عرسال والقصير: أهلُ أرض شرّعوا صدورهم للموت
عرسال ــ شهيرة سلّوم (خاص)
بين القصير وعرسال، يتنشر مقاتلون ونازحون سوريين بالآلاف، اضطروا مرغمين على ترك أرضهم ورزقهم بسبب القتال. هؤلاء يدركون موازين القوة في المعارك الدائرة اليوم في بلداتهم. ويُدركون أنّهم وأقرانهم يواجهون مقاتلين شرسين من الجيش السوري وحزب الله. مع ذلك، تراهم يبتسمون للموت المقبل؛ أقلّه يموتون مدركين أنّهم أهل حق.
عشية الهجوم على مدينة القصير عند ساعات الظهيرة. يتقدّم عبدالسلام (من مواليد 1992) بخطى بطيئة على عكّازه لمصافحة زواره، وغالبيتهم من نساء عرسال. أتوا للزيارة والسؤال عن أحوال اللاجئين السوريين. عبدالسلام وصل الى المنطقة قبل أسبوع تقريباً إثر إصابته في رجله خلال معركة بين فرقته التابعة لكتائب الفاروق، والقوات النظامية المدعومة بعناصر حزب الله.
كان محمد جندياً في اللواء 38 بالجيش السوري النظامي في قاسيون. لكن مع تقدّم الثورة وتحولها الى مسلّحة، وانخراط شقيقه الأكبر فيها، قرّر الالتحاق بها. ولما كان الجيش النظامي يحتاط جيداً لعمليات الانشقاق، من خلال سحب كل الأوراق الثبوتية من المجنّدين عند منحهم الإجازات (التي لم تكن تتعدّى الستة أيام في السنة)، طلب مساعدة أهله؛ فأرسلوا له أحد المجنّدين في الجيش، حيث نجح في استصدار ورقة إجازة، ثم تهريبه.
الابتسامة لا تفارق وجه عبدالسلام، وهو يسرد اخبار المعارك. رغم علمه أنه مقبل على الموت، خصوصاً بعد سيطرة القوات النظامية ومعها عناصر حزب الله على مناطق ريف القصير. شابٌ بسيط، لم يعد يحلم بأن يحصل على مهنة أو يتزوج أو يُنجب. كلُ همّه أن يتعافى للعودة الى المعركة، وكأنّه يستعجل الموت. «أخي استشهد، وصهري كذلك. وأخي الآخر معتقل في صيدنايا ومعه صهر آخر لي». لكن مع كل هذا الموت؛ قتلى سوريا تجاوزوا التسعين ألفاً، الا يستحق وقف العنف أي تضحية. يقول إنه لا عودة الى الوراء. لا نملك سوى الأسلحة الخفيفة، في مواجهة طيران وصواريخ ومقاتلين عقائديين، لكن ان كان الموت قدرنا، فليكُن. «لقد استسلمنا لك يا موت».
الى جانب محمد تجلس شقيقته، «زوجة الشيخ إدريس الذي استُشهد قبل عام تقريباً». الشيخ إدريس كان من أوائل الداعين الى التظاهر. شُنّت عليه حملة شرسة، واتُهم بأنّه تكفيري وينتمي الى تنظيم «القاعدة»، بحسب ما تروي الزوجة. وحين بدأت مداهمات القصير، كان منزله أول ما جرى تفتيشه وتكسير محتوياته وإرهاب أهله.
قُتل الشيخ إدريس، وتسلّم زمام الأمور مكانه أخوه مصعب. ترك الشيخ وراءه مجنّدين كُثر، وأرملة وطفلتين صغيرتين. تنصت زوجة الشيخ المنقّبة الى شقيقها وهو يتحدث عن الثورة، ونظرها يتنقل بخجل، قبل أن تشعّ عيناها بابتسامة خجولة، حين يقول مازحاً وساخراً في الوقت عينه إنّ «أخصامنا في المعركة يهتفون يا حُسين ويهاجموننا. فيما نضع نحن الألغام كي نوقف تقدّم دبابات الجيش النظامي ونهتف يا الله؛ لكن لا اللغم ينفجر، ولا الله يعيننا عليهم، لا شكّ أنّه الحُسين!». حديث عبدالسلام يُثير الفضول؛ وتروح تبحث، بشكل عفوي، بين تفاصيله وفي انفعالاته، عن الفزّاعة السلفية.
