القاعدة في بلاد الرافدين: الدعاية وارض الواقع (2)
فداء عيتاني
تتردد دائما دعاية سياسية مفادها بان تنظيم القاعدة نجح في جر الاميركيين الى المنطقة، وانه قام بعمليات نيويورك في العام 2000 بغية توجيه ضربة للولايات المتحدة تدفع بها الى الهجوم على المنطقة العربية – الاسلامية، ما سيؤدي الى تثوير المنطقة كلها بوجه الغرب، ويقوي من شوكة الملسمين لمواجهة الغزاة من المشركين، ويحقق قسمة العالم الى فسطاطين كما يقول الشيخ اسامة بن لادن: فسطاط الخير وفسطاط الشر.
في الحقيقة فان القيادة السياسية والعسكرية الاميركية عملت منذ لحظة اسقاط النظام العراقي على خريطة طريق مشابهة لتلك التي تبنتها القاعدة ولكن في اتجاه مضاد تماما.
فاضافة الى الاسباب الجيوبوليتيكة التي استدعت من الولايات المتحدة اجتياح العراق واحتلاله، والاسباب المالية وحاجات تحريك العجلة الانتاجية في الولايات المتحدة وخاصة تلك العسكرية بعد كساد نسبي في الانتاج اثر نهاية الحرب الباردة، وتلك الهادفة الى نشر ثقافة الامبراطورية المنتصرة في مناطق لا تزال تعيش في عصر الستالينية، وضرورة مواجهة ايران وعزلها عن قرب، وضعف الدور الاسرائيلي الذي كان الى ماض قريب قادر على الردع والتدخل حيث يشاء في المنطقة، فان هناك هدفا اضافيا نفذه الجيش الاميركي في العراق، وهو “تعبئة الصحن بالذباب وسحقها فيه” حيث اقتضى الامر اجتذاب كل عناصر القاعدة في المنطقة الى العراق وابادتهم.
قام الجيش الاميركي بالعديد من العمليات القتالية في العراق، والعديد من الدوريات والحراك اللوجستي، ومنع تشكيل قوى عراقية مقاتلة في بداية الاجتياح والاحتلال، وحل الجيش، وفتح الحدود، وسهل وصول الاجانب، وترك الحدود شبه مستباحة، وتخلى عن ضبط العبور في مطار بغداد الدولي، ورفض مطالب العديد من شخصيات اول مجلس حكم محلي باعلان العراق منطقة مغلقة بالكامل ومنع دخول الاجانب، وتشديد الاجراءات على العراقيين.
وبعد ان رحل بول بريمر (حكم من 11 ايار العام 2003 الى 28 حزيران 2004) عن حكم العراق بقيت القوات الاميركية تمنع عمليات وقف تدفق المقاتلين العرب الى العراق، سواء عبر التهريب من الممرات البرية، او في الدخول شبه النظامي عبر المعابر الحدودية بجوازات وسمات دخول مزورة، والدخول النظامي عبر سمات دخول صحيحة. وباختصار كان هناك سماح غير معلن لقدوم الاجانب سواء المقاتلين مع القاعدة او المرتزقة في الشركات الامنية في العراق (التابعة لشركات اميركية وبريطانية وعراقية وغيرها).
في تلك المرحلة كانت القوات الاميركية تطالب سوريا خاصة بضبط حدودها المشتركة مع العراق، وتتهمها بتسهيل عبور المقاتلين العرب من تنظيم القاعدة الى العراق، وتعلن ذلك على المنابر الدولية، وتخاطب القيادة السورية سرا بضرورة ضبط الحدود ووقف تسرب المقاتلين. الا ان عمليات التدريب كانت تجري على ضفتي الحدود مع سوريا، في صحراء الانبار وفي منطقة دير الزور، حيث كان يتدرب مقاتلوا تنظيم القاعدة، وخاصة الاجانب والعرب منهم.
وكان هدف القوات الاميركية في العراق ببساطة تجميع كل القاعديين والجهاديين في المنطقة داخل حوض واحد، وتركهم ليواجهوا مصيرهم امام القوات العراقية، التي بدأت لاحقا باعدادها وتدريبها على قتال حرب الشوارع، ولا تزال تعمل وفق هذه الاستراتيجية حتى اليوم، وهي لا تزال تشرف وتساند عمليات القوات العراقية، ولكنها تواصل تدريب الجيش العراقي (الحرس الوطني سابقا) وتجهيزه لـ”مقاومة الارهاب” حصرا، حتى ان القيادات العراقية الرسمية تصرح بانه ليس لديها قوات لحماية الحدود بالمعنى النظامي، او لمواجهة مخاطر اقليمية قد تواجهها الحكومة العراقية خاصة امام الكويت.
وحرصت قوات الاحتلال الاميركية في العراق على عدم امتلاك الجيش والشرطة العراقيين اسلحة متطورة، او حتى اسلحة متوسطة قديمة، وهي لا تمتنع عن مداهمة المقرات العراقية العسكرية الرسمية التي يمكن ان تضم اسلحة متوسطة، وكل ما تملكه القوى المسلحة العراقية هو عبارة عن مسدسات، ورشاشات خفيفة، واسلحة اسناد فصيلي PKM – PKS (المشهور في العراق ببي كا سي سوفياتي الصنع)، وبعض قواذف المضادة للدروع (RPG 7)، وبعض الرشاشات المتوسطة المعدودة من عيار 14.5. بينما تمتلك كل الميليشيات اسلحة متنوعة تضم ترسانة من مخزون الجيش العراقي السابق،واطنان من المتفجرات مختلفة الاصناف، اضافة الى اسلحة حديثة جرى تهريبها من عدة مناطق، وخاصة تلك الاسلحة المصنوعة في ايران.
ويمكن، ولغرض تبسيط ما جرى في العراق، تقسيم المراحل (المتداخلة) التي مر بها كالتالي:
– الغزو والمقاومة، واستمرت منذ سقوط بغداد في نهاية شهر نيسان من العام 2003، الى نهاية معركة الفلوجة الثانية، في شهر تشرين الثاني من العام 2004، وحتى بدايات العام 2005.
– انتشار السلفية الجهادية والقاعدة، والحرب الاهلية الطائفية. واستمرت منذ مرحلة حرب الفلوجة الثانية نهاية العام 2004، ولغاية نهاية العام 2007 تقريبا، الا ان المفاعيل الحقيقة بقيت حتى منتصف العام 2008 وبداية العام 2009. وخلال هذه المرحلة تم انشاء دولة العراق الاسلامية.
– الاتفاق على ضرب القاعدة وبداية انشاء الصحوات، ومن ثم تقليص عديد الصحوات وخفض الدعم لها، واستمرت من نهايات العام 2006 وبدات تعطي نتائجها في منتصف العام 2008.
لا بد من الاشارة الى ان العوامل الدافعة الى ضرب القاعدة ليست محلية صرفة، كما ان العمليات الامنية والعسكرية القتالية، واعمال التفجير والاغتيالات التي جرت خلال الاعوام الماضية لا تشكل القاعدة مصدرها الوحيد، فالعديد من الشخصيات السياسية التي يفترض انها دخلت في العملية السياسية في البلاد قامت بتنفيذ عمليات تصفية وتفجير واغتيالات وحتى هجمات سطو، لمصالح سياسية متنوعة، كما انه لا بد من الاشارة الى حجم محدود للعمليات الاميركية في القضاء على القاعدة، وفي دعم القوى العراقية.
وعلى مستواها فان الميليشيات من مختلف الاتجاهات عملت على تقوية نفوذها عبر العمليات العسكرية والامنية، من جيش المهدي والقوى الشيعية الاخرى (فيلق بدر، حزب الدعوة، وكتائب حزب الله، وفيلق القدس في الحرس الثوري وغيرها)، الى القوات الكردية للحزبين الرئيسيين في كردستان، وكان نطاق عمل كل طرف لا يرتبط بمواقع جغرافية واضحة، حيث كانت القوات الكردية تنفذ عمليات في بغداد مثلا، كما يتهمها العديد من السياسيين والمواطنين، وكانت الميليشيات الشيعية تنفذ عمليات في قطاعات سنية شبه صافية، وكذلك القوات السنية والقاعدة تنفذ عمليات اغتيال وتفجير في قطاعات سكانية شيعية بالكامل، وبعيدة جدا عن مواقع نفوذها.
وتمكن تنظيم القاعدة من اختراق النسيج الشيعي، فجند العشرات من الشيعة في مناطق متفرقة، واقنعهم في البداية عبر اساليب التجنيد الامنية المختلفة، من اللعب على المشاعر الوطنية بمقاومة الاحتلال والاغراءات المالية اضافة الى اساليب اخرى، ولاحقا تحول هؤلاء الى مخبرين ومنفذي عمليات بالاجرة، وقوعد اسناد خلفية، وادوار متعددة تسهم في انجاح عمليات تنظيم القاعدة في العراق.
كما كان هناك ضباط شيعة من الجيش العراقي السابق يعملون في تنظيمات سنية الطابع، سواء القاعدة او قوى اخرى مثل جيش النقشبندية، وكتائب ثورة العشرين وقوات الناصر صلاح الدين، وغيرها، وكانت منطلقاتهم الرئيسية هي مقاومة الاحتلال الاميركي، وعاش هؤلاء الضباط في مناطق السنة، وارتدوا الزي العربي السني التقليدي (الدشداشة والحطة والعقال البيض)، وكانوا او بقوا فعلا محترمين في اوساطهم العشائرية والمناطقية والقروية، ان لم يكن جمعيهم فاغلبهم، خاصة مع تدهور الوضع سريعا في العراق، وعودة البعض لاعتبار ان جزء من زمن الحكم السابق كان افضل، ولو في بعض النواحي.
هؤلاء الضباط ورجال المقاومة من الشيعة الذين ساندوا المقاومة في الاعوام الاولى اختلفت مصائرهم اليوم، بين من بقي في العراق، ومن قتل، ومن ترك البلاد الى سوريا، او الى اماكن اخرى، او عاد الى العمل ضمن طائفته، ولكن نادرة تلك المصائر السهلة حيث يعود فيها المقاتلون والقياديون في الحلقات الوسطى من العمل في العراق الى حياتهم المدنية، وحتى الضباط السابقين الذين شاركوا في المقاومة من السنة، الذين لم يكونوا يوما مع تنظيم القاعدة راحت القاعدة تضربهم من جهة فتقتل اولادهم او عائلاتهم، او تقتلهم هم انفسهم وتفجر منازلهم، بينما يطاردهم النظام الجديد بصفتهم ارهابيين مؤيدين لتنظيم القاعدة او متحالفين معه، والامر ينسحب على كل من شارك في اعمال المقاومة او القتال المذهبي من جانب السنة.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة