التهريب عبر حدود الثورة
فداء عيتاني – جبل الزاوية في ادلب
يمكن التكهن بسهولة بهوية الذين تراهم في مطار اسطنبول، المطار الكبير الذي يتحرك فيه البشر طوال الوقت، ليلا او نهارا، والذي لا ينام، مشكلا نقطة وصل بين داخل البلاد ومطاراتها الداخلية وبين المطارات الدولية، وهناك في هذا المطار، وفي الجانب المحلي منه، الذي ينقل الركاب نحو الداخل التركي المتعدد الاتجاهات، يمكنك ان ترى بعض السلفيين، سواء اوقفت امام بوابات الطائرات الذاهبة الى غازيعنتاب، او تلك المتوجهة الى مطار هاتاي.
شبان سلفيون، البعض بمفرده، واخرون ثنائيا، ينتظرون دورهم للصعود الى الطائرات المتوجهة الى المدن التركية الحدودية، احدهم يرتدي نظارة ويسير بنفاد صبر، يتجول في قاعة الانتظار الاخيرة قبل الصعود على متن طائرته، واخران يجلسان يتحدثان بصوت شديد الانخفاض، ولحاهم الطويلة وشواربهم المحلوقة تشير الى انتماءاتهم الدينية، بينما سحناتهم الداكنة تحدد هويتهم الخليجية، وفي الجدية التي تجمعهم وربما بعض القلق ما يشير الى هوياتهم الحقيقية واسباب توجههم الى المدن الحدودية مع سوريا.
في هاتاي يختفي هؤلاء الشبان، يخرجون من المطار الى حيث لا احد يعلم. ثم ستراهم لاحقا حين يتحركون نحو الحدود.
الريحانية مدينة صغيرة، او بلدة كبيرة، على مقربة من الحدود السورية، هذه البلدة كانت حتى اشهر قليلة خلت بغاية الهدوء، الصيف الماضي كانت بلدة صامتة، قد قطعت عليها المعارك الدائرة في سوريا باب الرزق الصغير الذي شكلته السياحة، اعتاد اللبنانيون والسوريون العبور نحو تركيا من الريحانية، او الريحانلي بحسب اللفظ التركي، البلدة عاشت اياما زاهرة على العبور، كثر فيها سائقو سيارات الاجرة، والتجارة الحدودية، والاستراحات البسيطة، حيث يمر السائح ليرتاح قليلا قبل متابعة مسيره نحو مقصده في داخل تركيا. اليوم اصبحت تتلقى بعض القذائف في محيطها كل شهر او نحوه.
عاشت الريحانية على تهريب البضائع بين سوريا وتركيا، عبر القرى الحدودية التي يقطنها البدو، وبعض تلك التي يقطنها الاكراد. وتواصلت مع قرية اطمة وعقربا السوريتين التي عمل الكثير من اهلهما على الخط الفاصل تهريبا وتجارات صغيرة.
اليوم تعيش الريحانية اكتظاظا يصعب على سكان البلدة الكبيرة احتماله، هم يتحدثون عن كثرة الوجود السوري، وهذا الوجود ليس اللجوء الرسمي الذي اعلنت تركيا في اخر احصاءاتها انه بلغ 185 الفا داخل مخيمات ترعاها الحكومة التركية وتشرف عليها، بل اللجوء الموجود في الريحانية هو مزيج بين نازحين فقراء او تجار صغار يحاولون متابعة اعمالهم البسيطة من مكان امن وقريب من بلادهم، وبعض الاثرياء، والكثير من المؤيدين للنظام السوري، وبعض اللاجئين الذين تسمح لهم ظروفهم المالية باستئجار الشقق في الجانب التركي، وتجار التهريب وباعة متجولون وغيرهم من المواطنين السوريين الذين اختاروا التواجد على الحدود.
لم تعد الريحانية هادئة على الاطلاق، يتأفف ابناء البلدة من كثافة السكان وكثرة السيارات التي تقف على جانبي الطريق، بينما كانت قبلها الطرق خالية الا من بعض المارة وعدد قليل من السيارات، لتفقد اليوم البلدة الهدوء الجبلي الذي امتازت به ولتتحول الى خلية نحل تعمل كل الوقت فوق الطاولة وتحت الطاولة، سرا وعلنا، على ايقاع الثورة السورية وفي خضم الصراع السوري.
