لميا بوشقرا تلوي عنق المصطلح عند جاك دَريدا في أطروحة دكتوراه
بيروت ــ معمر عطوي
لم يكن الفيلسوف الفرنسي المولود في الجزائر جاك دَريدا فيلسوفاً مغموراً ولا كان ذاك الشخص القليل الشهرة، لكن نصوصه الصعبة جعلت مكتبتنا العربية تفتقد إلى العديد من جواهر هذا الرجل الذي ابتكر التفكيك في قراءة النصوص وبات يُعرف بفيلسوف التفكيك، فظل حكراً على أروقة الفلسفة والمشتغلين بها على مستويات أكاديمية وفكرية عليا.
من هنا جاءت أطروحة الدكتوراه لطالبة الفلسفة في الجامعة اللبنانية، لميا بوشقرا، لتضيف جوهرة فلسفية جديدة إلى المكتبة العربية تحت عنوان “فكر الإخلاف من خلال مصطلحاته عند جاك دَريدا”. وناقشت لجنة من الأساتذة في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الانسانية والاجتماعية التابعة للجامعة اللبنانية في بيروت، يوم الجمعة الماضي (7 حزيران 2013) الأطروحة الضخمة الغنية بالمصطلحات الجديدة ونالت بوشقرا درجة جيد جداً، بعلامة 17/20.
ضمّت اللجنة المناقشة كلاً من الأستاذ المُشرف على الأطروحة الدكتور يوسف معلوف، والأساتذة القراء الدكتورة تغاريد بيضون مديرة للجلسة، والدكتور مشير عون والدكتور ريمون غوش، ومن خارج كلية الآداب الدكتور هيثم قطب (كلية التربية).
توضح بوشقرا في بداية مُلخّص الأطروحة أن “سؤال الفكر يسعى إلى الخروج عن الإجماع وإلى خلق الفروق؛ في حين يحثّ الاستفسار خطاه لتلقّف أجوبة شافية يتطابق فيها الرأي والإجماع.
ولا ينفي الإخلاف Differance حدَّ الأنا أو النحن ولا يلغي الوعي بالذات والشعور بالفرق، لكنه يرمي إلى تفتيت الجمود والفقر الذي يصيب أُفهوم الهويّة ويقعدها عن الانفتاح على غِنى الآخر”.
وبدت الدراسة الطويلة التي قامت بها الدكتوره بوشقرا حافلة بالمصطلحات التي سعت الى تبسيطها “بهدف تربوي تعليمي يعمل على تليين المصطلح وفهمه وشرحه وترجمته في لغة عربية كأداة لم تألف بعد هذا النوع من الاجتهاد الملتزم بنقل التراث الفلسفي الغربي الى أذهان متلقيها”.
لذلك تطالب بوشقرا بإدخال الفلسفة الى مناهج التعليم للأطفال أيضاً وفق لغة بسيطة تناسب مستوى استيعاب كل جيل.
أما مصطلحات التفكيك الدريدية “فتزخر بأكثر من إيحاء وتتلمس المجاز والاستعارة وتتسم بالتعدد والتداخل وتوليد الفروق”. والكاتبة تشير هنا إلى بحث مطول كتبه الفيلسوف الفرنسي بعنوان “الأسطورة البيضاء: المجاز في النص الفلسفي في كتاب هوامش الفلسفة”.
ولعل النقطة الأبرز في بحثها هو اشارتها إلى أن دَريدا ابتكر “فكر الإخلاف بوصفه استراتيجية فاعلة انتصاراً لقضايا الأفراد المُهمّشة والشعوب المستعمرة والإتنيات المُساقة إلى اقدارها المرغمة عليها باعتبارها مجرّد مطيّة لتحقيق مآرب المستعمِر ومسلمات سساتيمه (انظوماته) وفضح قيم مركزياته الاستعلائية”.
أما النقطة الأخرى وهي أن دَريدا اختصّ بتفكيك مؤسسات الميتافيزيقا للكشف عن تناقضاتها، لكنه نأى بنفسه عن تأسيس فلسفة ورفض وسم إجراءاته بالمنهج أو الطريقة، معتبراً التفكيك استراتيجية متغيّرة ومُتبدّلة بحسب المفكِّك والمسألة المعني بها. لذلك نجح الفيلسوف المعاصر “في كسر الجمود الذهني وحجب الكتمان عمّا جهدت الميتافيزيقا في تناسيه وتجاهله وعدم الإنصات الى ما يغاير مقولاتها”.
بكل تواضع علمي تشرح لميا في نهاية مًلخصها أن دراستها تقع في باب التمرّن على نقل ما هو فلسفي إلى العربية؛ وانها درسٌ تمهيديٌ فيها يؤشّر إلى قابليتها واستعدادها لهذا النوع من التجارب، “شرط ألاّ تبقى محاولتنا صراخاً في القفار”.
لذلك كانت هادئة في مناقشتها تقبلت النقد والملاحظات من المناقشين بصدر رحب ودافعت عن وجهة نظرها بطريقة من يحيط بنصّه من كافة الجهات ويمتلك الحجة والبرهان. مع ابداء استعداد دائم للقبول بأفكار جديدة، رافضة الفكر الدوغمائي المتصلب الذي لا يقبل بأي نقاش.
لقد جاهدت لميا بوشقرا على مدى فترة طويلة في البحث عن لآلئ الفلسفة التفكيكية في أصداف الفكر الدَريدي، واستطاعت أن تعالج أكثر من خمسين مصطلحاً، قارئة نحو ثلاثين كتاباً للفيسلوف الفرنسي بلغته الأم، فيما لا تزال المكتبة الفلسفية العربية تفتقر الى العديد من نصوص دَريدا، مشيرة الى ترجمات قليلة مثل ترجمة كاظم جهاد لنصوص عديدة لدَريدا جمعها في كتاب بعنوان “الكتابة والاختلاف”، قائلة “وقد أفدت من بعض جهوده في ترجمة المُصطلحات”. كذلك اشارت الى كتابين عن دَريدا الأول لعادل عبدالله بعنوان “التفكيكية إرادة واختلاف وسلطة العقل”، والثاني لأمنية غصن الهجائي بعنوان “جاك دَريدا في العقل والكتاب والختان” وكلا الكتابين صدر في دمشق.
لقد بدأت بوشقرا رحلتها مع الفيسلوف الفرنسي المعاصر منذ سنوات حين قامت بترجمة القسم الأول من كتاب دَريدا في “الكتبياء”، قدّمتها كرسالة دبلوم عام 2006. أما الآن وبعد انجازها لهذه الأطروحة ستكون قاعات الفسلفة في الجامعات اللبنانية قد اكتسبت أستاذة جديدة استطاعت لي عنق المُمصطلح الصعب وتسهيله للقارئ، واضافة كنز جديد الى المكتبة اللبنانية والعربية.