الغزل على الأوهام
القوى التغييرية العلمانية في بيروت حائرة في إيجاد المخرج من الحشرة التي وجدت نفسها فيها منذ عقود بعدما أحكمت القوى الإجتماعية الطائفية السيطرة على شوارعها منذ اتفاق الطائف الذي كرّس, فيما كرّس, خروج الحركة الوطنية من الساحة السياسية.
الحيرة تظهر أولاً في الإختيار المتعدد والمتردد لتحركات تتميّز بعناوين سياسية ومطلبية جائلة لا قاسم مشترك فيها ولا جامع. ومن الواضح أن خلفيات القوى والشخصيات التي تقف وراء هذه التحركات تتفاوت في مدى تصوراتها لما يجري على الأرض وفي تفسير أسبابه وخلفياتها.
علينا أولا أن نعترف بأن عدم نجاح مشروع الحركة الوطنية التي قادت حرب “الغربية” منذ 1975 هو فشل سياسي ذريع.وهو فشل لا يتعلق بموازين القوى. أي أن الحركة لم تنكسرلأنها كانت أضعف من الفريق المقابل بل هي سقطت من الداخل بسبب التحولات التي شهدتها الساحة الإجتماعية اللبنانية ولا سيما الساحة الشيعية منها.
على أي حال وأيا تكن أسباب الفشل هذا فالمؤكد هنا أن اصحاب هذه الحركة, أو من تبقى منهم بعد أن تركها قادتها السابقون والتحقوا بغالبيتهم العظمى, مباشرة أم بالواسطة, بفريق “أهل السنة” في لبنان الذي يحمل إسما فنياً هو حركة 14 أذار وبمجمّع عوكر السياحي, لم يدرسوا بعدُ عِبر المرحلة السابقة والأسباب العميقة لخيباتهم. ومن المفارقة هنا أن تجد أطرافاً تعتمد الزيادة في الحركة وتتقصدها بدون أن تجِدّ قليلا في الدراسة والتعليل. يجربون حظهم في الإكثار من الشيء آملين ربما الفوز بالأجرين. التجريب ملك الساحة على بياض.
تعالوا نقارب التحركات الأخيرة والمتنوعة لمختلف مكونات هذا التيار لكي نكتشف سوية الخيط السري الذي يماسكها. من حملات إسقاط النظام الطائفي مروراً بالمطالبة ببنظام إنتخابي حديث وعصري نسبي وغير طائفي فضلا عن مطلب الزواج المدني وتعريجاً على الحملات المطلبية التي تنحصر بغالبيتها بالقطاع العام ولا سيما قطاع المعلمين, وصولا َأخيراً وليس آخراً الى معركة وأد الفتنة, عناوين تشي بالموضع الذي يوجع هذا التيار ويحاصره : الطائفية والطوائف ونظامها. عدة ملاحظات تفرض نفسها هنا :
من الملفت أولا أن أصحاب هذا التيار لم يعودوا الى دراسة نصهم في هذا الموضوع بالرغم من فشلهم فيه بالذات وفي مختلف الحقبات التاريخية السابقة وكذلك بالرغم من عدم بقائه مقتصراً على لبنان “الإستثناء” بعد انتشار “الوباء” اللبناني في طول المنطقة وعرضها. ما زلنا في نظرية النفخ. الطبقات الاحتكارية أو الكومبرادورية تنفخ في أتون التمذهب والتطيف لكي تقسم الطبقات ذات المصلحة. ولم يأتِ على بال هؤلاء أن هذا “الوباء” موجود في منطقتنا منذ قرون وقبل أن يحصل لنا شرف التمتع بولادة الطبقات الكومبرادورية بكثير, وحتى قبل ولادة رب عمل هذه الكومبرادورية, الإمبريالية.
إن نظرة متفحصة عن قرب لمجمل التحركات الأخيرة للتيار التقدمي اللبناني تضمر بوجود نظرتين ورؤيتين تتحكمان بالخلفية النظرية لهذه الحركات. واحدة “طبقية” ترى في العمل النقابي والإكثار منه والتشديد عليه وسيلة ناجعة للشفاء من “الوباء” وثقب الفقاعة الطائفية وتوحيد أصحاب المصلحة الموضوعيين في مختلف الطوائف. وهي التي تقف خلف غالبية التحركات النقابية الأخيرة وتعمل على إذكاء نارها بكل الحطب المتوافر. واخرى سياسية ترى في التشديد على “فضح” علل النظام وسيلة ل”توعية” الجماهير ” المضللة” حكماً. وهي التي تقف وراء التحركات ذات الطابع المدني الحديث والعصري. أما التظاهرة الأخيرة, تظاهرة وأد الفتنة, فهي أغلب الظن محاولة جمع بين النظرتين.
واضح في هذا السياق رهان التيار الأخير على الفئات المحدثة من المجتمع كقوة دافعة ورهان التيار الأول الراديكالي على الطبقات الشعبية. مأساة هاتين النظرتين أولاً قدامتهما. فليس من جدّة في أي منهما. كله مجرب سابقاً وعلى مدى عدة قرون وأثبت فشله الذريع بالوقائع المثبتة بدليل ما نحن فيه اليوم. فالغزل على المنوال نفسه وبالمواد نفسها من الصعب أن يعطي نتائج مختلفة اليس كذلك ؟
إلى ذلك فإن القوى الإجتماعية المعوّل عليها في الحالتين قشرية الجلدة أو جنينية الولادة أو هامشية الترسخ في بيئتها كما تثبت كل التجارب التاريخية السابقة سواء في لبنان أم في دول المنطقة كلها. أضف أيضاً وهم المدرسة الأولى التي تتوجه بمطالبها التغييرية الى نفس “الطبقة” نفسها التي من المفترض أنها هي المستفيدة من الواقع السائد الحالي. فكيف تطلب الإصلاح من المستفيد من عدم وجوده ؟ بالضغط “الشعبي” أي بعدة مئات من السكان على الأكثر لا يملأون مسجداً واحداً من مساجد الطوائف الهائلة العدد والسعة ؟ قليل من الواقعية.
الإكثار من الحلول القديمة والطرق القديمة المجرّبة لا يمكن منطقياً ان يضيف أي شيء على القراءة المتقادمة لنمط العيش العربي واللبناني منه أيضاً. وأما الإعتقاد بأن مأزق النظام الطائفي اللبناني الحالي وعجزه عن متابعة الدوران الإعتيادي هو مؤشر على نهايته وعلى سقوطه الموضوعي فهو. كما أزعم, وهمٌ موصوفٌ, طوباويٌ وطفوليٌ, ذلك أن المظهرَ الذي نراه لا يعبّر حتى الآن عن سقوط النظام كمحتوى طائفي بل عن تغيرات أصابت “ميثاقه” أي بنية قواه الطائفية وتوازناتها الداخلية فيما بينها عطفاً على لحظة تاريخية جديدة أدت من جهة الى بروز ودخول طوائف جديدة قوية العدد والشكيمة سواء في لبنان وخصوصاً في المحيط الإقليمي والعربي ومن جهة ثانية بسبب التحولات التي تجري في المنطقة على خلفية الصراع المحتدم بين الامبريالية الغربية المريضة والدول الصاعدة وكل من حلفائهما الدوليين والإقليميين والعرب.
وهنا نعود الى بيت القصيد, الى المحيط, الى صراعاته العامة التي شكلت وتشكل على الدوام مفتاح التوازن السياسي اللبناني والعربي. المعضلة في مكان والتغييريون اللبنانيون يفتشون في المكان الخطأ حيث يوحد إضاءة. المشكلة الحقيقية اليوم هي في احتدام الصراع على المنطقة ككل, الشرق الأوسط الجديد, على أرضها وإرادتها ومواردها فوق الأرض وتحتها وفي ظل غياب لأي مشروع سياسي عربي رؤيوي يطمح الى بناء الدولة العصرية المستقلة والصاعدة.
ملايين العاطلين من العمل وملايين العاملين بلا أمل وملايين الشباب المهمش, وملايين الفقراء في بلاد غنية , الصعاليك أعداء الطوائف بالطبيعة, يأملون بأن يكونوا وقود بناء دولة وطنية عربية صاعدة لا وقود الحركات الرجعية المشبوهة المتلحفة زوراً وبهتاناً بالإسلام.
المتاهة التي وجد نفسه بها تيار التغيير في لبنان حلّها ليس في اجترار الوصفات السابقة المحلية الضيّقة بل في النظرة الأوسع, الى المنطقة حيث يجري الصراع ُ, صراعُ الوجود والمستقبل. هنا يجب التموضع واتخاذ الموقف الحكيم والشجاع والمبادرة ببلورة الرؤية والمساعدة في بناء هذا المشروع المستقبلي لا في زواريب بيروت ولا على ” جسر القمر” الرحباني.
إن الكلام على وأد الفتنة يتضمن, بالرغم من طابعه الإنساني الشكلي والحريص على بلاده, شكلاً من الإستقالة من الدور التاريخي المطلوب من “أهل التغيير” في لبنان. فالموقف هذا ليس فقط عديم الفعالية, إذ لا يقدم ولا يؤخر في حساب رهانات وصراع المصالح الإقليمية والدولية أوالطائفية المحلية, بل يتميّز بتضليل الناس حول حقيقة طبيعة الصراع الدائر في المنطقة اليوم والرهانات القائمة. كما أنه يحمل كمية من التعمية تتضمن حياداً غير مفهوم من قبل قوى تغييرية عبر المساواة بين فرقاء “الفتنة”.