الا ان تأفف ابناء البلدة التركية هو مجرد قشرة، في العمق ثمة استفادة ضخمة يحققها الاتراك من زوارهم السوريين، المحلات قد تم تأجيرها بالكامل، وايجارات الشقق السكنية قد ارتفعت، كل التجارات ازدهرت في الريحانية، المبيعات تضاعفت عدة مرات، وصار محل “حلويات ادلب” يحقق نجاحات مثله مثل محلات بيع البطانيات المتسربة من المساعدات الانسانية الى متاجر الريحانية، و”ملحمة سراقب” تصطف الى جانب محلات مبيع الثياب العسكرية والجعب التي يبيعها تجار الريحانية الى مقاتلي الجيش الحر الذين يصلون في زيارة الى اهاليهم ويعودون الى داخل سوريا، او الذين يتطببون من اصاباتهم في المعارك الدائرة خلف الحدود.
ومن لا يعرف العربية من سكان الريحانية طلب مساعدة في طباعة لافتات ورقية كتب عليها “صراف” وشرع يبدل الاموال لوافدين السوريين، او كتب “خدمة تاكسي ونقل” او وظف في محلات بيع الخطوط الهاتفية من يتحدث العربية من الاتراك العلويين، الذين كانت مناطقهم ذات زمن تابعة الى الاراضي السورية قبل ان يقر حافظ الاسد بالتخلي النهائي عنها.
غير بعيد عن البلدة، وعلى مسافات تتراوح ما بين ستة الى 10 كليومترات، تقع عدة قرى تركية، سكانها من عشائر البدو الذين بنوا منازلهم وتحولوا الى حياة التهريب بعد ان وجدوا انفسهم على حدود محافظة ادلب، ولطالما كان التهريب هو عمل اغلب ابناء هذه القرى اضافة الى الزراعة وتربية المواشي، واتقن هؤلاء العربية والتركية اضافة الى لهجاتهم البدوية، واليوم يتولى هؤلاء بشكل شبه علني تهريب المواطنين السوريين الى داخل وخارج الاراضي السورية.
الجبال جنوب القرى البدوية هي المناطق الفاصلة مع سوريا، بضعة مئات من الامتار ويصبح المرء داخل الاراضي السورية، وكل ما تحتاجه هو ان تتعامل مع مهرب بدوي يعرف النقاط الافضل للعبور، ويمكنه تحديد نقاط الفتحات في الاسلاك الشائكة الفاصلة بين الدولتين، واحيانا يملك الجرأة لاستحداث فتحات جديدة، كما يمكنه ان يتصل باصدقائه المهربين من البدو والذين غالبا ما يكونون من ابناء اعمامه، لمعرفة اين اصبح جنود الجندرمة او حرس الحدود التركية، وكيف يتحركون في كل لحظة.
على الجبال والاراضي الزراعية الفاصلة بين حدود الدولتين يتحرك المئات من السوريين في عصر يوم، نعبر خلاله الى سوريا. ثم يتطور الامر الى تشكيل خط كبير، تثور الفوضى هناك، فتتدخل الجندرمة التركية، تتردد اصوات طلقات نارية، تسرع الحشود في محاولة محمومة للعبور، يقع العشرات في قبضة سيارات الجندرمة التي تعيدهم من حيث اتوا، احيانا تتصرف الجندرمة بخشونة، خاصة في قرى كبرنياس، حيث سبق ان تعرضت الجندرمة وحرس الحدود الاتراك الى اطلاق نار من الجانب السوري، وقتل البعض من الجنود، واصيب اخرون، وسجلت حالة طعن بخنجر لعنصر من حرس الحدود.
ولكن في اغلب الاحيان تحاول الجندرمة وحرس الحدود عدم ترك الامور تخرج عن السيطرة، مع السماح لتهريب البشر بان يتحرك بهدوء ودون ضجيج.
دارت سيارات الجندرمة في القرى الحدودية عصر ذاك اليوم ونحن نحاول العبور، اطلقت صفارات الانذار لتجبر المهربين البدو على لم زبائنهم من الشوارع واخفائهم عن الانظار، ووقف الفوضى، وعلى مدى نصف ساعة كان صوت اطلاق الرصاص يتردد في القرية البدوية وبين الوديان والجبال التركية، طلقتان، او رشق قصير من الرصاص، كل هذه الطلقات في الهواء، يعلم الاتراك المهربون كما يعلم اي لاجيء سوري ان الجندرمة لن تطلق عليه النار، وان اسوأ ما قد يحصل هو تعرضه لضرب من جندي ناقم.
