النظام أساس الحضارة
معمر عطوي
ثمة تفاصيل كثيرة في حياتنا لا نعيرها انتباهاً كافياً، أو قد نتجاهلها تماماً، فيما تشكّل هذه التفاصيل، التي تبدو في عيون البعض صغيرة، أساساً متيناً من أساسات بناء الحضارة الإنسانية.
ربما كان النظام أحد أهم هذه التفاصيل، التي نظلم معناها ومدلولاتها إذا ما أبقينا تعاطينا معها على أنها تفاصيل تافهة. فاحترام النظام، بلا أدنى شك، معيار من معايير التزام الإنسان بصنع الحضارة.
وحين نتحدث عن النظام في لبنان، فنحن للأسف نكون قد طرقنا باباً جديداً للوجع، ولامسنا جرحاً يكاد لا يندمل بتاتاً أمام سيطرة الفوضى والبلطجة وقوانين الطوائف.
وإذا ما تناولنا قضية النظام لدى طائفة معينة أو منطقة معينة، فإننا بالتأكيد نقع في آفة التمييز والتعالي، خصوصاً أن عدم احترام النظام هو طبيعة لبنانية عامة بامتياز، لا مذهب لها ولا طائفة. وإذا أردنا أن نكون دقيقين أكثر، فإن الأصابع تشير إلى الضاحية الجنوبية على أنها خارج الدولة، بيد أننا لو قمنا بجولة الى شوارع طرابلس أو صيدا أو بعلبك أو كسروان أو حتى جبل لبنان، لشاهدنا في كل منطقة نماذج ممن يسير بسيارته عكس السير، ومن يتجاوز الإشارة الحمراء، ومن يرمي النفايات من شباك سيارته الى الشارع، ومن يدخّن السجائر أو النرجيلة وينفخ دخانها في وجه زملائه أو حتى أطفاله.
ولو راقبنا سلوك المواطن اللبناني من الناقورة حتى العريضة مروراً بعرسال والقاع والبقاع الغربي والمتن وكسروان وصيدا والنبطية، لوجدنا سارقي سيارات ومهرّبي ممنوعات ومتورطين في جرائم قتل وسلب واحتيال واضطهاد للمرأة والطفل والبيئة. ولرصدنا حالات مخالفة للتنظيم المدني في البناء، وتهرّب من دفع فواتير الكهرباء والماء وضرائب الأملاك العقارية. فما بالك بالرشاوى والمرتشين، خصوصاً أن الرشوة تتم على أعلى المستويات وأدناها. أليس من المعيب حقاً تجاهل واقع أن الرئيس الراحل رفيق الحريري قد دخل الوزارة برشوة ضباط ومسؤولي الوصاية السورية على لبنان آنذاك، وواصل مشروعه النيوليبرالي المدعوم دولياً، والذي يستهدف الفقراء والطبقة الوسطى، عبر رشوة كبار المسؤولين في لبنان، مُخصّصاً رواتب شهرية وهدايا لرئيسي الجمهورية الياس الهراوي ومجلس النواب نبيه بري ووزراء وقادة أحزاب ومتنفذين في الإدارات العامة؟
لعل الفقراء هم أكثر فضائحية في إظهار مخالفات النظام وتجاوز القوانين، لذلك نجد المخالفات بشكل سافر أكثر في الضاحية الجنوبية وأحياء صيدا الفقيرة وطرابلس باب التبانة وجبل محسن والقبة وبرج حمود وفي مناطق البقاع المنكوبة بفعل غياب الدولة ومشاريعها التنموية.
أما المسؤولين عن هذه المناطق فهم لاهون عن شعوبهم بمصالحهم الخاصة ومطامحهم السياسية والحزبية؛ لقد حاول حزب الله في الضاحية السير ببرامج تحت عنوان “النظام من الايمان”، لكن جنوح الحزب نحو السياسة الداخلية وتلهيّه بتقاسم الجبنة مع أمراء الحرب ومافيات السياسة والاقتصاد، جعله يتراجع عن متابعة هذا البرنامج، فلم تعد قضية احترام قانون السير والنظام العام أولوية توعوية على تلفزيون المنار، ولم يعد سياسيو الحزب يهتمون بقضية تعزيز أمن الفقراء وتنميتهم درءاً لخروجهم شاهرين سيوفهم بحثاً عن قوت يومهم.
ألا يدرك الحزب وغيره من المتدينين الطائفيين في لبنان، مسيحيين ومسلمين، أن النظام أهم من الصلاة والصوم وفق مقاصد الشريعة، لأن احترام قوانين السير قد يجنّب حدوث جريمة قتل، واحترام قانون عدم التدخين في الأماكن العامة قد يجنّب الكثيرين من مرضى الربو أو الحساسية الصدرية او التهابات الرئة، من الموت السريع؟
ألا يدرك هؤلاء أن احترام النظام يفرض علينا التمنع عن اطلاق الرصاص في الأفراح أو كلما خرج سياسي على الشاشة؟، لأن عدد قتلى الرصاص الطائش أصبح أكثر من عدد ضحايا الحروب.
القضية الأساس هي أن سياسيي لبنان لا يريدون تنمية المناطق ولا دعم الفقراء ولا إشعار الناس بأن لهم دولة. وهذه حالة لبنانية عامة لا سنية ولا شيعية ولا أرثوذكسية أو كاثوليكية أو مارونية أو درزية.
ومن يسلّط سهامه على الضاحية الجنوبية ليشير الى الفوضى وغياب الدولة، فلينظر الى سرقات السوليدير والأملاك البحرية والكسارات ومطامر النفايات السامة وأراضي المشاعات التي يتورط في مصادرتها كبار المسؤولين من تياري 8 و14 آذار.
نعم، النظام هو أساس الحضارة ومخالفو النظام من البرجوازية اللبنانية سواء كانت كبيرة أم صغيرة، هم أخطر وأبلغ جرماً من فقراء الضاحية وباب التبانة وصيدا وصور وبعلبك وجبل لبنان.
ولو سارت الدولة في مشروع جباية الغرامات والجزاءات والمخالفات من كل من يقطع اشارة حمراء حتى لو كان ماشياً او راكباً دراجة، أو يتجاوز السرعة أو حتى يقف عند الإشارة ما بعد خط المشاة، ولو جبت الدولة غرامات تطبيق قانون منع التدخين في الأماكن المُغلقة والذي لم يُنفّذ بضغط من سياسيين لهم مصالحهم الانتخابية او مطاعمهم ومقاهيهم الخاصة، وعاقبت كل مخالف لقانون النظافة وحماية البيئة. ولو أنها قامت باقفال مشاريع مافيات السياسة المُقامة على أملاك الدولة وغرّمت المعتدين، وعاقبت الشركات التي تتهرب من دفع الضرائب وهي كثيرة، لامتلأت الخزينة بالعملة ولأمكن عندها حل الكثير من الأمور العالقة، مثل سلسلة الرتب والرواتب ومشاريع التنمية الزراعية والبيئية والتعليم المجاني والطبابة للجميع ومعاش الشيخوخة الخ.
قد يكون هذا الكلام وهم أو مجرد حلم، لكن هو الواقع الذي لا يمكن بغيره بناء دولة حضارية، لأن النظام هو أساس هذه الدولة وما نحتاجه هو التخلص من هذه الطبقة السياسية السائدة بكل وسخها وقرفها والاتيان بدم جديد نظيف لا طائفي ولا مؤدلج، وإلا سيبقى لبنان موطناً للفوضى والعبث، وستبقى مقاهينا مظهراً لاحضارياً عابقاً بدخان النراجيل والفساد.