قانون “الارثوذكسي” نعمة أم نقمة على لبنان ؟
روبير بشعلاني
ضجةٌ في صف العلمانيين اللبنانيين. يا باطل الأباطيل. المشروع “الارثوذكسي” للنسبية ضمن كل طائفة على حدة أثار ردة فعل سلبية حادة لدى العلمانيين. ليس فقط, لدى “أهل” السنة أيضاً. الطرفان يريان ضرورة “عدم تكريس الطائفية”. كلٌ لأسبابه طبعاً. لكن هذا ليس الموضوع هنا.
العلمانيون يريدون ليس أقل من إسقاط النظام الطائفي كلياً. بمن ؟ بأية قوى إجتماعية , بأي حامل إجتماعي ؟ إجمالا بالموعظة والتبخير وتبشير الكتّاب والمحللين الكبار في الصحف والمنابر ونصحهم ل “آل” الطوائف ب”مصلحة” البلاد العليا. “الطائفية عيبٌ ومرضٌ عضالٌ – تفوووووووو- قد يكون رجسأ من أعمال المستعمر زرعه فينا قبل ذهابه ويؤدي الى نزاعات أهلية, وأما الدولة, دولة المواطن فأجمل بكثير” يقول باختصار شديد “أهل” العلمانية.
على اي حال وبما أن النصيحة بجمل عملة لم تعد رائجة و”إسقاط الطائفية” مسألة مبدأ وليس مهمة للتطبيق العاجل اليوم وهي تعبير, على الأغلب, عن قصور نظري عميق في فهم عمران بلادنا البشري يقي صاحبه عناء اتخاذ مواقف واقعية تخرجه من “فقاعة” الأوهام النظرية التي أسقطته هو قبل ان يسقطها, فتعالوا نتدارس كيف يمكن اليوم لتيار تقدمي علماني واقعي أن يرى الى المشروع الارثوذكسي وأن يستفيد منه للخروج من العزلة السياسية المفروضة عليه من الطوائف ومن قلة حيلته أيضاً.
يطرح هذا المشروع باختصار شديد فكرة أساس تقوم على انتخاب كل طائفة لنوابها على اساس النسبية. شخصيا لا يهمني من الموضوع الآن المناصفة والعدد الإجمالي لكل طائفة فهي مسائل على أهميتها عرضة للأخذ والرد والتعديل, وفقاً لميزان القوى الديمغرافي والسياسي اللبناني وفي المحيط كذلك, لكن من بعد الموافقة على الفكرة الأم. تعالوا نفترض أن عمراننا البشري – فرضية – قائم على القرابة الرحمية والدينية ( عشائر قبائل وطوائف) وان القرابة هذه متحد إجتماعي تام التكوين يتعاطى مع غيره كمتحد تام التكوين أيضاً, فهل يمكن, والحال كذلك, اعتبار المشروع الارثوذكسي مشروعا تقدمياً ؟ نعمة أم نقمة ؟ سيما وأن حجة تثبيت وتكريس الحالة الطائفية تسقط في هذه الحالة لأنها ليست من بنات افكاره بل من معطيات المجتمع كما هو بتركيبته المادية.
أولى الإيجابيات التقدمية في هذا المشروع , بانتظار إسقاط النظام الطائفي كلياً, وهو غير ممكن برأيي إلا بإطار مشروع عربي جامع, هي النسبية, ضمن الطائفة حتماً, لكنها النسبية التي تتيح للجميع, طائفيين وعلمانيين, إمكانية تمثيل حساسيتهم الفكرية والسياسية. فبعد زوال هم مواجهة “الآخر” تضطر حكما الطائفة الى الإنقسام الداخلي بين عدة أطراف. الأمر الذي يخفف آلياً من الاستقطابية الطائفية الحادة الحالية ويفتح اللعبة أمام تمثيل متجدد باستمرار وعلى اساس مشروعي أكثر.
ومن منطق الإقتراع على أساس “الضد” السائد حالياً يمكن الإنتقال بالعكس الى ال” مع” ذلك أن المنطق الجديد يفترض قيام تحالفات مع آخرين من أجل تكوين أكثرية حاكمة. وهنا يخفت حكماً وهج الصراع الطائفي المباشر لحساب ائتلاف طائفي ملوّن على قاعدة خيارات سياسية. وهو بهذا المعنى ومن ضمن المعطيات الإجتماعية المتوافرة تقدمي الوجهة نسبياً.
وتتويجا للمنطق الجديد تختفي رياضة المحادل و”الزي ما هيي” فينفتح باب الترشح والإنتخاب لنخب شبابية وكفاءات جديدة تتنافس ليس فقط مع الجسم الرئيس للطائفة بل في قلب الجسم ذاته.الأمر الذي يدفع الطائفة “الرسمية” الى تقديم وإبراز أهم ما عندها من كفاءات وليس بالضرورة اسوؤها – العصي –
وإذا كان من البدهي القول أن ميزان القوى السياسية العام لن يتأثر, مع هذا النظام الإنتخابي إذا ما اعتمد, في ما يتعلق بالمسائل الخلافية القائمة فما يخسره الجسم الشيعي الرئيس من نواب بفعل النسبية سيربحه عند السنّة أو غيرهم والعكس صحيح تماماً عند الطوائف الأخرى, فمن البدهي أكثر الإشارة الى بعد جديد هو محتوى التركيب الداخلي المختلف لهذه الصياغة السياسية. فالجديد هو ضرورة قيام تحالفات متنوعة الانتماء الطائفي تتيح تأليف أكثرية سياسية تحترم ميثاق العيش المشترك في الوقت عينه.
أهمية المشروع إذا تكمن في قدرته على التعاطي مع تركيبة إجتماعية مركبة دون المرور في الغلبة الآحادية أو الثنائية. من محاسنه أنه يعطي الجميع, بما فيه الأقليات, أهمية نسبية تراعي الوزن الديمغرافي والسياسي لكل طرف. فالحاجة الى التحالف تصبح ضرورة في جوهر النسق مما يجعل الفريق الكبير مضطراً الى التحالف مع “الصغير” باحترام بعض مطالبه. ومن محاسنه في هذا الإطار فتحه الباب أمام تمثيل العلمانيين وحركاتهم السياسية من خلال مبدأ النسبية. فليس ما يمنع إطلاقا من الظن بأن العلمانيين تيار قوي في مجتمعنا ويستطيع حتى من خلال كل طائفة على حدة أن يخترق الانتخابات بعدة مفاجآت سارة.
أهمية ذلك بالنسبة الى العلمانيين أكثر من ضرورية وتعود الى جملة من الأسباب. عبر هذه النسبية “النسبية” يستطيع هذا التيار من حيث المبدأ أن يتمثل وأن يسمع صوته وأن يلعب دوراً في التحالفات قد يتجاوز بأهميته ووزنه ما تلعبه اليوم بعض القوى القرابية الدينية “القبانية”. أضف الى ذلك أن مشاركته على هذا الأساس قد تتيح له قياس قوته النسبية كذلك وتبيان ذلك للجمهور كما يتيح إمكان قياس تطور حجمه من فترة الى أخرى. ومع الإنفجار السكاني الحاصل في بلادنا حالياً وعجز الطوائف عن تلبية الإحتياجات المتزايدة لأعداد الشباب على صعيد العمل والسكن والصحة والبيئة وغيره فإنه من البدهي توقع إزدياد أعداد المنسلخين عن طوائفهم –الصعاليك- وتشكيل خزان احتياط موضوعي للتيارات العلمانية.
إن تواجد القوى العلمانية في النسق الإجتماعي الفعلي وفي أشكاله التمثيلية تفتح له كذلك إمكانية الإستفادة من كل المنسلخين عن الطوائف لأسباب فكرية وعقائدية وليس فقط إقتصادية. إن انتخاب كل طائفة لنوابها, وبعكس المظهر, وبما يوحيه من اطمئنان على تمثيليتها, يقودها موضوعياً الى عدم التكتل والتراص كجسم واحد مما يفتح ثغرة في جسدها التام.
ومن هنا فإن المطالبة العلمانية الواقعية لا تكون بالدفاع عن شعارات مطلقة تصح في السويد والدول الاسكندينافية , خصوصاً وأن المطالبة بالمستحيل في الظروف الراهنة بما تعنيه من انسحاب من المعركة الفعلية تقود ما تبقى من الجمهور الى حالة من اليأس من أي إمكانية للتغيير مما يجعل الشباب يلجأون من جديد الى الطوائف حكماً وكتعبير عن إستسلامهم للواقع المر ولأن “فالج لا تعالج” و”هيدا لبنان”….
هذه الإيجابيات موجودة في المشروع الارثوذكسي كما هو فما بالك لو ضغطت الحركة العلمانية من أجل فرض تعديل عليه يضيف حصة خاصة ب”الطائفة” العلمانية؟ وماذا لو فاجأت هذه الطائفة نفسها والآخرين بوزنها وحجمها الكبيرين؟ أو ليس من الأفضل الدخول في المجتمع من أجل تغييره بدل البقاء على ضفاف المياه الكثيرة التي تسير في النهر والناس عطشى؟
إن إدخال بعض الأوكسيجين الى الحياة السياسية اللبنانية صار من الضرورات البيئية والنباتية وليس فقط السياسية. وما المشروع المطروح الذي على الحركة العلمانية أن تدعمه بقوة لكي يمر – ولن يمر أغلب الظن- الا محاولة لفضح “المستور” لا أكثر في لعبة كشاتبين الطوائف يعكس ربما وصول هذا النسق الإجتماعي الى مداه الأقصى. انه ترجمة لمأزقه التاريخي.
نجاح المشروع في فرط تحالف “الكاتورز” في لبنان بين مسيحي وسني هو أيضا تعبير عن أسبقية مصلحة الطائفة, الخاصة, بما هي, على الخيار “العام” السياسي وتعبير أيضا عن أزمة عميقة أصابت “الغلبة” السنية كما عبر عنها إتفاق الطائف , لكن ذلك موضوع آخر.
صحيح أن المشروع سيعقد مهمة الطوائف في المستقبل في تأليف الأكثريات لكن الصحيح أيضا أن هذا التعقد ناتج أصلا عن المأزق الذي وصلت اليه الطائفية نفسها وعن النسيج الإجتماعي المركب ذاته.
إن انفراط عقد حركة الكاتورز حول هذا المشروع من جهة وتأييد الشيعة له من جهة ثانية هي فرصة العلمانيين واليساريين الواقعيين النادرة لكي يخرجوا من عزلتهم التاريخية ويدخلوا السياسة بمعناها “الأرضي” غير الهوامي والمبني على “مجتمعات مترجمة”. وهنا عليهم أن يدفعوا باتجاه إضافة موقع للعلمانيين في المشروع مهما كان صغيرا أو رمزيا في البداية.
أعرف سلفا ردود الفعل السلبية التي ستواجهني من قبل طهرانيي العلمانية واليسار المغيّم حول ضرورة إسقاط النظام الطائفي كلياً بدل تكريسه. لكني اعتقد بأن غياب الحامل الإجتماعي لإسقاطه جعل من المهمة وهماً من مجموعة أوهام أتصفت بها الحركة التقدمية اللبنانية والعربية أيضاً, أضف أن مهمة إسقاطه ليست جديدة بل تعود الى عام 1925 حين طرحها أول حزب ل”الشعب” اللبناني, فلو كانت واقعية لكنا نبحث اليوم في مهمة أخرى.
العمل على ربط تأييد المشروع الارثوذكسي بإدخال تعديل يضيف “طائفة” العلمانيين إليه هو , برأيي المتواضع, عملٌ نضاليٌ وتقدميٌ وممكن التحقيق, في ظل ميزان القوى الحالي وتضعضع الصفوف الطائفية, وسيكون إذا ما تحقق إنجازاً إيجابياً يمكن البناء عليه في المستقبل. صدقوني أن الإنكفاء وراء المباديء المطلقة ما هو الا إستغراق في “فقاعة” المفاهيم المطلقة وقدس الأقداس لم ولن يساهم في تقدم مجتمعنا بل بالعكس ساهم دائماً في تأبيده. وفي هذا الإطار ليس جديداً ما نشاهده اليوم من “جذرية” علمانية تلتقي, من حيث الحجج ودون أن تدري, مع القوى المحافظة التي ترفض, ولأسباب مختلفة طبعاً, أي مسٍ بالنسق القائم.
وبصرف النظر عن أوهام “عدالة” التمثيل ” , ذلك ان التمثيل ليس الا انعكاسا لميزان قوى اجتماعي وسياسي في لحظة معينة من تطور المجتمع ونتيجة لنضال وادراك مختلف القوى السياسية ووعيها لمصالحها, فإن النضال ضروري هنا من أجل فرض الارثوذكسي معدلا اي باضافة طائفة العلمانيين اليه.
عدمُ التعاطي مع العمران البشري العربي كما هو, وعدمُ الإعتراف باجتماعنا “المادي” بما هو بنى قرابية رحمية ودينية, والإصرارُ على تصويره كشيطانٍ أو مرضٍ عضالٍ وجب التخلّص منه بأي ثمن, قادوا, بالواقع, لا الى عزل “المرض” والقضاء عليه بل بالعكس الى عزل “الطبيب” وتعرضه الى “الفيروس” أحياناً كثيرة. فأن تكون, في بلادنا, إبن فرنجية أو إبن المقداد أو إبن الخازن أو إبن الشيعة أو السنة ليس عيباً أو مرضأً, إنه اجتماعنا, وهو ليس أقلّ أو أكثر عيباً من أن تكون بورجوازيا, أو بروليتارياً, في الغرب, إنه اجتماعهم.
بين يسار شلح ويسار “مغيم” دونكيشوتي يوجد مكان ليسار وطني في لبنان يؤطر ويوحد جمهوره من خلال معارك بسيطة لكن رابحة. رابحة لانها قد تقود الى تحقيق مكاسب آنية ومكاسب طويلة الأمد. فالمعركة هنا ليست مصيرية وشكل الانتخاب ليس المجتمع ولا كل السياسة. المعركة الحقيقية تجري على مستوى المنطقة ككل وهي معركة وجودية ومصيرية. .
كل المجتمعات تتغير بالطبع وتتطور لكن ليس قبل فهم واقعها كما هو وتعيين تناقضاته بدقة