طانيوس دعيبس
نادرة في المشهد الذي نعيشه منذ سنوات في لبنان، اللحظات السياسية التي يمكن تسجيلها كمحطات رئيسية في حياتنا السياسية التي يكاد يأكلها الصدأ. وأنا أعتقد ان كلام سعد الحريري الأخير هو من بين هذه اللحظات.
ليس تفصيلاً الموقف الذي أعلنه الرئيس الشيخ سعد الحريري، إبن الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والحليف الأكثر قرباً من المملكة السعودية، من قضية الزواج المدني. من دون شك أن ذلك يتطلب جرأة سياسية كبيرة، ولكن الأمر يتجاوز هذه الزاوية، بالرغم من المقارنة التي تحضر إجبارياً في الذهن بين موقف الإبن اليوم وموقف الأب حين طرح الموضوع أيام الياس الهراوي، وهي بالتأكيد لصالح صورة الزعيم الشاب، القادر على صياغة مواقفه بمعزل عن أسر الماضي. إن حديثه عن “الدولة المدنية” ربطاً بموافقته على تشريع الزواج المدني في لبنان، هو صيغة تفصيلية واضحة لأحد مضامين هذه الدولة التي يتحدث عنها الجميع من دون إعطاء الأبعاد السياسية الإجتماعية الملموسة التي تحدد معناها. ولا يعني ذلك ان سعد الحريري مرجع نظري لتفسير الدولة المدنية. إنما يعني بالتأكيد أنه مقتنع كزعيم سياسي مسؤول ومعني بالشأن الوطني اللبناني، ان الدولة المدنية التي ينادي بها تتضمن بالضرورة إعطاء اللبنانيين كامل الحرية في خياراتهم الإجتماعية من دون أن يكون الدين تحديداً هو المرجعية القسرية لتلك الخيارات ، ومن دون أن يمس ذلك إيمانهم وحرية شعائرهم وخياراتهم الدينية.
لذلك تحدث عن الإعتدال أيضاً. فالأمر هو ان التطرف موجود عند المتعصبين دينياً وهو يرفضه. كما رفض من دون تردد موقف المفتي الذي اعتبره من باب التكفير. الإعتدال هو الصيغة، هو الوصفة بمواجهة التطرف. هو الصورة التي يريد سعد الحريري له ولتيار المستقبل الذي يرأسه ان يكونا عليها. أن ينظر إليهما عبرها. وليست الصورة التكفيرية السلفية المتطرفة المنتمية إلى الماضي، التي يسعى خصومه إلى جعله متماهياً معها، ربطاً بكل ما يحصل في المنطقة وبما يدار من صراعات على السلطة في الداخل اللبناني.
وقد أذهب إلى حد القول إن سعد الحريري، في كلامه الأخير، بالشكل وبالمضمون، خطا خطوة كبيرة باتجاه إخراج تيار المستقبل من ” سنيّته”. ومرة جديدة، لا يعني ذلك ان سعد الحريري ليس زعيماً سنياً، وإنما، بتمييزه بين سنيته ولبنانيته، وتأكيده على أولوية إنتمائه الوطني، يفتح كوة، ولو صغيرة، أمام حزبه السياسي، الوحيد المتعدد بقيادته وكوادره بالمناسبة بين الأحزاب الرئيسية اللبنانية ( الأحزاب العلمانية أمرها آخر .. )، لتطوير أدائه بهذا الإتجاه.
ظهرت اللحظة السياسية الهامة في الكلام عن قانون الإنتخاب أيضاً. فقد رفض سعد الحريري القانون المذهبي ( المسمى أورثوذكسي زوراً وبهتاناً ) ، ربطاً بمشهد 14 أذار العام 2005. المشهد الموحّد للبنانيين. المشهد الذي استعاد صورة لبنان الوطن الواحد والشعب الواحد والدولة السيدة الحرة المستقلة. واعتبر بالتالي أن التفتيت المذهبي هو نقيض لتلك الصورة التي يرفض أن يغادرها. إنها استعادة الأصل، ورفض التضحية به لمصلحة الفرع. وقد يكون ذلك من باب تذكير الحلفاء في جزء منه، لكنه أيضاً إعادة اعتبار للتموضع السياسي وللخيارات الوطنية التي حكمته والتي يعتبر سعد الحريري أنها لا تزال تحتفظ بكامل مبرراتها. هذا في الأساس. أما في المضمون السياسي، فإن كلامه عن قانون الإنتخاب استعاد، عبر ما أطلق عليه إسم المبادرة، الإطار المنطقي والطبيعي للأزمة السياسية المستعصية في لبنان. ليس بوصفها أزمة قانون بل بما هي ازمة نظام. الإسم الحركي الذي يعطى لها هو “الهواجس”. وهي تعني في الواقع اختلال النظام الطائفي.
مقاربة “الهواجس” المسيحية تتطلب مقاربة “هواجس” الشيعة والسنة والدروز… وهي مستحيلة إذا لم تؤخذ في سلة واحدة : مجلس شيوخ مع تعديل للدستور يحافظ على طائفية المجلس النيابي.. اللامركزية الموسعة..الدوائر الصغرى..إلخ. المهم هنا ليس في مضمون المبادرة، وإنما في شكل المقاربة : الأزمة سياسية في الأساس، ولا بد من مقاربتها بشمولية. إنها إعادة اعتبار للسياسة.
في كلام سعد الحريري الأخير شد عصب طبعاً. وفيه توجيه رسائل للخصوم وللحلفاء. وفيه إعادة استنفار الشعبية وتحفيز المناصرين.وفيه كل ما يلزم الصراع السياسي من توريات ومناورات.. لكنه إلى جانب كل ذلك، فيه جديد كثير وكبير الأهمية بالنسبة لمقاربة الأزمة اللبنانية. وقد يكون من الطبيعي أن تختلف مع أفكار واقتراحات سعد الحريري التي قالها بالأمس. لكنك لا تستطيع ان تتجاهل أنها تستفز النقاش. وهو أمر نادر هذه الأيام.