شتائم ياسين الحاج صالح
أصدقاؤنا “الليبراليون” اللبنانيون هم من بادروا إلى كتابة وجمع تواقيع على بيان ضد عنصريين لبنانيين يعادون اللاجئين السوريين والفلسطينيين، ويحتقرون اللبنانين الأكثر انكشافا.
أصدقاؤنا “الليبراليون” اللبنانيون هم من يبادرون إلى جمع بطانيات وألبسة للاجئين السوريين.
أصدقاؤنا “الليبراليون” اللبنانيون هم من بادروا إلى التعاطف معنا، نحن السوريين، قبل الثورة ومنذ بدايتها، ولم يقصروا بالمساعدة كلما استطاعوا.
الممانعون و”اليساريون” لم يفعلوا شيئا كهذا، ولم يفكروا بمساعدة فقراء ومقهورين سوريين.
ما الذي يمنعهم من ذلك؟
جوابي ببساطة قلة الشرف. انعدام الضمير. الخِسّة.
ياسين الحاج صالح (10 كانون الثاني)
فداء عيتاني
يجلس الرجل الستيني في مقهى في شارع الحمراء وهو يردد شتائم ياسين الحاج صالح بصوت مرتفع: “اانا خسيس؟ انحن منعدمو الضمير وقليلو الشرف؟ ومن الذي يتهمنا؟ ياسين الحاج صالح وبناء على مبادرة جمع تواقيع قام بها ليبرواليون؟ هل يعلم ياسين من هم هؤلاء (…) الذين يقول عنهم ليبراليون؟
لا شك بان كلمات ياسين على صفحته على الفايسبووك شكلت صفعة قوية، وشاملة، ولكل من يرى في نفسه يساريا، او شيوعيا، او من متبعي المنهج الماركسي في التحليل او من مناصري قضايا الشعوب في العالم. ولكن ربما كانت هذه الصفعة ضرورية، يوجهها من يؤكد انه يعتبر نفسه يساريا سوريا الى اليساريين في لبنان.
“يا شباب، حطيت كلمتي “ليبرالي” و”يساري” بين قوسين، وما حطيت كلمة ممانع. هذا لأنو بعض أصدقائنا لا يتعرفون على أنفسهم في كلمة ليبرالي، ولأن “اليساريين” الذين أعنيهم هم من يحتكرون لنفسهم هذه الصفة، واللي سمتهم الأساسية هي إنو عندهم إيديولوجية كتير وأخلاق قليل. أنا لسه بعتبر حالي يساري.” هكذا يوضح ياسين في اسطر لاحقة ما كتبه اولا.
هل كان يبحث ياسين عن الشرف والضمير والرفعة لدى اليساريين في لبنان؟ او يساريي لبنان؟ ام كان يتوقع منهم همة في العمل توازي همتهم في الكلام، وموقفا مبنيا على تفكير واضح مقابل مواقفهم المبنية على الشعارات؟ وبغض النظر عما كان يتوقعه ياسين وما دفعه الى لحظة اطلاق شتيمة معممة على الكل، والى اشادة بليبراليين مفترضين، فان ما طرحه الرجل يدعو الى تفكير حقيقي.
يضعك ياسين الحاج صالح في موقف دفاعي بامتياز، نادرة هي اللحظات التي يجد المرء فيها يقف دفاعا عن فكره ونفسه وموقفه، في ظل الواقع الحالي، نحن عمليا نقف دائما في مكان الادانة فيه موجهة الى الاخرين، اولئك الذين تخلوا عن الناس لمصلحة شعارات واقوال فارغة، او احزاب انتهت مدة صلاحيتها وباتت اسيرة مستودعات تحت ارضية بانتظار ان يتم تلفها، احزاب اخرى لا تملك ما تقدمه غير تبعيتها للخارج وادعاء تمثيلها لطوائفها. سلطة فاشلة وتجار فاجرون، وفساد ممنهج بدأ مع رفيق الحريري والتوافق السعودي السوري ولما ينته بعد في ظل حكومة نجيب ميقاتي وتحالفها النائي بنفسه مع حزب الله، كل ما حولنا يدعونا الى الهجوم، الا ان ياسين وضعنا في صف الدفاع، واطلق علينا النعوت.
اليوم لم يعد من المقبول ان نقف جميعا في صف واحد، ان نقف جنبا الى جنب، بصفتنا كلنا يساريون، من اقصى يميننا الى اقصى يسارنا، ونقول ان اليساريين في لبنان هم فئة ضعيفة وفيها احزاب وافراد، وان الافراد سمتهم كذا، والاحزاب سمتها كذا.
لسنا كلا واحدا، ولا نشبه بعضنا ولا نرى الى نفس المشهد بنفس العين، ولا ننتمي الى اسلوب تفكير واحد، ولا يجمعنا شيء تقريبا، يمكن ان يجمعنا بعض المزاج وبعض اساليب الحياة، اما عدا ذلك فلا شيء يجعلنا نلتقي او يدفعنا لعمل مشترك.
خذ مثلا شتام يساري يجلس في اخر الدنيا بعد ان انجز دراساته الاكاديمية، ومن هناك يقرر (هو) من الوطني في لبنان ومن العميل لاسرائيل، ومن كان يأكل البازيلا في حضن زوجة بشير الجميل، ومن الذي اكل كبة بلبن، بينما كان هو نفسه يتمتع بالسباحة صيف عام 1982 على شاطيء صور قرب الجنود الصهاينة المحتلين، وكان كثير من ليبراليي اليوم ويسارييه ممن يحكم عليهم هذا اليساري الاكاديمي بالعمالة يعيشون تحت قصف طائرات الغزو الاسرائيلي ويتنشقون من غبار تي ان تي قصفه.
او اخر لا يرى في اليسار الا سوقا لسلعته السياسية البائرة، وحين يشتد عوده يسخر من يسار الحمرا والملاهي ويطلق صفات “الاولاد واللاهون” على كل من تجرأ على اشهار ماركسيته او يساريته، واعلان موقف مؤيد للثورة السورية او اية ثورة في العالم، ويستأنس بصفته المذهبية الى ان يكتشف مجددا حاجته لليساريين كمستهلكين لسلعته السياسية ولخطابه، فيتوجه لهم بكلام مضمونه ان الثورة السورية رجعية، بينما النظام السوري الذي يحاول وقف التاريخ من التقدم الى الامام هو التقدمي.
لم يعد يجمعنا شيء، الشعارات القديمة باتت مضغة في افواه بعض المذيعين والمذيعات في اقنية واذاعات القوى الاسلامية المتشددة في لبنان، يحاسبون بها جمهورا افتراضيا اسمه اليسار، ويطلبون منه ان يحسن التصرف، بينما اليساريون ارتضوا ان يكونوا اسما واحدا لحالات متفرقة وشديدة التصدع.
ربما ان الاوان ليعلن كل منا من هو وماذا يريد، بدل ان نترك شعبا كالشعب السوري يذبح بينما اقطاب يساريون يتمتعون برشوات متفرقة من النظام ومؤيديه في لبنان، وبات من اللازم ان يقرر اليساريون هل هم جادون في النزول الى شارع الحمراء للتضامن مع الثورة السورية حتى لو تعرضوا للضرب، ان انهم يفضلون النزول لاحتساء بعض القهوة او البيرة.
بات لا بد من الفرز، على اي من الاسس نحن يساريون؟ ولنتفق الى اي حد وما هي اسباب حملنا هذه التسمية او الصفة؟
طرحت علينا الثورة السورية امتحانا عسيرا، بعد ان ارتحنا في كسلنا الفكري وانقساماتنا الداخلية الطائفية والمموهة بشعارات وطنية لبنانية على ضفتي النزاع الاهلي. اليوم فقد فريقي الثامن والرابع عشر من اذار اي تمثيل حقيقي لمصالح الكتل الطائفية التي يستندان الى اصواتها الانتخابية والى قواها الاهلية وحتى الى دماء شبابها في الصدامات. واليوم الثورة السورية صارت ما يشبه البند الوحيد في جدول الاعمال اللبناني، وهي القضية التي تشغل المنطقة العربية حاليا، والتي يتوقف على نتائجها مستقبل هذه المنطقة ايضا – ولا مبالغة في هذا- وامام هذه الثورة لم تصدر من اليساريين اللبنانيين باغلبهم الا مجموعة من البلاهات النظرية المتشكلة في مقالات صحافية تلوي رقبة الحقيقة لتقول للقارئ وللشباب المتحمس “لهذه الاسباب نحن ضد الثورة السورية ومع النظام ونغض الطرف عم مقتل اكثر من 60 الفا من المواطنين السوريين اغلبهم باسلحة نظام الحكم في بلادهم”.
ان كان “الليبرالي” اللبناني هو ذاك نفسه الذي يحمل هذه الصفة في الغرب، فان مشكلتي معه هي في الجانب الاقتصادي، الذي يعود وينعكس على الجانب السياسي والاجتماعي، اطلاقه للحريات الاقتصادية يؤدي الى ادامة ظلم البشر للبشر، بابسط السبل هذا هو الخلاف، لا اختلاف على الصفات الموروثة، ولا القرى التي اتى منها هذا الليبرالي، ولا محبته للسيد الرئيس في الولايات المتحدة تعنينا، ولا تقلده لربطة العنق يثير اي انطباع بالكراهية او العداء.
اصلا مطلوب ممن يعتبر نفسه ليبرالي في لبنان ان يخبرنا اي من التعريفات يتبناها لليبراليته، وان نبحث ايضا اية ليبرالية تلك التي تقدس الحريات الاقتصادية، وايها تلك الداعمة للحريات الاجتماعية والفكرية والسياسية، واي من النماذج الليبرالية التي تعمل ضد مصالحنا المحلية في لبنان والدول المجاورة وفي العالم المتخلف، بدل ان نطلق الشتائم على كل من اتخذ لنفسه هذه الصفة، وربما علينا بذل المزيد من الجهد لفهم الاختلاف العميق بين ليبرالية متعددة الاشكال في الغرب، وفي كل مكان تواجدت فيه.
اما مشكلتنا مع اليساريين فهي اشد تعقيدا، لطالما دعا اليساريون الى الحرية والمساواة بين البشر، وحين نصل الى التطبيق فان المساواة تغلب على الحرية، وتصبح الحرية مؤجلة الى زمن لا يأت، ويدافع زياد الرحباني في احدى حلقات العقل زينة عن ضرب الحريات في الاتحاد السوفياتي مقابل اعطاء اسباب الحياة لمئتي مليون مزارع، في واحدة من اكثر الصور تعبيرا عن التناقض، فزياد نفسه لا يمكنه التنفس بلا حرية مطلقة، وفي المقابل فانه يبرر منع الحريات عن الناس.
الانحياز الى مصالح البشر هو ما يحدد موقعنا، لا التمسك بمجموعة من الشعارات الرنانة، فليس العداء للغرب هو ما يوحدنا، جورج ابراهيم عبدالله لا يفترض بانه يكره الغرب، ولكن مصالح شعبه تناقضت مع مصالح الحكومات الغربية، في زمن مضى، وربما حتى الساعة. الاجتياح الاسرائيلي لبلادنا هو ما اطلق مقاومتنا بصيغتها الاخيرة للعدو العام 1982، المقاومة ليست كائنا منفصلا عن مصالحنا، وليست انشودة للحالمين، انها دفع الاذى عن مصالح مواطنينا بالقوة والعنف مقابل القوة والعنف.
في لبنان المقولات اليسارية “الشوارعية” شديدة التطبيق في الحالة السورية، على سبيل المثال “اقف في الطرف المقابل لحيث يقف الاميركيون، وثورة تدعمها الولايات المتحدة ليست ثورة” طيب عظيم، ولكن اولا الولايات المتحدة لم تعادي النظام السوري بالمطلق، بل هي لا ترغب حتى اللحظة في اسقاطه، بل تمد بعمره عبر وقف مساعدة الثوار حينا واعادة ضخ المساعدات لهم حينا اخر، ثم تاليا اين كانت هذه المقولات الرائعة حين كان النظام السوري يتعاون مع الولايات المتحدة ليل نهار؟ لم يظهر على يساريينا الكبار اية معاداة للنظام السوري حينها ولا حين كان يضرب المقاومة واحزابها، ولا حين كان يمد يده مفاوضا الاسرائيليين.
والمقولة الثانية “ان هذه الثورة ليست ثورة لانها لا تشبه الثورات” فاليساريون الذين لا يشبهوننا والذين يعلو صوتهم دائما فوق صوت المعركة، مع بقائهم دائما في مكاتبهم حسنة التكييف، هؤلاء لديهم وصفة جاهزة للثورات، هي كما يعرفون او كما وصفوها لهم والديهم، الام والاب الرائعين الذين لا تزال صورهما تزين المكاتب الباذخة في الشوارع الغالية، وغير هذه الصورة عن الثورة لا يمكن ان تحمل الاسم نفسه.
ان الثورة التي لا يشارك بها اليساريون بكثافة وفعالية ستكون بحسب من يشارك بها بحيوية، هي اسلامية ان نهض بها الاسلاميون وهي سلفية ان سقاها السلفيون من جهدهم، للاسف ان كسل التفكير وتبلد الاحاسيس وتشابك المصالح مع النظام السوري قد دفعت بعشرات من المثقفين وبعض الاحزاب اليسارية المتبقية على قيد التنفس الصناعي الى انكار الثورة السورية، وهم على حافة الدولة السورية المستقبلية يلعبون بوكر على رؤوسهم وعلى مستقبل وطنهم، يعنيهم قانون انتخابي ساقط في لبنان لاعادة انتاج اسباب النهب الاقتصادي والفساد الشامل، اكثر مما يعنيهم مصير شعب كامل يتعرض للابادة ويكافح من اجل البقاء والانتصار على نظام لا يتورع عن قتل مواطنيه بالقنابل الفراغية والطيران، اليساريون اللبنانيون مشغولون باغلاق محطات تلفزة فتحت لتبث دعاية مؤيدة للنظام السوري، ومشغولون بالعودة الى طوائفهم اولا وقبل كل شيء.
الا اننا لسنا جسما واحدا، ولا نقف في طابور واحد، ولا ننظر نفس الرأي، ولا ننطلق حتى من المنطلق نفسه، البعض انطلق من الشعار، فصارت معاداة الامبريالية اهم من حياة شعبه، والبعض رأى في تقديس الماضي جل ما يتمناه فراح يحن الى ابقاء الماضي حاضرا والحاضر غائبا والمستقبل عبثا.
كيف يمكن ان اكون يساريا ولا انحاز الى مصالح شعبي؟ كيف يمكن الا اخجل من لحظات ماضية في تاريخنا ساومنا فيها النظام السوري على مقاومتنا لعدونا ونحن رضينا بالمساومة.
لا يهم ما يفعله المئات من شباب اليسار بصمت اليوم، وهم ينقلون الثياب الى اللاجئين السوريين في لبنان، او ردات فعلهم التي بقيت دون مستوى الفعل تجاه عنصرية جبران باسيل ونائلة التويني، الوزير والنائبة الحقيقية، ولا يهم ان هؤلاء الشبان يبدون اعلى التعاطف مع الشعب السوري، المهم اليوم ان نفرز بعضنا عن بعض، فليذهب من يرى في الشعارات المجوفة لكثرة الاستهلاك سبيلا وحيدا لتحديد موقفه وتأكيد وطنيته وثوريته المترفتين الى حيث يريد، وليدعم النظام السوري كما يرغب، وليبرر لجبران ونائلة ولحزب الله مواقفهم العنصرية ضد الشعب السوري، وليصطف اولئك المؤيدين لحق الشعب السوري في الحياة، وفي الحرية، وفي الحد الاقصى من العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات المنهوبة هناك الى جانب بعضهم البعض.
الشعب السوري اليوم ينتفض على ناهبيه، وينتفض على من منعه من تأدية الصلاة في حرية، وعلى من استكثر عليه مساكن عشوائية، والشعب السوري اليوم يواجه ايضا خيارات خطرة ما بين السلفية الجهادية، وما بين الدولة المدنية، الشعب السوري اليوم في محنة النزوح يطرح علينا اسئلة انسانية، وفي حركته التحررية من النظام يطرح علينا اشكالية جدية، وفي خياراته الدينية ايضا يحك ديموقراطيتنا واحترامنا للحريات، سواء الاجتماعية او السياسية او الفكرية او الفردية.
الاسئلة اكثر من ان يقدم المرء اجابة عنها في يوم وليلة، او عام او عامين، الاسئلة هي ما لا يرغب بقايا اليسار الطائفي والاحزاب المتنفسة في غرف الانعاش في تقديم اجابات معاصرة عنه.
ولكن ليس الليبراليون ممن اشتهروا بالشرف والفضيلة يا ياسين، اليساريون ايضا اشكال والوان، ولديهم ما يقولونه في الثورة السورية، وفي لبنان فان ليس كل ما يلمع ذهبا ولا كل الارض مجرد تراب.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة