسلة من الاضطرابات “فقد تحدث زيادات في الأسعار في نطاق بين عشرة دولارات و20 دولارا للبرميل لفترة تقارب ثلاثة أشهر.” وقد يضطر الاتحاد الأوروبي لاستخدام مخزونات الطوارئ لخفض الأسعار.
ولم تكن إيران وإسرائيل تساعدان في هذا الصدد.
ففي 28 ديسمبر 2011 هدد قائد القوات البحرية الإيرانية حبيب الله سياري بإغلاق مضيق هرمز ذي الأهمية الاستراتيجية قائلا إن ذلك سيكون أسهل من “شرب كوب من الماء”. وقال مسؤول أمريكي إن الإيرانيين كانوا يحاولون دفع أسعار النفط للارتفاع لتعويض انخفاض الصادرات.
وقال مسؤول كبير في إدارة أوباما إن الولايات المتحدة بعثت برسالة قوية إلى الإيرانيين مفادها أنها لن تسمح بإغلاق المضيق.
وأدت تهديدات إسرائيل بتوجيه ضربة لإيران بتعقيد استراتيجية الحلفاء أكثر من ذلك.
وفي الرابع من مارس اذار اعتلى أوباما المنصة في المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (ايباك) الداعمة لإسرائيل في واشنطن وقال كلمة لم تكن ضمن خطابه المعد سلفا. قال “هناك كلام غير محسوب عن الحرب أكثر مما ينبغي.” وكان في الأسابيع القليلة السابقة قد قال إن “مثل هذا الكلام لا يفيد سوى الحكومة الإيرانية لأنه يدفع سعر النفط للارتفاع.”
وقبل ثلاثة أيام من ذلك كانت أسعار النفط قد ارتفعت إلى 128.40 دولار للبرميل وهو أعلى سعر في عهد أوباما. وكان الجمهوريون ينتقدونه قائلين إنه ليس حازما بما يكفي بشأن إيران. وفي اليوم التالي كرر أوباما رسالته في اجتماع في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وقال أوباما حسبما ذكره بن رودز مساعد مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض “ينبغي أن نتحدث عن ضرورة التصدي للقضية النووية الإيرانية بدون إثارة فزع أسواق الطاقة العالمية بما قد يفيد إيران.”
وعلى مدى ربيع 2012 قام البيت الأبيض والعواصم الأوروبية بحملة تصريحات لتهدئة الأسواق. وفي أكثر من مرة لمحت واشنطن إلى أنها مستعدة لاستخدام الاحتياطي النفطي الاستراتيجي الأمريكي إذا لزم الأمر.
وفي 14 مارس اذار التقى أوباما برئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في البيت الأبيض وطلب منه الدعم إذا اقتضى الأمر السحب من الاحتياطي النفطي. وفي تلك الليلة أرسل كاميرون أوامره إلى لندن بإجراء الاستعدادات اللازمة للسحب من مخزونات الطوارئ. وأدت أنباء هذه الخطوة إلى انخفاض سعر خام القياس الأوروبي مزيج برنت دولارين لينزل دون 123 دولارا للبرميل.
لكن الأسعار ظلت مرتفعة. وقالت مصادر في قطاع الطاقة إن مسؤولين في البيت الأبيض قرروا أنه إذا ظل خام برنت عند 120 دولارا للبرميل أو فوق ذلك لفترة ممتدة فسيضطرون لاستخدام الاحتياطي الاستراتيجي.
في 19 مايو ايار أي قبل ستة أسابيع من دخول الحظر النفطي الأوروبي حيز التنفيذ أصدر زعماء مجموعة الدول الثماني المجتمعين في كامب ديفيد بيانا مقتضبا يتعهدون فيه “بضمان تلقي السوق إمدادات كاملة وفي الوقت المناسب”.
وقال رودز إن الرسالة التي أبلغها أوباما لنتنياهو والتلميح إلى استخدام الاحتياطيات الاستراتيجية وبيان مجموعة الثماني “كلها كانت أساسا لتفريغ الهواء من بالون أسعار النفط.”
وكان أوباما قد شكل في يناير لجنة خاصة للإشراف على تنفيذ العقوبات. وكان الهدف هو حث الدول المنتجة الرئيسية على ضخ مزيد من النفط وحث أكبر المشترين للنفط الإيراني مثل الصين والهند وتركيا واليابان على تقليل مشترياتهم.
وضمت اللجنة -التي عقدت اجتماعات أسبوعية- في عضويتها مساعدي مستشاري الأمن القومي دينيس ماكدونوه ومايكل فورمان المتخصصين في الاقتصاد الدولي وبرايان ديس المسؤول في البيت الأبيض لشؤون السياسة الاقتصادية الداخلية. وكان ديفيد كوهين وكيل وزارة الخزانة وكارلوس باسكوال مسؤول الطاقة في وزارة الخارجية -الذي لعب دورا محوريا في المحادثات مع الدول المنتجة والمستهلكة للنفط- من اللاعبين الرئيسيين أيضا.
وظلت السعودية -التي تمتلك أكبر فائض في طاقة إنتاج النفط في العالم- لعدة أشهر تلمح إلى أنها ستساعد في سد الفجوة في سوق النفط.
وقال مصدر مطلع إن رسالة السعودية كانت “أعطونا الزبائن ونحن سننتج النفط.”
وقال مسؤولون ودبلوماسيون إن السعوديين اعتبروا تحركهم دعما للنمو الاقتصادي العالمي متمسكين بموقفهم القائم منذ فترة طويلة في الامتناع عن استخدام سلاح النفط ولو كان ضد إيران خصمها اللدود.
وضاعف وزير البترول السعودي علي النعيمي جهوده لإقناع التجار بأنه جاد في كبح جماح أسعار النفط. وفي أواخر مارس دعي ستة محللين بارزين في قطاع النفط للقاء مستشار للنعيمي في لندن وقيل لهم إن عليهم أن يعوا الرسالة وهي أن العوامل الأساسية للسوق لا تبرر الأسعار المرتفعة.
وعززت السعودية إنتاجها إلى أعلى مستوى في 30 عاما فوق عشرة ملايين برميل يوميا في مايو وظل مرتفعا حتى أكتوبر تشرين الأول. وبحلول نوفمبر تشرين الثاني كانت أسعار النفط قد تراجعت 20 دولارا للبرميل من مستواها المرتفع في مارس.
وكانت هناك جهود أخرى. فقد فتح فصل جديد في دبلوماسية الطاقة الأمريكية حين سافر باسكوال ودبلوماسيون أمريكيون آخرون إلى بغداد ثم إلى البصرة في نوفمبر 2011 للاطلاع عن قرب على تفاصيل الخطط العراقية لزيادة طاقة تصدير النفط.
وقال مسؤولون مطلعون على هذه الزيارة إن الأمريكيين عاينوا البنية الأساسية لقطاع النفط العراقي.. هل المضخات جاهزة لضخ الإمدادات الإضافية؟ هل ستتحمل خطوط الأنابيب القديمة هذا الحمل أم ستنفجر؟ هل يسير العمل وفقا للخطط الموضوعة لبناء مرافئ عائمة تسمح للناقلات العملاقة بتحميل النفط بدون أن ترسو؟
وقال مسؤول في وزارة الخارجية “عدنا بمزيد من التفاؤل.”
وزار باسكوال ومسؤولون في وزارة الطاقة أيضا ليبيا التي لا تزال تتعافى من الحرب الأهلية للاطلاع على اتجاهات الإنتاج. وعادت الصادرات إلى مستوياتها السابقة بوتيرة أسرع من المتوقع.
وبحلول سبتمبر 2012 كان العراق يضخ 500 ألف برميل يوميا فوق ما كان يضخه قبل عام وكان إنتاج ليبيا قد قفز من 200 ألف برميل يوميا إلى 1.5 مليون برميل يوميا بحسب تقرير لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية.
وكان لا يزال يتعين على واشنطن أن تقنع الحلفاء القلقين والمنافسين الاقتصاديين مثل الصين بإجراء “تخفيضات كبيرة” في مشترياتهم من النفط الإيراني حسبما ينص القانون الأمريكي الجديد وإلا فسيواجهون عقوبات.
وقال مسؤولون أمريكيون إن الأمر كان معقدا لأنه إذا رفضت تلك الدول بشكل جماعي فستولد العقوبات ميتة.
وتطرق أوباما ورئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان إلى قضية إيران في أواخر مارس في مؤتمر قمة الأمن النووي في سول.
واستخدم أوباما مع الأتراك والصينيين وغيرهم حجة قوية لتبرير العقوبات وهي أن البديل قد يكون حربا أخرى في الشرق الأوسط.
لكن تركيا كانت تعتمد بشدة على الطاقة التي تستوردها من إيران.
