تونس: علامة بيضاء نحو الديموقراطية
تمت الانتخابات التونسية لتكون أول انتخابات حرة تحصل في العالم العربي منذ خمسين سنة، إذا استثنينا الانتخابات التي تمت في الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي. الحملة التونسية كانت مليئة بالنشاط والمشاركة كانت مرتفعة، رغم كل التنبؤات المتشائمة، بحجة أن الشعب محبط لغياب التغيير، وكأن الشعوب لا تنظر إلا إلى مكاسبها المادية والمعيشية، وكأن الشعوب لا تسعى إلى الحرية والدموقرطية.
بالطبع لم تكن الانتخابات «مثالية». البعض تحدث عن وزن المال الانتخابي، خصوصاً بالنسبة للشخصية المقيمة في لندن، الذي حصل على عدد لا بأس به من المقاعد، ولكن قليلاً من الديموقراطيات نجحت في إيجاد حل للعلاقة بين المال والسياسة. يكفي النظر نحو الولايات المتحدة وفرنسا. لقد فهم التونسيون مغزى هذه الانتخابات ولاحظ معظم المراقبين، ليس فقط المشاركة القوية، ولكن العواطف الفائضة والفرحة لدى من كان ينتظر بالصف لساعات طويلة ليرمي ورقة الاقتراع في صندوق التصويت.
ولكن ها نحن أمام واقع غريب: فالبعض لا يقبل بالديموقراطية ما لم يصوت الناخبون كما يتمنى. عندما صوت الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وأختار “حماس”، سارع الغرب لفرض حصار ونظم عملية سقوطه. أن يصوّت التونسيون للنهضة دفع بعض المعلّقين، هؤلاء الذين أكدوا سابقاً بأن الربيع العربي سوف يقضي على الإسلاميين، للتساؤل بشكل خطير، رافعين المقولة القديمة التي تقول «إن العرب غير ناضجين للديموقراطية»، أو يخرجوا بما كانوا يكتبونه سابقاً من أن «زمن بن علي كان أفضل».
ولحسن الحظ، لا يسير الجميع على نفس المنهاج، إلا أن العنوان الذي رفعته النشرة الصباحية لراديو “فرانس أنتر”، الإذاعة الرسمية، غداة الانتخابات «بعد نظام بن علي جاء نظام القرآن»، يختصر بقوة مواقف الإذاعات الفرنسية كافة التي تناهض الإسلاميين بشكل بدائي.
كذلك بالنسبة لرئيس تحرير مجلة “الإكسبرس”، كريستوف باربيه، الذي سبق ووصف حرب إسرائيل على غزة بأنها «حرب عادلة»، فعنون افتتاحيته كما يلي: «بعد الربيع العربي، الشتاء الإسلامي»، ثم يكتب «إنه الخوف الذي يتسرب، بعد أن صمتت الأسلحة وارتفعت قرقعة صناديق الاقتراع. إنه خوف خجول بسبب المعاني المبطنة المطلوب كتمها، ولكنه خوف صلب، ممزوج بندم بسبب دعمنا السابق لديكتاتوريين بهدف واحد، ولكنه صالح، هو أن نجعل من شواطئنا شواطئ آمنة. إنه الخوف الذي تغديه صرخات الأقباط المذبوحين في مصر، وتغذيه أول انتخابات في تونس والوعود التي أطلقها المجلس الوطني المؤقت في ليبيا بجعل الشريعة مصدراً أولياً للقوانين. هذا الخوف هو خوف من الإسلاميين، خوف من حكم اللحى كاتم الحريات، حيث سوف يحل الإمام محل العسكري ومتسلطي الأمس».
هل هذا الكلام الذي يكتبه باربيه معقول؟ هل من المعقول دعم بن علي ومبارك وملك المغرب وجنرالات الجزائر؟ أما بالنسبة للأقباط فهل من الضروري التذكير بأن مسلمين تظاهروا إلى جانبهم وأن الجيش هو الذي ذبحهم رغم أن الجميع يقدمه كضامن للأقباط من خطر الإسلاميين؟
ويكتب باربيه في الإكسبرس: “لم تفارق هذه الخشية الفكر الغربي، ولو أن ضوضاء أعياد حقوق الإنسان رمتها وراء سوق استفتاءت الرأي منذ انطلاق الثورات في مطلع السنة. وتخرح هذه الخشية اليوم لأننا في مستنقع إيديولوجي، في مرحلة مادية ما بين سياستين، حيث خرج الدكتاتوريون ولم تستتب الديموقراطية بعد، يسعى العرب والغربيون للسلام والحرية، نشعر بأن شيئاً ما قد انتصر شيء عادل، إلا أن شيئاً آخر رهيب يتهدده اليوم. نتسائل ما إذا كان الثوار قد مهدوا الطريق لحكم الأئمة؟ (…) ونتسائل ما إذا كنا قد قدمنا المحرك الديموقراطي للقاطرة الإسلامية؟ ذلك أن فرض الوجود بعد ثورة أو حرب لا يقارن بالوصول إلى الحكم بعد انتخابات: فالسلفيون يمكنهم غداً الجزم بأنهم حاملو الشرعية، تماماً مثلما يحملها الغربيون. فبماذا نجيب؟”
أقول له سوف نجيب بأن هذه هي أصول اللعبة الديموقراطية. وهذا ما يفعله اليساريون في التونس الذين يستعدون للحكم إلى جانب الإسلاميين. سبب ذلك معرفتنا بأن الانتخابات الحرة سوف تعطي في العالم العربي وزناً لكافة الإسلاميين بكافة شرائحهم (وهي مختلفة، فالنهضة ليست مثل الإخوان في مصر أو في المغرب). فالخيار بين اثنين لا ثالث لهما إما العودة إلى الديكتاتوريات التي دعمها الغرب بلا أي تردد، أو ثقة في الديموقراطية بالشعوب التي رغم أنها مسلمة تطمح للحرية وليس لديكتاتورية من طراز طالبان.
مثل باربيه عديد من المعلقين أظهروا إسلامفوبيا رهيبة أكان جان دانيال في “نوفيل أوبسرفاتور”: «تونس انتصار مبرمج للإسلاميين»، الذي يعود بالذاكرة إلى انتخابات الجزائر عام ١٩٨٨ متناسياً أن الـ«١٥٠ ألف قتيل» جاؤوا بعد أن أوقف الجيش مسار الديموقراطية بعد الانتخابات عام ١٩٩٢. وكذلك ألآن جيرار سلامة في “الفيغارو”، الذي يعنون «انتخابات تونس: تحت الياسمين الصبار»، أو كارولين فوريست التي كتبت على مدونتها: «أن نقول إن النهضة معتدلة لأنه يوجد سلفيون، مثل أن نقول أن مارين لوبن من الجبهة الوطنية هي يسارية، لأنه يوجد حالقو الرؤوس».
لحسن الحظ، كل الافتتاحيات ليست مماثلة. فبرنار غيتا في “ليبراسيون” يُعنون: «غلطة العلمانيين التي لا تغتفر»، بينما عنونت “لوموند”: «ماذا لو أن الديموقراطية في تونس تمر عبر الإسلاميين».
في الواقع إن التاريخ سوف يذكر بأن هذه الانتخابات التونسية كان علامة بيضاء على طريق الشعوب العربية نحو الديموقراطية.
Alain Gresh