أحمد العرامي : القبيلة كانت ستحميني لكني فضلت السلوك المدني
حاورته : جمانة فرحات
غادرت البلاد، ليس هروباً واستسلاماً، ولكن حفاظاً على حياتي وسأعود
الفكر الوهابي والفكر الإخواني الأكثر سيادةً في اليمن
أنا لم أرتكب خطأ ولست نادماً وسأناضل من أجل بلدي أينما كنت
بعد الثورة كما قبلها في اليمن. لا جديد على صعيد التكفير. ناشطات ونشطاء، كاتبات وكتاب لا يزالون عرضة لان تسقط عليهم تهم التكفير وتلاحقهم دعوات القتل. الشاعر والاستاذ الجامعي احمد العرامي أحدث هؤلاء. من القاهرة التي لجأ إليها يتحدث العرامي لـ “برس نت” عما تعرض له وخلفياته فضلاً عن تحديات الثقافة والمثقفين والتعليم الجامعي في اليمن.
ـ أنت اليوم تقيم في المنفى في القاهرة تحديداً بعيداً عن عائلتك بوصفك أحدث ضحايا التكفير في اليمن. كيف تلخص ما جرى معك؟؟
ما جرى معي هو نتيجة لتحالف أو لتصالح قوى مختلفة، تشترك في منظومة التفكير وفي أنساقها الثقافية، القبيلة والجماعات الدينية المتطرفة، والأسوأ أن الجامعة لم تكن مختلفةً عنها.
اعمل معيداً بكلية التربية رداع، جامعة البيضاء، وألقي محاضرات عن الأدب العربي الحديث، في محاضرة خاصة عن الرواية اكتشفت أن طلابي لا يعرفون الرواية، اقترح للطلاب رواية “حرمة لعلي المقري وللطالبات رواية الرهينة لزيد مطيع دماج، مر أسبوعان على مناقشة الرواية فجأة وجدت ضجة في الكلية، على خلفية رواية “حرمة” لأنها تتناول الكبت الجنسي لدى “الإسلاميين” وتنتقد تجربة الجهاد في أفغانستان. المنطقة التي فيها الكلية تعد أهم بؤر القاعدة، والمجتمع متخلف جداً وقبلي ومسلح، خرجت الرواية عن نطاق المحاضرة وقاعة الدرس وانتشرت في المدينة وأحدثت ضجةً، على خلفية ذلك تلقيت تهديدات من المجتمع ومن الجماعات الدينية المتطرفة بالقتل، بل لقد بحثوا عني لقتلي كما تقول تحذيرات الزملاء الأكاديميين الذين نصحوني بمغادرة الكلية ومن ثم نصحوني بعدم دخولها مرةً أخرى. هذا جعل الجامعة أيضاً تصدر قراراً بفصلي تحت ضغوطات المجتمع والجماعات الدينية المتطرفة. هذا ما حدث، تركت الكلية، وغادرت البلاد…
ـ الخروج من اليمن وعدم تقديم شكوى للنيابة العامة خصوصاً بعد ما قيل عن انتشار تهديدات لك وليس صدور فتوى تكفير من تنظيم محدد، قد يفسر على أنك اخترت الطريق الأقصر وفضلت عدم المواجهة داخل اليمن مع ما ينطوي عليه هذا الأمر من استسلام وفقدان لأمل بالتغيير؟
وصلتني تهديدات بالقتل وبالفعل بحثوا عني لقتلي، ثم أن هناك أناس صدرت فتاوى بتكفيرهم وانتهى الأمر عند ذلك، أنا تم تهديدي بالقتل، وتلقيت تحذيرات رسمية من الجامعة ومن إدارتها بأن هناك من يريد قتلي فعلاً، وتلقيت اتصالات ورسائل بذلك، كلها تحمل رسالة الموت، والاستتابة، أليس هذا تكفيراً وأبعد من التفكير.
نص إحدى الرسائل يقول : “السلام على من اتبع الهدى أحمد العرامي، أرجو من الله أن يهديك لما فعلت وأن تعلن التوبة أمام الله ثم أمام المسلمين، لما قمت به وتتبرا منه فالزلل مجبول عليه البشر، فقد أجمع الشباب المجاورين لك في البلاد بالتصفية الجسدية والصلب!! والله غالب على أمره”. ماذا يعني ذلك؟؟
هذه الرسالة جاءت بعد الاتصالات التي حملت التهديد بقطع رأسي وتعليقه في مداخل المدينة، كتبت عن ذلك ونشرته في إحدى الصحف اليمنية، وفي صفحتي، واعتبرته باللفظ بلاغاً للنائب العام، وغادرت البلاد، ليس هروباً واستسلاماً، ولكن حفاظاً على حياتي، أنا لست مجنزرة لأواجه هذه الأطراف، أنا أكاديمي وكاتب يعيش في دولةٍ نظامها رخو ومنعدم الأمن فيها، ولم تستطع إخراج القاعدة من هذه المدينة إلا بمفاوضات مع القبائل، وأظن أن قرار الجامعة كان اكبر دليل على مدى الرعب الحاصل، وفي نفس الوقت التواطئ الرسمي مع هذه الجماعات، ماذا يفعل شخص تخلت عنه جامعته التي كان يمكن أن تحميه قبل أي أحد؟؟
بعد قرار الفصل ناشد أكثر من مئة كاتب ومثقف عربي رئيس الجمهورية ومع هذا لم تتراجع السلطة عن قرار الفصل وهو تأكيد على تحالفها مع الارهابيين الذين هددوني. إضافة إلى أن المسألة أكبر من فتوى. الآخرون صدرت في حقهم فتوى وانتهى الأمر، أنا قاموا بفصلي عملياً من قبل إدارة الجامعة المعبرة عن مؤسسة تعليمية حكومية وهددت بالقتل. كيف يمكن أن أقدم للقضاء، أو أعول عليه وهو جزء من السلطة التي فصلتني؟؟
أنا لا أعول على الدولة في حمايتي إطلاقاً، كان بامكان القبيلة أن تفعل ذلك، وأنا هنا أعني القبيلة التي ولدت فيها، كانت ستحميني وعرضت علي ذلك، لكني فضلت السلوك المدني على أن أقع فيما لست مقتنعاً به. انا اشتغل ضد النسق القبلي، ومن العار أن ألجأ لها، على انني لو لجأت لها لاستطاعت وحدها، وأقول وحدها لأن أي جهة رسمية أضعف من أضعف قبيلة. وهذه معضلة كبيرة في اليمن. والمجتمع المدني منهك عقب ثورةٍ منهكةٍ، ولا يكاد يعرف كيف يتعامل مع الانتهاكات المتواصل في حق الإنسان اليمني.
لست هنا أبرر خروجي، لأنني سأعود أصلاً. هي بلدي، وسأناضل من أجلها أينما كنت. لكن كيف يمكن لهذه الدولة أن تفعل شيئاً لأجلي، وهي تحمي شيخاً يتستر على قتلة. وهي لا تكاد تحمي نفسها أيضاً.
ـ ما تعرضت له وما تعرض له عدد من المثقفين اليمنيين من قبل من أمثال الكاتب علي المقري والناشطة بشرى المقطري وآخرين، يوحي بأن اليمن غارق في موجة تكفير خطيرة، ما هي الجذور التي مهدت أمام اتساع هذه الظاهرة؟
نحن في مجتمع قبلي تعد القبيلة أهم بناه أو منظومته الاجتماعية، تلقى الإسلام مثلما تلقاه الأعراب بخلفية فكرية صلدة وأنساق ذاهبة في الجمود بعيداً بعيداً، في الفترة الأخيرة تعرضت اليمن لموجات تأثيرية من الخارج مثلها مثل أي مجتمع قادم على عصر جديد، ولأنها (وبخاصة الشمال) لم تشهد أي موجة استعمارية كانت اليمن أكثر انفتاحاً على دولتي مصر والسعودية، أخذنا أسوأ ما في هذين المجتمعين من ضمن هذه الروافد الثقافية (الفكر الوهابي من السعودية، والفكر الإخواني من مصر). وأظن أنهما الأكثر سيادةً في اليمن حتى الآن. ورغم اختلاف الناس في التوجهات السياسية والانتماءات مثلاً إلا أن عناصر هذين الخطابين تكاد تشكل الوعي المجتمعي. وهو بطبيعته مجتمع أقرب إلى البداوة منه إلى التمدن، هذا ضاعف تحجر المجتمع، وحافظ على القار الثقافي في منطقته الراكدة. والمشكلة أنه ما زال يعيد إنتاج هذه الأنساق ويفرخها، على شاكلة “المؤسسة الإخوانية الآن” ليس بشكلها الحزبي، وإنما بماهيتها كمنظومة تفكير يتجسد خطابها ويعاد إنتاجه في “الجامع ومراكز التحفيظ، وجامعة الإيمان، وحلقات الذكر”.