وقال رودز “إذا نظرت إلى حجم النفط والغاز الذي يستوردونه من إيران ستدرك أنهم لا يستطيعون وقف ذلك وحسب. لديهم اقتصاد عليهم تسييره.
“لذلك سيحدث الأمر لديهم على مراحل وبشكل تصاعدي. وقد كان لنا ذلك.”
وخلال المفاوضات تحاشى الدبلوماسيون الأمريكيون طلب تخفيضات محددة في واردات النفط الإيراني بل سألوا تلك الدول عما تستطيع أن تقدمه.
وقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأمريكية “في أي من هذه الحالات لم نقل إن عليكم أن تخفضوا (الواردات) 15 بالمئة أو 18 بالمئة أو 20 بالمئة.”
ودارت محادثات بشأن إمدادات بديلة ومدى ملاءمة تلك الأنواع من النفط الخام للمصافي القائمة وبشأن السعر.
وكانت إحدى النقاط الغريبة في المحادثات أن واشنطن لم ترغب في أن تقوم أي عاصمة بخفض وارداتها بوتيرة أسرع من اللازم أو أن تتوقف عن شراء النفط الإيراني بين ليلة وضحاها إذ أن هذا قد يسبب اضطرابا في الأسواق.
وتراجعت الواردات الشهرية للصين والهند -أكبر المشترين من إيران- من الخام الإيراني أكثر من 30 بالمئة في الربع الثالث من 2012 مقارنة مع الربع الأخير من 2011 وفقا لأرقام من مركز السياسات غير الحزبية ومقره واشنطن. وقلصت اليابان -ثالث أكبر مستورد للنفط الإيراني- مشترياتها بنسبة 56 بالمئة خلال نفس الفترة. وقلصت كوريا الجنوبية وارداتها بنسبة 82 بالمئة وتركيا بنسبة 19 بالمئة.
وحين ضاق الخناق هبط الريال الإيراني إلى أدنى مستوياته في التاريخ مسجلا 38 ألف ريال للدولار في أوائل أكتوبر مما أثار احتجاجات عنيفة حول السوق الكبير في طهران.
ولعبت العقوبات دورا في ذلك. لكن سوء الإدارة في إيران كان أيضا من بين الأسباب. فمثلا أثار قرار إيران بإقامة مركز جديد للصرف الأجنبي فزع كثيرين ممن اعتبروا ذلك علامة على أن العملة الصعبة بدأت تنفد.
وحجم الاحتياطيات الأجنبية لدى إيران -المهمة لقوتها الاقتصادية- محل تخمينات من صانعي السياسة النقدية والتجار.
وقال تاجر عملة إيراني في دبي في أكتوبر “المحصلة أن السيولة لدى إيران تنفد”. وأضاف أن الزعيم الإيراني الراحل آية الله روح الله الخميني “قال يوما إن الموافقة على وقف إطلاق النار في الحرب بين إيران والعراق كتجرع كأس من السم. عاجلا أو آجلا سيضطر (الزعيم الأعلى) علي خامنئي لتجرع كأس من السم أيضا.”
ويتوقع العديد من المسؤولين الغربيين سرا استئناف المحادثات بشأن برنامج إيران النووي في أوائل 2013. ولن تكون تلك المحادثات سهلة. فإيران تدافع بحزم عن حقها في تخصيب اليورانيوم لما تقول إنها أغراض سلمية. ويقول المواطنون الإيرانيون بما فيهم أولئك الذين لا يشعرون بالرضا عن زعمائهم إنهم يدعمون البرنامج.
لكن العقوبات التي جرى إعدادها في السنوات الماضية بحيث لا تلحق ضررا واسع النطاق بالشعب الإيراني تسبب ضررا ملموسا في الوقت الراهن. وستدخل عقوبات أمريكية جديدة حيز التنفيذ في فبراير شباط المقبل ويعمل المشرعون الأمريكيون على إعداد مزيد من العقوبات. ومساحة الدبلوماسية آخذة في التناقص. وفي خطاب لنتنياهو أمام الأمم المتحدة في سبتمبر أعطى رئيس الوزراء الإسرائيلي موعدا نهائيا تقريبيا لتلك الجهود هو صيف 2013.
وقال أوباما للصحفيين بعد أسبوع من فوزه بفترة رئاسية ثانية “فرضنا أشد العقوبات في التاريخ”. وأضاف أنه سيحاول مجددا فتح حوار مع إيران. وتابع “لا أستطيع أن أعدكم بأن إيران ستدخل من هذا الباب.”