سوريا اولاً …..لا فلسطين
فداء عيتاني
اذا ما امسك الرجل بوصلة بين يديه وسار على هدي توجه عقربها المتجه شمالا فهو الزم نفسه بطاعة الته، وتسليمها قياده، وترك ارادته الحرة الى حين، يفترض ان الحين ينتهي عندما يرى مؤشرات الامان والوصول الى بره. اما في السياسة فان البوصلة ليست اكثر من تسليم لا نهائي لاتجاه يمكن دائما النقاش بصوابيته، وتقديس الادوات السياسية يعيدنا الى مراحل الالهة التي ترشد ابنائها الى الطريق الصحيح، والى الافكار الكلية التي لا جدال في صحتها، سواء اكانت دينية ام وضعية، ماركسية او قومية فاشية.
يدرج في لحظات الصراع القائمة في العالم العربي تعبير “اضاع البوصلة” او “ملتزم بالبوصلة” البوصلة هنا هي القضية الفلسطينية كما يتخيلها البعض، ويتفق المختلفون (ما بين مذهبيين من كل الطوائف الاسلامية، او علمانيين من ذوي اليسار القديم المهزوم) على ان البوصلة اليوم هي فلسطين، ولكن اي فلسطين؟ كيف فلسطين؟ واهل فلسطين؟ تلك اسئلة كل يجيب عنها بسطحية مفرطة تدعو الى البكاء والضحك اكثر مما تستلزم استخدام التفكير.
بينما بلد الثورة المستمرة في سوريا فامره اخر، الخلاف عليه قائم، لا ثورة في سوريا، والدليل تلك الممارسات التي يقوم بها الثوار هناك، او انتشار القوى المتبينة لفكر تنظيم القاعدة الدولي ومناهجه، وهنا تماما يتبنى اشد المقاومين التزاما بالبوصلة خطاب اعدائهم من اسرائيليين واميركيين: التكفيريون في سوريا مجرد ارهابيون، ولا وجود لفكر لديهم، او رؤى استراتيجية، وكل الثورة السورية هي انتشار للارهاب والمجموعات المسلحة واللصوص والمرتزقة.
هنا ينتهي الخطاب المتوافق مع الغرب والاسرائيليين، ليضيف متبعو البوصلة المقدسة: شذاذ الافاق هؤلاء، القتلة الذين تغريهم رائحة الدم فقط يأتون الى سوريا من بلاد الخليج للتخريب على مسار المقاومة والممانعة.
هكذا ببساطة، كان مسار الممانعة والمقاومة يسير على افضل نحو، يتجه كل يوم لتحرير فلسطين، على ايدي نظام سوري مترهل، وفقير (ويزيد افقار شعبه مراكما الثروات لابطاله من بشار الاسد الى اقربائه الاعزاء كافة)، النظام البيروقراطي الفاسد حتى الفضيحة، كان كل يوم يحقق تقدما على طريق الممانعة والتحرير، وكل يوم يراكم المزيد من القوة (عبر اسلحته المتهالكة، العائد اغلبها لمرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي) مخيفا اسرائيل والغرب بترسانته المتهالكة، وبتجنيده مئات الالف من الشبان السوريين ليخضعهم لدورات عسكرية طويلة يمارس فيها فنون تحطيم الارادة البشرية مرسيا بالقوة والذل والهوان والجوع والتعب كل مفاهيم الطاعة العمياء لقيادة تمثل البوصلة، مجددا هي البوصلة التي يتغنى بها المتغنون، بوصلة فلسطين والمقاومة والممانعة المزورين.
سوريا الضعيفة انفجرت، عاشت لاكثر من اربعين سنة في حالة من الضعف والهزال، عاجزة عن خوض حرب حقيقية، مكتفية بمعارك هامشية لتعلن تفوقا عسكريا موهوما، هذه السوريا التي راكمت اسلحة متهالكة وتركتها لتصدأ في شوارع لبنان او في مواقع الجولان، قد انفجرت اليوم، انتهى عهد ادعاء القوة الزائف، كان حافظ الاسد الرئيس السابق يراهن على امساكه بالداخل ليفاوض على الخارج، حاول الامساك بالقضية الفلسطينية من رقبتها، ولي عنق ياسر عرفات، وحين فشل العام 1982، وتحرر منه عرفات بعد ضرب البنى الرئيسية للمقاومة الفلسطينية في لبنان، اتجه حافظ الاسد لشق القيادة الفلسطينية وخلق حركات موازية، مطاردا ابو عمار من مخيم الى مخيم ومن مدينة الى مدينة حتى طرده من لبنان وحصر وجوده في مخيم عين الحلوة حيث لا تصل يده بفعل تقاسم المناطق والنفوذ بين الاسد واسرائيل.
انفجرت سوريا الضعيفة، وهي كانت تقوم اساسا على معادلة البوصلة الفلسطينية وعلى القمع المرعب الذي يسود كل مناطقها وقراها ومدنها، انفجرت بعد ان قلص بشار الاسد جزرة التقديمات العامة، وخصخص الاتصالات والشوارع وبدأت اسعار الوقود بالارتفاع وافقر مواطنيه الى الحد الذي لا يطاق، واضاف الى الفقر كل ترسانة نظام والده، الضعف حد الشلل الذي يدعي انه وحده يشير نحو البوصلة. فانجرت البلاد بين يدي القيادة الشابة لبشار وشركائه وهم لا يعلمون انهم ينحرون انفسهم باتعجالهم تقليد نموذج رفيق الحريري ولبنان.
وصلت سوريا الى حدود السبعين الف شهيد، هذا الرقم المعلن، اما في الواقع فانه يمكن التكهن بسهولة بثلاثة اضعاف الرقم، ولا زال الكثيرون يتحدثون عن بوصلة، وعن مؤامرة، وعن دفع اموال للثوار، وعن تنظيم القاعدة الذي يرغب في القتل للقتل، علما ان تنظيم القاعدة في العراق كان يتوافق في المدى المتوسط مع سياسات كل من السعودية وايران معا.
البعض ومن داخل منازلهم يمكنهم ان يقرروا ان الثورة مجرد شذرات كلام، وانها محاولة لتعطيل المقاومة، والممانعة السورية، فيخال لك وكأن الممانعة السورية كانت بصدد اجتياح تل ابيب خلال ايام، وافلاس الولايات المتحدة، وضرب ترسانتها الحربية في الشرق الادنى، حين انتفض الشعب السوري ضد نظامه، وبادل ارواح ابنائه بمئة دولار (مثلا) مقابل كل نفس يدفعها على مذبح قتاله الطويل من اجل حريته.
ومن منظور محدود يتم رؤية الجزء وتعميمه على الكل، فتغدو الثورة السورية مجرد حراك طائفي، وجبهة النصرة هي القوة القتالية الوحيدة في سوريا، وتجاوزات الثوار (التي اصبحت تصب تحت خانة الفوضى المتمادية وليس الممارسات الفردية) تصبح في نظر اصحاب البوصلة المقدسة عبارة عن طبيعة هؤلاء البشر، وبما اننا وصلنا الى هذه الادانة، فهؤلاء البشر ليسوا بشرا تماما، وبالتالي من حق النظام السوري وكل من يقاتل في سوريا ان يتصيد منهم ما يرغب، بالطائرات والصواريخ الباليستية والقذائف العنقودية ويقصف كهوفهم (طالما انهم ليسوا من اترابنا البشر) بالقنابل الفراغية.
الا ان الحراك الثوري في سوريا شديد التعقيد مثل كل الحياة، ويحاول بعض البسطاء تصنيفه بين الابيض والاسود، متناسين انه صراع بين نظام يموت، وبين مطالب شعب حي، وان قوى لا حصر لها تجد في ذلك مناسبة لتنفيذ مصالحها (المتوافقة الى حد ما او المتعارضة بالكامل مع مصالح الشعب السوري).
ولا يمكن ان تفهم مواقف الساعين خلف البوصلة الا بعمقها المذهبي، سواء اكانوا من هذه الطائفة او تلك، فتأييد الميت ومحاولة احياء جثة النظام السوري، والتصفيق للعنف المجنون ولغارات الطيران على القرى المدنية وقتل المواطنين بصواريخ باليستية منعدمة الدقة في التهديف والاصابة لا يعني الا الموافقة على قتل المنتفضين وكل من يسكن في مناطقهم، انهم الاخر الذي يجب القضاء عليه حتى تستقيم الامور، وتعود الى الخلف، رغم ان التاريخ قلما يسير الى الخلف.
ينبع هذا المنحى الرجعي في التفكير في مخاوف طائفية، من تلك التي تحاول الحفاظ على مكاسب ظاهرة او التي تحاول استعادة مكاسب فقدت، ومن نمط الخوف من تضخم الاخر، وحصوله على جزء من المكاسب التي يتمتع بها اليوم هذا الطرف او ذاك، وعلى الارض فان تغذية هذه المخاوف يتم بتعميم كراهية الاخر، وصولا الى القتال ضده، ها هي فزاعة تظهر هنا او هناك لتسهيل اقناع المواطنين اللبنانيين على سبيل المثال بان الافضل قتال الاخرين في سوريا عوض انتظار تمددهم الى لبنان.