نصف ساعة ويختفي وهج الشمس ويحل الغروب، فنرحل مع مهربنا الى ناحية اخرى من الجبال، حيث بوابة الغنم، وهي المنطقة التي يتم فيها عبور الاغنام، وحيث كان يتم تهريب الثروة الحيوانية من سوريا الى تركيا خلال فترة حكم النظام للحدود، ينضم الينا المجاهدون الذين سبق ان التقيناهم في مطار اسطنبول، ومعهم مهربهم الخاص من البدو، يظهر من العدم جندي تركي امام البوابة، فيتجه نحوه المهربان، ونصبح مجموعة من حوالي عشرين شخصا نحاول ان نعبر الحدود الى سوريا بشكل غير قانوني.
مفاوضات طويلة تجري بين المهربين والجندي التركي، ويرحل الضوء الباقي تاركا ايانا في ظلال من الرؤية، يحولنا الجندي التركي من الممر الذي سلكناه والمليء بالوحل وروث الابقار، الى ممر جبلي، نعبر المزروعات نحو الجبال، مئات قليلة من التسلق الجبلي الحاد تكفي لقطع النفس حيث يقف جندي تركي اخر امامنا تماما، ينتظرنا ليستكمل المفاوضات التي بدأها زميله مع مهربينا، ثم يسمح بمرورنا ويتظاهر بتفتيش حقائبنا في عتمة الغروب، يتركنا نتخطى الشريط الشائك المنتصب اعلى الافق الجبلي، وخلفنا يمر المجاهدون محملين بحقائبهم الثقيلة ومتاعهم الذي يفترض ان يكفيهم حتى ينالوا شهادتهم.
في الجانب السوري كل عابر من هناك سيشاهد الزيتون الادلبي باشجاره القصيرة، وكل عابر سيتنفس من الهواء السوري، الذي يوحي ببساطة البدايات الجميلة، قبل ان يمر الداخل على بلدة سرمدا التي تقابل المعبر الحدودي باب الهوى، وهناك سيكتشف الداخل الى البلاد سوقا مستحدثة للسيارات المستعملة المستوردة من الدول الاوروبية.
تبدأ اسعار السيارات المستوردة من اربعة الاف دولار اميركي وما فوق، اغلبها صناعات قديمة اقدم من عشرة اعوام، بعضها يعمل على المازوت او الغاز، في ظل ازمة المحروقات المستشرية حاليا في سوريا، وكلما خف مصروف السيارة من المحروقات ازدادت الرغبة باقتنائها، علما ان الاليات المفضلة في الريف الشمالي دائما هي تلك التي يمكن استخدامها تجاريا كالشاحنات الصغيرة.
في القرى الحدودية تحولت الثورة الى مورد مالي رئيسي للعديد ممن كانوا يعتاشون من التهريب سابقا ويعانون من قمع اجهزة الامن السورية ومشاركتها لهم في اعمالهم الحرة. اليوم بعض هؤلاء اصبح يقود مجموعات مسلحة، تحمي التهريب، او تمنعه بحال لم يمر عبر المافيا الجديدة المستحدثة، ولا فرق ان كان مصدر البضائع من التجار المدنيين او من المخابرات المركزية الاميركية، فحقوق ابناء الحدود مقدسة.
قررت المخابرات المركزية الاميركية تقديم المساعدة غير القتالية للثورة السورية، فارسلت منذ اسبوعين الاف عدة من الاطقم العسكرية، وتكون كل طقم من حذاء وكلسات وبنطال وقميص داخلي واخر خارجي وسترة وقبعة، الا ان مرورها من احدى القرى الحدودية ادى الى تقلص دفعة المساعدات بشكل غير معقول، فوصل الى العديد من البلدات السورية 20 او 50 طقما فقط لا غير، بينما تم عرض باقي الدفعة في المحلات القروية للبيع، عل وعسى ان يجد فيها المجاهدون السلفيون ما يجذبهم للشراء وارتدائها خلال قتالهم في المدن والقرى السورية.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة