هكذا تكلم محمد رشيد قباني
فداء عيتاني
لم تفعل عاصفة الزواج المدني وفتح مفتي الجمهورية محمد رشيد قباني النار عليه الا ان اعلنت مرة جديدة المعطيات الحقيقية في البلاد، لا جديد فيها، ولا تطور، بل مجرد مراوحة مستدامة تكرر نفسها بلا توقف.
ما فعله محمد رشيد قباني هو انه اطلق قبل ايام (23 كانون الثاني 2013) قراءة في واقع الحياة السياسية، وهو الذي اصبح يعاني من النزاع الدائر بينه وبين تيار المستقبل الممثل الاول لطائفته، فوصف قباني البلاد بانها تعيش اسيرة لديموقراطية مزيفة تحمل ابشع عناوين الاستبداد. وفي نفس الخطاب يفند قباني النظام اللبناني واصفا اياه بما يليق لمثقف يساري ان يصفه ويراه في نظام لبنان، الا ان خاتمة البيان ذاك كانت حول الزواج المدني، الذي مهد يومها قباني لرفضه، بناء على مصالحه السياسية هو، وبناء على وصفه السلبي للنظام اللبناني، اي ان قباني بعد ان اشبع النظام اللبناني انتقادا تصرف بناء على معطيات النظام نفسه في رفض الزواج المدني.
لاحقا اصدر قباني فتواه بمنع الدفن الاسلامي عن اي مسؤول يشارك في قوننة الزواج المدني، ليست المشكلة في ان يتزوج لبنانيون لبنانيات في اطار غير شرعي بالنسبة للديانات السماوية، ولكن المشكلة ان يتم هذا الامر داخل البلاد، وان كانت الطوائف المسيحية بممثليها الدينيين وكرادلتها وبطاركتها، تصمت صمت الموافق على مواقف قباني، او على اتاحة الزواج المدني، فهي ببساطة تفضل توفير انفاسها لمعركتها الكبرى: علمانية المناصب السياسية والوظيفية في الدولة اللبنانية.
الطوائف المسيحية تدرك انها ستكون تلك المعركة التالية على لائحة انهيار النظام، وقف الانهيار سيشرف عليه المسلمون بممثليهم الدينيين، وبممثليهم السياسيين الذين سيتفاعلون بخفة مع طرح الزواج المدني، تماما كما فعل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي اعتبر ان كل الامر لا يعدو ان يكون امرا حساسا نحن بغنى عن طرحه الان.
الممثلون الدينيون للطوائف المسيحية سبق ان ابدوا اشد التضامن في معركة سابقة خاضها رفاق دربهم المسلمون ضد الزواج المدني في التسعينيات، وضد اطلاق النقاش حول الغاء الطائفية السياسية، فمنع النقاش في تشكيل مسار للبحث، وانتهى الامر بنبيه بري رئيس مجلس النواب الى تعليق البحث، داخلا في مناورات اخرى.
محمد رشيد قباني اليوم يمثل مصالحه في تكريس دوره كمفت للطائفة السنية، وهو لذلك وفي نزاعه مع تيار المستقبل، يذهب خطوة ابعد من الجميع، يسبق الشيخ احمد الاسير، وتيار المستقبل، وكافة اطراف السنة، في موقف سيكون محرجا للجميع، وسيلزمهم بلحاقه، ويكرس نفسه من جديد مفتيا للجمهورية قويا، كما كان قبل هذه الازمة الاخيرة مع تيار المستقبل.
اليوم: الاجنحة الرئيسية في السلطة في لبنان، ممثلو الطوائف اللبنانية لم يحركوا ساكنا، الامر لا يعنيهم، وربما قد يربك قواعدهم الانتخابية، لا ضرورة لنقاشه، والمشروع الموجود في ادراج ملجس النواب حول الزواج المدني الاختياري يمكنه ان ينتظر الى ما لا نهاية، لا احد يدافع عنه ببساطة لان لا مصلحة لجمهور لبناني محدد به.