ولكن اين فلسطين من كل ذلك؟ غير انها الشعار والغطاء وقميص عثمان للنظام السوري وحلفائه؟ اين هي فلسطين وحين تحرر جزء منها تحول قسم الى خمارة واخر الى الخمار؟ وبقي الشعب الفلسطيني في الداخل يعيش حياة اللاجئين؟ اين فلسطين وقرارات الدول تمنع فتح الجبهات ولو حتى على سبيل التذكير، والنظام السوري يؤكد انه ضمانة امن اسرائيل مقابل شذاذ الافاق من مناصري القاعدة وابناء الارياف؟
في سوريا يسخر اليوم ابناء الريف الفقراء من انفسهم حين استقبلوا اللبنانيين اللاجئين الى بلادهم العام 2006، اصبحوا يعتبرون ما قام به حزب الله مجرد مناورة بمشاركة القوات الاسرائيلية، لا يرغبون في تصديق انها كانت حرب طاحنة، وان حزب الله استبتسل في قتال العدو، يرون في حزب الله واسرائيل وجهان لعملة واحدة، هم ايضا يعتبرون ضمنا وعلنا ان بوصلتهم (البوصلة مجددا) هي فلسطين، وان النظام السوري هو اكثر من اساء الى القضية الفلسطينية.
في ليبيا ايضا اعتبر الثوار ان القذافي هو اكثر من اساء الى القضية الفلسطينية، وان “ابن اليهودية” (القذافي كما يقول عنه ثوار ليبيا) دعم كل الانشقاقات الفلسطينية ومولها، اما في سوريا فببساطة يشيرون الى ان عدد القتلى من الفلسطينيين على ايدي النظام السوري اكثر بما لا يقاس من اولئك الذين تمكنت اسرائيل من قتلهم.
اليوم في سوريا يعتبر الثوار والسكان المدنيين والناشطين ان حزب الله “لم يقاتل اسرائيل ولو مرة واحدة” ليس لمحبة في نفوسهم لدولة العدو، وليس لانهم ولدوا يكرهون حزب الله، ولكن ببساطة لانهم لا يقدرون على تخيل ان قوة معادية لاسرائيل يمكنها ان تقف ضد حقهم بالتحرر والحرية، فما المنطق في وقوف حزب الله مع حق ستة ملايين فلسطيني في التحرر من الاحتلال الاسرائيلي، ودعم ايران لهم، بينما كلا الحزب ودولة ايران يقفان ضد حقوق الشعب السوري المكون من 23 مليون. وفي حين ان الشعب الفلسطيني يعيش تحت الاحتلال او في مخيمات اللجوء وبحالة من الامن النسبية، فان الشعب السوري ومنذ عامين طويلين يعيش يوميا تحت القصف والقتل والتهجير واللجوء الى دول الجوار والرفض من الخارج ومنع المساعدات الكافية عنه.
تقول المعادلة المقدسة للبوصلة ان فلسطين هي اولوية كل يوم، وباسمها حكمنا اكثر من ديكتاتور، وطوال عقود، ومنع عنا التفكير، وجيرتنا المذاهب لبعضها، ومات اهلنا وهم يحلمون بيوم تتحرر فيه بلادنا، وقتل من قتل وتصارع من تصارع، وانقضت حياة تعسة لمئات من ملايين العرب وهم يرزحون تحت الفقر والقمع والماورائيات واوهامها بان هذه هي الطريق الى فلسطين، او تلك هي الطريق الى فلسطين، وان مقارعة الاحتلال تستوجب صمتنا، وبصمتنا الموافقة على انتخاب واعادة انتخاب واعادة اعادة انتخاب السيد الرئيس، او عدم الخروج على سمو الشيخ والامير والملك والولي والعاهل، كل ذلك كان تحت يافطة فلسطين، تماما كما يقف اليوم النظام السوري تحت اليافطة نفسها بينما تغرق يداه واقدامه بدماء شعبه.
منذ اليوم الاول للثورة السورية اشهر النظام السوري عدته الدعائية، وكذلك حلفائه في لبنان: هؤلاء ارهابيون، تكفيريون، قرويون سذج، مخربون، قتلة، مسلحون خطرون، لصوص. هكذا كان يصرخ كل يوم، وفي الداخل كان الصدى لما يقوله يتحقق يوما اثر اخر، في ظاهرة عجيبة، فبدل ان تكون الالة الاعلامية للنظام السوري تصف الواقع، تبين انها “تتنبأ به”.
ثمة من لا يخشى ولا يرعوي من وضع كل تاريخ بلادنا في المقاومة في الاستثمار السياسي للنظام السوري المتجه نحو نهايته، ثمة من لا يخشى ان يقود بلاده وسوريا الى احتراب مذهبي لا نهاية له، ثمة من يرى ان استخدام شعار فلسطين لا يزال يعطيه شرعية مطلقة في القتل والذبح وقمع الثورات وتشويه احلام الناس، ثمة من لا يرى ان فلسطين هي اولوية دائمة، وان سوريا هي اولوية اليوم، وان ضياع الشام سيكون ضياعا للمقاومة اولا، وان اهل بلاد الشام الذين قمعوا طويلا هم الاجدر بالحياة، وان فلسطين لن تغيب عن بالهم.
ولكن هذا البعض يسعى الى ممارسة الشعوذة وتنويم الناس مغنطيسيا بسحر عبارة “بوصلة فلسطين بين يدي فاتبعوني الى المقتلة”.
بالاتفاق مع الكاتب وبالتزامن مع نشرها في مدونته الخاصة