مالي وأفغانستان: دروس منسية
ها هو التوافق السياسي في باريس يرتسم من جديد، وهذه المرّة حول التدخل العسكري الفرنسي في مالي. فالحزب الاشتراكي (حزب الأكثريّة الحاكمة، يسار ــ التحرير)، وحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» UMP (يمين)، و«الجبهة الوطنية» (يمين متطرّف)، كلّها تدعم موقف الرئيس فرنسوا هولاند.
ولا نكاد نسمع أصواتاً معارضةً إلا في صفوف الحزب الشيوعي («التدخل العسكري الفرنسي يحمل معه مخاطر كبرى بالحرب»، الحزب الشيوعي الفرنسي، 12 كانون الثاني/ يناير)، أو في «حزب اليسار». هناك أيضاً رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيليبان الذي عبّر عن قلقه إزاء التدخل العسكري الفرنسي في مالي، من خلال مقالة رأي نشرتها جريدة «جورنال دو ديمانش» («فيليبان: كلا الحرب لا تشبه فرنسا»، 13 كانون الثاني/ يناير).
ويمكن أن نشير من باب السخرية، أنّ هذا التدخل العسكري يبدأ في الوقت الذي تنسحب فرنسا من أفغانستان (انظر «نهاية المهمة في أفغانستان» موقع Défense en ligne، ١٩ كانون الأول/ ديسمبر 2012)، فيما كان الرئيس الأفغاني حميد قرضاي في واشنطن لبحث مسألة الانسحاب الكامل (أو شبه الكامل) للقوات الأميركية. لكن هل من المؤكد أن انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان هو نجاح بحدّ ذاته؟ هل «أنجزت المهمّة»؟
لا شيء مؤكدّاً!
إنّ السلطة التي أنشئت في كابول جاءت على ظهر دبابات القوات الأجنبية، ورئيسها قرضاي عجز عن الفوز بالانتخابات الرئاسية في أيلول/ سبتمبر عام 2009، إلا بعد عمليات تزوير واسعة. لذا، فإن شرعيته لا تتجاوز إطار قبيلته والمقربين منه المنغمسين في الفساد. فمئات مليارات الدولارات من المساعدات الأجنبية اختفت في جيوب القادة السياسيين الأفغان الفاسدين. مع العلم أن جزءاً لا يستهان به من هذه المساعدات «تعود» إلى الدول المانحة.
وفي هذا الشأن، يقول موقع «أوكسفام – فرنسا»: «إنّ المساعدات الدولية لأفغانستان حجمها كبير نسبياً، لكنها تبقى إلى حدّ كبير غير فعّالة: حوالي 40 في المئة من الأموال التي خصصت للبلاد منذ العام 2001، عادت إلى الدول المانحة على شكل أرباح أو تعويضات. كما أن جزءاً كبيراً من المساعدات لا يصل إلى الأفغان الأكثر فقراً». ومن وجهة نظر اجتماعية، لا يزال الوضع مروعاً، تسوده حروب لا تنتهي. ويضيف الموقع: «حتى لو لوحظ بعض التقدم في ما يتعلق بالصحة والتعليم خلال السنوات التي تلت سقوط حركة طالبان، إلا أن التحديات التي يتعين مواجهتها في هذين القطاعين لا تزال ساحقةً».
من منكم يعتقد أنّ الحرب تساهم في تحسين أوضاع السكان؟ ما يثير السخرية هنا هو أنّ التقدم الوحيد الذي حقّق، أي الانتشار الأوسع لتعليم الفتيات، لا يزال مهدداً بشكل كبير: فالفرصة الوحيدة لعدم القضاء على الإدارة الأفغانية الحالية بعد انسحاب قوات حلف الأطلسي، هي التفاوض مع «حركة طالبان». وكما يلاحظ مسؤولو «أوكسفام»، فإن النساء هنّ الضحية الأكبر لأي مصالحة محتملة. وفي أي حال من الأحوال، من الخطأ الاعتقاد أن تحرير المرأة يُفرض بحراب الجيوش الأجنبية (أنظر كريستين ديلفي «حرب من أجل النساء؟»، «لو موند ديبلوماتيك»، آذار/ مارس 2002). فالاستعمار الغربي كان قد ادّعى أيضاً، بدوره، أنّه يسعى إلى «تحرير» النساء المسلمات.
