طانيوس دعيبس
كلما اقترب الحدث السوري من توضيح مساراته، كلما ازدادت التسوية الداخلية الللبنانية ضبابية وصعوبة. والأمر ذو دلالات. الأولى والأهم أن لبنان بات محكوماً بموازينه الداخلية إلى حد كبير. وبما أن هذه الموازين هي في طور إعادة البناء، وبما أنها منذ العام 2005 كانت لا تزال متأثرة وشبه محكومة بموازين الخارج ( السوري-الإيراني / السعودي بشكل خاص )، وبما ان العامل الخارجي فرض تشكلها وفق منطوق صراعاته ( الإقليمية في الأساس )، وبما ان فعالية هذا العامل تلاشت او تكاد، وبما أن القوى اللبنانية لم تعد قادرة على استخدام هذا العامل بفعالية لصياغة طبيعة انقساماتها، وبما انها رأت نفسها فجأة وبدون تحضير ( بسبب إهمالها ) في مواجهة مع طبيعة مختلفة للإنقسامات وفق منطوق صراعات الداخل الأكثر تعقيداً من ثنائيات الخيانة والوطنية، الخير والشر، الممانعة والإستسلام ،إلخ…، نشهد اليوم هذا الصراع الجميل والمغري بشان قانون الإنتخاب…
وهو نموذج سياسي شبيه بالنموذج الإقتصادي الإجتماعي الذي يتمثل بقضية سلسلة الرتب والرواتب، وقبلها منذ عام تقريباً بحادثة إخراج شربل نحاس من موقع التقرير في السلطة على يد من وضعه فيه. اي أنه دليل على طبيعة وعناصر إعادة تشكل الموازين الداخلية بما يتجاوز، بل بما يمهّد للتفكيك الكامل للإنقسام العمودي السابق بين كتلتي 14 و8 أذار اللتين انتجتهما مرحلة العام 2005 – ثورات الربيع.
استخدام تعبيري جميل ومغر لوصف الصراع على قانون الإنتخاب هو طبعاً من باب الفكاهة السوداء. لكنه في جانب منه، يعكس إيجابية انكشاف طبيعة القوى السياسية المضطرة إلى إعادة التشكل داخلياً. وأسارع إلى القول إن المقصود هو الطبيعة الطائفية. كما أسارع إلى القول إن أخبث ما يعكسه المشهد السياسي السائد اليوم في لبنان هو في أنه يوحي وكأن هذه الطبيعة مستوطنة عند المسيحيين، في حين أنها في أساس المنطق الذي تستخدمه كل القوى الطائفية المهيمنة على الحياة السياسيسة من دون استثناء ( مع الإحتفاظ بحق وليد جنبلاط الذي ينفرد بالتركيز على مجلس نيابي خارج القيد الطائفي مقابل إنشاء مجلس شيوخ يحقق المساواة بين الطوائف ).
إذن، عندما تجد القوى السياسية التقليدية ( كلهم تقليديون وماضويون ) نفسها امام استحقاق الصياغة الداخلية لخياراتها السياسية الأساسية ( كدت أقول برنامجها السياسي لولا العيب والحياء )، تعود إلى أصلها : قوى طائفية. وهذا ليس اتهاماً. لأن هذه القوى تجاهر باعتمادها الدين، أو انتمائها الديني بالأصح، كركيزة أولى في بنائها السياسي، وفي تخاطبها السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي والتربوي… وعندما تعود إلى أصلها الطائفي لا يعود بإمكانها ان تبقى في 8 و14 أذار. يصبح الصراع على السلطة، وفق جوهر النظام السياسي الطائفي المعتمد، محكوماً بمنطق التوازنات الطائفية التي يقوم عليها. وهذا هو بالتحديد جوهر قانون الإنتخاب المذهبي المقترح والمسمى زوراً وبهتاناً بالقانون الأرثوذكسي. ومع انه ليس القانون الطائفي والمذهبي الوحيد المقترح، إلا انه الوحيد 24 قيراط مذاهب.
نحن امام عملية إعادة اعتبار للواقع الداخلي اللبناني، بوصفه واقعاً مأزوماً من الداخل، وليس بفعل تدخل الخارج أو الإلتحاق بالخارج. نحن، او سنصبح بعد قليل، وجهاً لوجه مع أزمة نظامنا السياسي الطائفي. ويكفي دلالة موقف حزبي القوات اللبنانية والكتائب. فهما، في التقائهما مع التيار الوطني الحر على القانون المذهبي، يعلنان اولوية مصلحة الطائفة على كل ما عداها، بما في ذلك حصول تكتل 8 أذار على الأكثرية في المجلس النيابي المقبل، الذي سيختار رئيس الجمهورية المقبل. الدلالات كثيرة طبعاً : موقف الحزبين الشيعيين من القانون المذهبي الذي لا تكفي المناورة السياسية لتبريره، الموقف من النسبية الذي لا تكفي مقولة السلاح المهيمن لتبريره، الموقف من تخفيض سن الإقتراع، إلخ.. وهكذا، تكتمل دورة الطوائف الموحَدّة، بعد انهيار الصمود المسيحي بوجه اكتمالها. النظام الطائفي يوغل في عملية تفكيك العناصر الجامعة بين اللبنانيين. وقليلون هم بين النخب السياسية من يحاولون تجنّب الكارثة…الربيع اللبناني الذي دعا إليه وليد جنبلاط ليس من فصول هذه الدورة الزمنية، ويبدو ان خريفنا سيطول…