ورغم أنّ الكتيبة التي ينتمي اليها، إسلامية، لكنّها تابعة للجيش السوري الحرّ. وعن عناصر جبهة النصرة، يقول إنهم قلّة، ولا يختلطون بأحد. أما التنسيق بين الحر والجبهة، فيكون عبر قادة الكتائب. لا ينفي وقوع انتهاكات كثيرة في الحرب «ماذا تتوقع من شعب تُرك لمصيره يُذبح. في حرب كالتي نعيشها، حيث تُركنا بلا أي دعم، طبيعي أن ينشط تجار الموت».
مع أنّ عبدالسلام يشير في حديثه عن القتال الى «قوات نظامية ومقاتلين شيعة»، فانّه يؤكّد وجود «ثورجيين» من مختلف الطوائف. عن المسيحيين، يقول إنّهم قدّموا الدعم الى المعارضين من خلال مدّهم بالأدوية وقطع غيار السيارات؛ والإمدادات هذه كانت تصل عبر تهريبها في خزانات أُعدّت خصيصاً لهذه الغاية داخل السيارات. لكن دعمهم هذا كان يتبدّل؛ فان تقدّم النظام لجموه، وان تراجع، بسطوه.
ولا ينسى «أحد الثوار العلويين»، أمجد، الذي قُتل العام الماضي. كان قنّاصاً من طرطوس في الجيش السوري. طلب منه الضابط أن يعمل على «نبض القلب»، بمعنى أن يطلق النار على كل ما يتحرك. ولهذا كان يُقتل العديد من القطط في فترة من الفترات. لكن أمجد كان يغض النظر ويرفض الأوامر العسكرية؛ فجرى تحويله الى المحاكمة. لكنه طلب فرصة ثانية ومهلة للتأقلم مع الأوامر. ولمّا كان علويٌ، استُجيب له، غير أنّه انشق بعد يومين.
وبما أنّه علوي أيضاً، «كان موضع مراقبة داخل كتيبة الثوار». كان عليه أن يقاتل على جبهتين: جبهة النظام وجبهة إثبات صدقه. وكثيراً ما كان يشكّك البعض في ولائه، «لكنّه كان يتقدّمنا على الجبهة، ويرمي بنفسه على القتال، وكأنّه يريد أن يثبت للجميع إقدامه وصدقه واندفاعه»، الى أن مات في إحدى معارك بابا عمرو.
معارك كرّ وفرّ خاضوها على مدى أشهر في مناطق ريف القصير. يؤكّد أنهم بقيوا 6 أشهر دون أن يصلهم أي دعم، فكان لا بد من الاغتنام. كانوا يهاجمون الكتائب ويستولون على ذخيرتها. في آبل صمدوا 16 يوماً. قُتل العشرات من الطرفين، لكنهم عادوا وتراجعوا، فاستولى على البلدة النظام. يثق عبدالسلام أن قوات النظام لا ترتكب المجازر بحق المدنيين، لأن الجيش يريد الحفاظ على صورته أمام جنوده، والا انشقوا. الجيش يقوم بالتمشيط من خلال الدبابات وتأمين الغطاء الجوي، فيما تتولى القوات الداعمة له من حزب الله وغيرها ما يسمونه بعملية «التطهير والتنظيف». في بعض البلدات، قاموا بـ«تطهير» منازل المدنيين منزلاً منزل، عبر حرقه بالكامل.
«لم يُسلّم الثوار بسهولة. قاتلوا حتى الرمق الأخير»، يقول. في كمام والسلومية، صمدت مقاومتهم لأكثر من 5 أيام. لكن كان لديهم نقطة ضعف في المنطقة الشرقية، نجحت القوات النظامية في النفاذ إليها. وكان عبدالسلام آخر من غادر من منفذ الحسينية، الذي ظلّ مفتوحاً لنقل الجرحى، الى أن سدّه النظام.
ليس بعيداً عن مكان عبدالسلام وشقيقته، يمكث بضعة رجال في منزل قديم. يتنقل هؤلاء بين القصير وجرود عرسال. مهمتهم إمداد «الثوار» بالسلاح وإمكانيات البقاء والصمود. فيما يملأ النازحون كل الأمكنة. تراهم يصطفون أمام مركز لتوزيع المساعدات. هناك امرآتان تتفحصان «كرتونة» المعونة، وطفلة تُمسك أمّها من طرف ردائها. وهنا قبو منزل لا تتجاوز مساحته 100 متر مربع، يحضن 7 عائلات، وينام فيه ليلاً 28 شخصاً. وهناك، رب أسرة فتح أبواب منزله لأسرة نازحة، وآخر تذمّر من تضاعف مصاريفه.