كان للتدخلات العسكرية في أفغانستان (ثمّ العراق) عواقب إقليمية ودولية وخيمة لا نزال ندفع ثمنها حتى اليوم. إنّ هذه الحملات العسكرية التي شنّت باسم حرب بلا نهاية على الإرهاب، أدت أيضاً إلى تعزيز قوة المنظمات التي يسعى الغرب للقضاء عليها. فردّاً على التدخلات العسكرية المتتابعة، نشأ ما يشبه «طريقاً سريعاً للأمميّة المتمرّدة» الذي يمتدّ من باكستان إلى منطقة «الساحل» الافريقي، مروراً بالعراق والصومال: وعبره يمرّ المقاتلون، والأفكار، والتقنيات القتالية والأسلحة التي يتبادلها الراغبون في محاربة «الصليبيين الجدد». لقد تدرب مقاتلون عراقيون في أفغانستان، فيما اكتسب مغاربة مهارات قتالية لا شكّ فيها في العراق. إذ سهّلت الحرب على الإرهاب عملية توحيد جماعات مختلفة جداً تحت عباءة تنظيم القاعدة. ومما لا شكّ فيه، أنّه ما كان لتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي أن يتخذ كلّ هذا الحجم، لولا التدخل العسكري في أفغانستان. وهنا لا يمكن أن ننسى الحرب في ليبيا التي «حرّرت» ترسانة عسكرية كبرى، والعديد من المقاتلين الذين كان يستخدمهم (ويسيطر عليهم) العقيد معمّر القذافي. هل يفاجئنا إذاً أن الكثير من المسلمين ينظرون إلى هذه التدخلات العسكرية على أنها حملات صليبية جديدة على الإسلام؟ فكلّ تلك التدخلات منذ العام 2001، حصلت في دول إسلامية ـــ أفغانستان، والعراق، والصومال، ولبنان، ومالي، من دون أن ننسى الحربين على قطاع غزة. كل ذلك في وقت ينتشر رهاب الإسلام في المجتمعات الغربية، بشكل لم يسبق له مثيل.
كمّ من مرّة أخبرونا أنّه لم يكن يوجد خيار إلا الحرب في أفغانستان، و«أننا» كنّا ندافع عن أمن الغرب. قالوا لنا: «إن هُزمنا في أفغانستان، فسينتقل القتال غداً إلى ضواحينا». ولكن ها «نحن» سنغادر أفغانستان كأن شيئاً لم يكن، من دون أن يستقرّ الوضع هناك ومن دون الاشارة إلى الديموقراطية حتى. ولا أحد يتكلّم عن العواقب الوخيمة على أوروبا، إذ نلاحظ أنّ كل واحدة من هذه الحملات الاستعماريّة تفضي إلى مزيد من خلخلة الأمن، وزيادة التدقيق والمراقبة، ما يؤدّي في النهاية إلى انتهاكات واضحة للحريات الأساسية.
وها هي الحجّة نفسها تستخدم في مالي: لنتفادى نشوء معقل للإرهاب على حدودنا، أو ما اطلق عليه تسمية «ساحلستان» (أنظر ريبورتاج فيليب ليماري في «لو موند ديبلوماتيك»، عدد كانون الثاني/ يناير). إنّ القرار الأول الذي اتخذته فرنسا غداة التدخل العسكري في مالي، كان تعزيز خطة Vigipirate (خطّة الطوارئ الأمنية في حالات الخطر ـــ التحرير)! ألا يوكّد ذلك على أنّ قادتنا يدركون جيداً أنّ هذا النوع من التدخلات العسكرية يغذي الإرهاب بدلاً من أن يضعفه؟
بعد مرور 12 عاماً، لم يحقّق التدخّل الغربي في أفغانستان سوى الفشل التام، فيما تمخّض التدخل في العراق عن زعزعة استقرار البلد إلى أجل غير مسمّى (إضافة إلى تجذّر مجموعات متصلة بـ«القاعدة» لم تكن موجودةً قبل 2003). والسؤال الآن هو: بعد 12 عاماً إضافيّة، ما المستقبل الذي سيرسمه التدخل العسكري الفرنسي في مالي؟