الجمهور اللبناني بحسب الواقع مكون من شبكات من المصالح الطائفية، قطاعات كاملة تحتكم الى الانقسام الطائفي، وتعيش في حالة تجاور الزامية مع الطوائف الاخرى، الاغلب يعيش الخوف، وهو ما يديم النظام، الذي يمكنه ان يجدد شبابه كل مرة في انتخابات او صراعات بسيطة، تعيد طرح التوازنات المحلية بصيغة لا غالب ولا مغلوب بين قوى الطوائف، مع شطحات لبعض الخارجين من عقالهم الذين يطمحون الى حكم البلاد واحداث تحويلات (من ضمن النظام الطائفي) كما حين يُطرح اسم سمير جعجع لرئاسة الجمهورية، او يحاول ميشال عون الاستئثار بكل ما يمكن الوصول اليه من مواقع مسيحية في السلطة.
الجمهور اللبناني يعيش في توازن دقيق، حده الحرب الاهلية، او النزاعات العنفية بين المجموعات، ويحتكم الى ديكتاتوريات طائفية، تمارس الحكم شبه المطلق بين تابعيها، الا انها في المقابل تؤمن لهم الحد الادنى من مطالب الحياة في نظام الرشوة والاستئثار، ما بين تقديم رشى للعموم، وما بين تأمين خدمات من مؤسسات مذهبية هي اساسا وبديهيا من حقوق دافعي الضرائب على الدولة المدنية، وما بين احتلال مواقع في الوظائف الرسمية، واجبار الدولة على افادة مجموعات طائفية يمثلها هذا الطرف.
في المقابل يحتكم الجمهور راضيا مرضيا الى هذه التركيبة، ويجدد لها مرة كل اربعة اعوام، مدركا انه يعيش في جمهورية الطوائف والفساد السياسي، وان كل في هذه الجمهورية يسرق مستفيدا من الغطاء الطائفي الذي يوفره جمهوره له، وبناء على القدرة القتالية (الافتراضية) لهذا الجمهور، والكثرة العددية، والعلاقات (او قل التبعية) الدولية.
وربما يرى الجمهور في طروحات اليساريين كلاما طيبا، ولكن لا مكان له في الحياة الواقعية، فلا هم قادرون على تغيير واقع البلاد، ولا هم بقادرين على تأمين مورد حياتي للعباد، ولا يمكنهم ان يواجهوا حيتان الطوائف وثعالبها وذئابها، وبالتالي فان كلامهم الطيب لا يستحق الا التصفيق ان لم يتعارض مع ما يراه كبار الطوائف.
الدولة اللبنانية بصفتها الطرف الاضعف، والقوى السياسية الطائفية بصفتها الاطراف الاقوى، ترى الى حل مشكلة هؤلاء ببساطة باعطائهم حق تأليف طائفة صغيرة، مثل الاقباط، او ربما العلويين، طائفة علمانية تتوج موزاييك الطوائف اللبنانية، ليقال ان في لبنان علمانيون ممثلون بطائفة، ولكنها كالاقباط لا تملك اي قدرة تمثيلية او مقعدا نيابيا او وزاريا او حقا مكتسبا في الدوائر الحكومية والوظائف العامة، طائفة تكمل عدد الطوائف اللبنانية وتزيدها واحدة وتصطف في نفس الصف وتتحدث بنفس المنطق.
مع ان العلمانية نفسها تقتضي بالخروج من الاصطفافات المذهبية والطائفية، ولكن العقل السياسي اللبناني يحاول تعليب اي حالة شاذة لضمها الى المستوعبات المرصوفة في مرفأ المذاهب الجاهز دائما للشحن.
في المقابل ربما لا ينفع كثيرا ان نتحدث عن رافضي موقف المفتي، هؤلاء الذين لم يتجاوزوا لليوم موقع رد الفعل والانفعال تجاه ما يجري في بلدهم، وضدهم شخصيا، وضد ما يتخيلونه مصالح مواطنيهم، وما هو فعلا معادي لمصالح المواطنين اللبنانيين، هؤلاء فشلوا في تشكيل انفسهم في اطر فاعلة قادرة على التفكير المتزن وقراءة الواقع وتحديد اساليب عملهم وبناء تحالفات محلية وخارجية تتيح لهم العمل والتجدد، هؤلاء للاسف ستكون حملاتهم دائما مرحلية وموضعية وانفعالية. بينما النظام يجدد نفسه مرة بدمنا ومرة باصواتنا.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة