وحش العنصرية يحكم لبنان
إميلي حصروتي
إليكم هذه الطرفة من لبنان: “حمصي راح عند الحكيم عم يوجعو بطنو كتير، عمل الحكيم صورة و لاقى بطنو ملان ملاعق. سأله الحكيم: ليش بالع ملاعق؟ جاوبه: حكيم لبناني وصف لي آخد ملعقة الصبح و ملعقة الضهر و ملعقة المسا!”
على الأرجح أنك ستقرأ ما كُتب و تبتسم إذ أهل المنطقة جميعا يعرفون أيضا نكته أو أكثر عن الحماصنة (أهل حمص – سوريا) فأحد الأصدقاء السوريين أخبرني يوما أن الحماصنة أنفسهم يحزنون إن لم نتناولهم بنكتة. في هذا السياق أذكر أن زميلة تونسية كانت تخبرني نكات طريفة يدور معظمها عن غباء الليبيين و كنت أتعجب بدوري لغبائهم إذ لم أكن وقتها أرى من ليبيا إلا استفزاز القذافي في زياراته الرئاسية و أزيائه الغريبة، ثم قامت الثورة و خرج من الرحم الليبي طاقات مبهرة و أشخاص رائعون تعرفت شخصيا على عدد منهم و لم أجد بينهم الشخصية التي وصفتها زميلتي التونسية و ذلك لأن ما سبق هو جزء من السمات التي تلصق بفئات من المجتمع أو ببلد معين أو بعرق معين في الذاكرة الجماعية. فمن منا لم يسمع ما يقال عن رائحة الجلد النفاذة لذوي العرق الأسود أو ما يشاع عن الطول الاستثنائي للعضو الذكري لديهم؟ هل سمعتم التعليقات عن عفّة الفتاة التي تعرضت للختان؟ هل قرأتم يوما صديق كتب على فايسبوك أو تويتر أنه لا يثق بمخلوق ينزف أيام متواصلة من دون أن يموت (!) في إشارة الى السيدات و العادة الشهرية. كل هذه الأمثلة و غيرها تشير الى التمييز العنصري و الجندري الذي ننكب على ممارسته بكل طيبة غافلين عن المضمون البشع الذي يختبئ في طياته و متناسين أن أحداً منا لم يختر لونه أو دينه أو جنسيته. هذه التصنيفات المكثفة في المخيلة الجماعية للشعوب و التي تتدرج من الإغاظة البسيطة الى التلاعب المشين بكرامة الغير يتظهر مداها الأقصى في حالة النزاعات الاجتماعية أو السياسية أو المسلحة حيث تسقط التورية ليبدو الوجه الأبشع للتمييز العنصري.
رغم قلة الأرقام القياسية التي حققها لبنان في تاريخه الحديث و هذا طبعا اذا استثنينا تركيزه في تحطيم الأرقام القياسية في التبولة و الحمص والفلافل، إلا أنه يتجه حتما لتحقيق رقم قياسي جديد في أكثر المجالات الإنسانية سوءاً عبر العنصرية التي تنهش مختلف طبقاته الإجتماعية والدينية و السياسية. ففي لبنان كل سوري هو عامل بناء و كل مصري هو عامل في محطة وقود و كل افريقي هو عامل تنظيفات و كل خليجي هو غني يبحث عن الجنس، هكذا و بكل بساطة و صراحة. هذا البلد الذي يتغنى بانتشار أبنائه في اصقاع الأرض لا يرى منهم إلا من لمع اسمه في مجال ما ليشير الى انه لبناني، هو البلد الذي يتناسى أن يلتفت لعدد اللبنانيات اللواتي يعملن مربيات و حاضنات في الخليج العربي أو لكمّ الشباب الذين يعتاشون من غسل الصحون القذرة في مطاعم رخيصة في أوروبا أو لأولئك الذين يُخطفون في أفريقيا و ينكل بممتلكاتهم بسبب الفساد و الهدر الذي جعل من الهجرة الباب الوحيد أمامهم لتأمين لقمة كريمة. العمل ليس عيباً بالطبع و إنما عندما تنظر لشعب ما بتعالي و تسعى لتحجيمه في صورة نمطية محددة يصبح من الواجب تذكيرك بأنك تشترك مع هذا الشعب بشرق واحد و آلام و عادات و تقاليد واحدة. لكن في لبنان و كما يقول مثل لبناني قديم: “الثلم الأعوج من الثور الكبير”، و الثور هنا هو الحكومة اللبنانية التي وقفت متفرجة في مطارها الوحيد أمام توابيت عاملات المنازل يرحّلن في جوف طائرة تلو الاخرى و أمام وافدات جديدات يضربن على مرأى من القوى الأمنية كما وقفت متفرجة أمام نساء لبنانيات يقفن صفوفا طويلة لدفع تأشيرة دخول لأبنائهم من زوج أجنبي و لبنانيات أخريات يودعن فلذات أكبادهن نحو غربة لا ترحم. هذه الحكومة التي وقف احد أكثر وزرائها إثارة للجدل، جبران باسيل، أمام كاميرات التلفزة يطالب بإغلاق الحدود اللبنانية لمنع تدفق النازحين السوريين لأسباب واهية أبرزت حقده و عنصرية فريقه السياسي، تقف اليوم متفرجة أمام حادثة عنصرية أخرى تجلّت برفع بلديات لبنانية يافطات تحظر التجول على الأجانب القاطنين في البلدات التابعة لها و قد بدا لافتا استعمال كلمة “الأجانب” حيث أوضح رئيس إحدى هذه البلديات لتلفزيون محلي إنه يقصد السوريين القاطنين ضمن المنطقة.
من الصعب جدا على من يتابع المشهد اللبناني ألا يتبين أن عنصرية اللبنانيين يمهد لها صمت حكومي خبيث يكتفي بموقف المتفرج أمام الدوس على قيم إنسانية و حقوق فردية و اجتماعية أساسية بحجة أن البلد فيه أولويات أمنية و سياسية حاسمة، ولكن هذه الأولويات نفسها تعجن في معجن واحد، معجن العنصرية و الطبقية حيث يسعى النواب لفرز المجتمع عبر قانون انتخابي طائفي متخلف و حيث العمال المتظاهرين لحقوقهم المهدورة يتواجهون مع الأمن و حيث يموت أبناء الفقراء على أبواب المستشفيات و قد تجرعوا الدواء المزور لسنوات. مؤخرا، تابعتُ مجموعة من اللبنانيين الذين ركبوا موجة النشاط الاجتماعي و الحقوقي و الإنساني، هم شبان تسلحوا بالعلم و الضمير الحيّ كي يروا و يتكلموا و يسعوا لتحريك الركود القابض على مفاصل أي فرصة بحياة طبيعية كريمة في لبنان. لم يكن النجاح حليف هؤلاء في كل مرة، و لكن خروقات عديدة سجلت لهم في قضايا نسوية و حقوقية و عمالية هامة رغم أن معظمهم يتكبد مصاريف جمّة من ماله الخاص إيمانا منهم بضرورة التغيير بأسلوب حضاري و مدني. طبعا لم يفت هؤلاء الهزليات العنصرية التي تقفز الى الواجهة بين حين و آخر و قد تصدّوا لها بكل شجاعة معرضين أنفسهم لضغوطات قاسية، لكن ما يشغل البال حقا هو حقيقة أن العنصرية يرضعها اللبناني مع حليب أمه منذ الولادة عندما يراها تعنّف الخادمة الأجنبية، و عندما يمنع من اللعب مع أبناء ناطور البناية و عندما يدخل مدرسة لا يتجاور فيها إلا مع ابناء ملّته و منطقته ليصل الى الجامعة المفروزة مناطقيا و دينيا بدورها. فالحق يقال إن أطفال لبنان يرثون عقوق حكومتهم و خنوعها و يرثون عار أهلهم الذين يتحاشون الاختلاط بمن يختلف عنهم فيتكفل كل جيل بتربية جيل جديد منكمش على نفسه في إنعزالية مرضية مشينة. لا أنكر أن هناك مدّاً من الوعي يخضّ العقليات و يوجعها و يدفعها لمراجعة نفسها على وقع كل فضيحة عنصرية جديدة و لكني شخصيا لا أرى نهاية قريبة لهذا النفق.
عزيزتي إميلي
أشكركِ جزيل الشكر على هذا المقال الأكثر من رائع والذي مررت عليه بالصدفة.
إنني يمنية الجنسية ومقيمة في الرياض (السعودية) وعشت مع عرب من جنسيات متعددة، وأرى أن العنصرية للأسف ظاهرة عربية بإمتياز.
ماذكرتيه في المقال يحدث في السعودية أيضاً، ودول عربية أخرى، كلنا عنصريون تجاه الضعفاء وننسى أننا قد تضطرنا الظروف ونضعف ذات يوم، والسبب طبعاً هو حكوماتنا التي تشرعن العنصرية أو تتغاضى عنها عمداً لأنها حكومات عنصرية وغير انسانية.
أنتِ شجاعة ياعزيزتي إميلي!
أقدر شجاعتك في مواجهة هذا الواقع المرير، وأتمنى أن أسمع المزيد من الأصوات العربية المناهضة للعنصرية والتمييز واحتقار الآخرين.
أنا سعيدة جداً أنني قرأت مقالك لأن وجود شخص يؤمن بما أؤمن به من أن الإنسان هو دائماً أخي أينما كان ومن أي عرق كان..وجود شخص هكذا يمنحني المزيد من القوة والأمل.
تقبلي تحياتي ياجميلة القلب!
تاريخ نشر التعليق: 2013/02/26اُكتب تعليقك (Your comment):