يصرخ ابو ابراهيم، وهو يقف على سطح قيد التشييد، «أنا والد شهيد». يستأذن معلّمه ويُسرع ليُفرغ ما في صدره من حمل ثقيل. رجل تجاوز الخمسة والستين. يحمل في يد مطرقة وفي أخرى مسامير لتثبيتها على الخشب. عجوزٌ نحيف لكن بنيته صلبة. الشمس لوّنت بشرته ولون عينيه ضاع من الهمّ والبكاء. يجلس تحت شجرة الجوز، احتماء من أشعة شمس الظهيرة الحادة، برفقة مجموعة من عاملي البناء.
غادر ابو ابراهيم منطقة الضبعة بضواحي القصير قبل 10 أيام، بعدما شيّع ابنه وليد الذي لا يتجاوز الـ 17 عاماً، وتُوفي خلال القتال في صفوف الجيش الحرّ. يرنّ الهاتف في الجلسة، فيجيب ابنه ابراهيم (27 عاماً)، الذي بقي يقاتل الى جانب شقيقه خالد (19 عاماً) في البلدة. يسأله عن الأحوال ويوصيه أن يأخذ حذره ويرعى شقيقه.
رجلُ هرم خسر ابنه، وفي كل لحظة ينتظر أن «يزفّ ولديه الآخرين شهيدين»، كما يقول. ولده ينقل له اخبار المعارك كل يوم منذ أتى بلدة عرسال، ويُخبره أن «الثوار يخسرون المعركة وقوات النظام، المدعومة من قوات حزب الله، تتقدّم»، ومع ذلك يتمسّك بالأمل. ويقول «لا تسألوا انساناً خسر كل شيء لماذا يقاتل ولا يستسلم، أنها معركة موت أو حياة، وان سلّمنا العالم كلّه، وتُركنا لمواجهة الموت وحدنا دون أي دعم، فالأفضل أن نموت بكرامتنا».
بين كل جملة وجملة غصّة. يقول «بدي اعمل فدائي وأثأر لأولادي». يرفض قطعاً الإشارة الى وجود متطرّفين في صفوف الثوار، «ما يحصل هو مقاومة شعبية. لكن تجار الحرب يشوهون صورة الثورة». هو لا يتحدّث عن ابناءه وصيرورة المعارك التي شهد بعضها فقط، بل يصرّ عند أي سؤال على العودة لتكرار أسباب اندلاع الثورة. ويؤكّد أن القصير وضواحيها كانت أول من تحرّك ضدّ النظام. يروي عن الفساد الذي نخر النظام من أصغر عنصر الى أكبره؛ عن المعاملة القاسية والإهانات التي كان يتعرّض لها الأهالي، «اذا كنا نريد تخليص معاملة لبناء منزل، كان علينا أن ندفع رشوة». ويضيف «محافظ حمص كان لديه صندوق للشكوى، وتصور أنه كان عليك أن تضع مبلغاً من المال فيه كي تقدّم الشكوى». وكأنّه في التأكيد على تلك الحجج، يريد أن يذكّر من نسي أو تناسى أنّه نمت في احشاء بلدات سوريا ومدنها ومحافظاتها على مدى 40 عاماً بذور ثورات وليس ثورة.
يسرد حكاية أخرى عن قرار أصدره مرّة محافظ حمص حول التدخين، فرفع لافتة كتب عليها «ممنوع التدخين». وفي أحد المرّات، جمع عناصره، وأشعل سيجارته، وطلب منهم أن يشاركوه التدخين، ثم اتصل بمندوب «الريجيه» كي يأتي ويُغرّمهم كل واحد 2000 ليرة سوري، وطبعاً عاد وضمّ الغرامات الى جيبه.
بحسب أبو ابراهيم، فانّ غالبية سكان القرى المحيطة بالقصير نزحوا ولم يبق سوى المقاتلين. وقبل يوم من الهجوم على القصير، كان النظام يسيطر على مناطق عديدة من ريف القصير السورية، وبصحبته عناصر حزب الله.
يقدّر المقاتلون من المعارضة، على ذمّة الرواة، بـ 5 آلاف، غالبيتهم من أهل الأرض، مسلّحون بما تيسر لهم وغنموه. في مقابل، جنود وآليات وطائرات النظام، المدعومة بآلاف العناصر من قوات حزب الله، التي تلقت أفضل التدريبات على يد خبراء إيرانيين وروس لسنوات. وهزموا اعتى جيوش المنطقة في يوم من الأيام، لكن حين كانوا أهل أرض ومقاومين. الأوّلون هم اليوم أهل الأرض.
Propaganda.. La aktar wala akal…
تاريخ نشر التعليق: 2013/05/26اُكتب تعليقك (Your comment):