ـ تصاعد موجة التكفير جاء بعد ثورة شبابية نتج عنها انتقال في السلطة. هل تعتبر أن استمرار التكفير واتساع نطاقه بعد كل هذه التضحيات هو في جزء منه انعكاس لعدم استكمال الثورة وتحديداً المبادئ التي خرج من أجلها الشباب؟
إذا عدنا إلى الشروط والمفاهيم والمعايير والتحديدات والتنظيرات سنجد من الصعوبة بمكان أن نسميها ثورة، لكن دعينا نستخدم هذا اللفظ بخفة. أهم ما تميزت به هذه الثورات هي أنها كانت ثورة الهامش على المركز، هي واحدة من ظواهر ما بعد الحداثة برأيي، لم تكن نتيجة لفكره أو حاملة له بقدر ما هي إحدى الظواهر التي يمكن القول أن الهامش صعد فيها على حساب المركز، بفضل تقنيات الاتصال الحديثة بدرجة أساسية. يضاف إلى ذلك أنها لم تكن أيديولوجية، ذلك جعلها بلا فكر محدد، لقد كانت ثورة البسطاء وبالتالي ثورة الهامش لم يكن لها فكر محدد، ولم تأتِ مثلاً لتقوض الأنساق القديمة بما فيه نسق “التكفير” والجمود الفكري، بل لقد كان من مكوناتها العامة الذين ترسخت لديهم هذه الأفكار من قبل الجماعات الدينية، والليبراليون، وأطياف مختلفة. لم يكن لديها أيديولوجيا محددة تقوض بها أيديولجيا سالفة أو مهيمنة وتحل محلها، لقد انتفض الناس من الهامش بكل ما في الهامش من ترسبات الفكر الديني والقبلي، والأنساق الجامدة، وهذا وفر فرصةً أو مناخاً لصعود هذه الأفكار مع صعود الموجة الجديدة. صحيح أنها لم تكتمل في اليمن لتكون ثورة الهامش على النخب، ثورة المهمش على المركزي، فأنا أسميها في اليمن “انقسام المركز على ذاته” ومع هذا فقد صعدت كما قلت لك قيم وأنساق الهامش، وصار صوت الجهل مرتفعاً لدرجة أن من يوجهون الرأي العام هم أقل الناس فهماً. وكذلك من يسطيرون أو يؤثرون في الحراك الشعبي، وبالتالي في حركة الأفكار.
كان هناك ثمة فئة متمدنة لكنها كانت من الضعف بمكان، بحيث لم تستطع ترميم ما أحدثته الثورة من شرخ، هذا أدى فيما بعد إلى سيطرة الجماعات المنظمة وعلى رأسها الأخوان المسلمين. لقد سيطرت على كل شيء بعد الثورة وربما خلالها ذلك أنها الأكثر تنظيماً من الهامش المتنوع واللامؤطر. يضاف إلى ذلك صعود القبيلة في اليمن وثمة قواسم مشتركة كبيرة جداً بين القبيلة والدين المتطرف، تحتاج للكشف عنها وتحليلها، لكن أهمها وأقرب ما يمكننا القول عنها الآن أنهما معاً ينتميان إلى ما يسميه هشام شرابي “النظام الأبوي”، بما فيه من الأحادية والإقصاء، والخوف من التغيير والجمود إلخ.
ـ كيف تلخص التداعيات لهذه الموجة التكفيرية على الحياة الثقافية في اليمن؟
نحن نسير عكس اتجاه أقدامنا. والرداءات تطفو على السطح، والمثقف اليمني -كالإنسان اليمني- يقاتل من أجل البقاء حياً، والذين يختلفون معنا لا يختلفون بشرف على الإطلاق. ولكي نطمر الزيف نحتاج لنضال، وسنفعل…
ـ ما نقل عنك لجهة عدم اطلاع طلابك على اي رواية سابقاً يطرح سؤالاً عن المناهج التعليمية الجامعية في اليمن، وتحديداً في مناطق الأطراف. بوصفك استاذاً جامعياً كيف تنظر لهذا الأمر وهل ترى في ذلك سياسة ممنهجة تدفع بها جهات محددة ولأهداف محددة؟
منذ تخرجت من هذه الكلية وعملت فيها معيداً وأنا أتصارع مع المناهج التعليمية فيها، ثمة إشكالية لدينا في المنهج وثمة إشكالية أخرى في تطبيقه، أنت تدرس الأدب الحديث بفنونه الحديثة (الرواية والقصة والمسرح وووو) والإشكالية هي في آلية العطاء الذي تقدمه أثناء تدريسك لهذا المقرر أو هذه المفردات، لقد أصبح التعليم لدينا شكلياً بكل معنى الكلمة، ومسألة المفردات يمكن نقاشها وتنقيتها، الأداء أيضاً أكبر مشكلة. أنت تقدم مادة علمية منصوص عليها في “الخطة التعليمية” الجامعية بمفردات حديثة ويفترض بك أن تقدمها بأفضل الطرق وأوفاها، لكن ما يحدث هو أن الأمر تحول إلى مسألة شكلية بحتة، اعط الطلاب أي شيء وهم سيقرأونه ثم يمتحنون فيه، بحيث يفقد كل علم وكل فكر جوهريته، وتصبح المسألة مجرد أطر، لا دعوة للتفكير، لا تجاوز للمحرمات التي يضعها المجتمع والدين والعقل المغلق. ثمة إشكالية في التطبيق في ربط المواد والأفكار بالواقع والمعايشة.
أنا قدمت لطلابي روايتين ليقرأوها، لم أكن أقدم رؤية أخلاقية، وكان ذلك ضمن مفردات المقرر، قلت لهم انتقدوها، لم أكن أدافع عن حضور الجنس في رواية المقري، ولكني كنت أدافع عن حق أي عمل أدبي أن ينال النقد والدراسة والتحليل في الدرس الجامعي.
أكان موفقاً المقري في توظيف الجنس أم لا، ذلك يقوله النقد الأدبي، وكان هذا أحد الأسئلة المطروحة حول الرواية. ولا أظن أنه يمكن لأي من القبيلة أو الجماعات الدينية المتطرفة. أو إدارة الجامعة لا يمكن لأي منها أن يكون ناقداً أدبياً… وفوق هذا تكون أدواته النقدية وآلياته هي: القتل والفصل.
المنهج التعليمي هو نفسه الذي يدرس في صنعاء، ليس هناك مناهج خاصة بمناطق الأطراف، لكن وكما قلت سابقاً لقد تم إنشاء كليات في المناطق الأكثر تخلفاً في المجتمع في المناطق القبلية، بقصد انتشالها مما هي فيه، لكن ما حدث هو أن هذه الكليات راعت المجتمع وتماشت وتصالحت معه. ليس في المنهج ومكوناته وإنما في أدائه وحتى لو أثر ذلك على المنهج.
ـ قلت بعد الحادثة أنك فصلت من الجامعة وفوق كل ذلك خسرت منحتك الدراسية بعد أن كان مقرراً ان تستكمل دراستك في الجزائر قائلاً “أنا أتسكع خارج اليمن… “ليس كطالب دراسات عليا” بل”كـ”مشرد”، فهل أنت نادم اليوم على اقتراحك رواية “حرمة” للكاتب علي المقري لطلابك؟
لست نادماً على الإطلاق، لا يمكنك أن تندم ما دمت تفعل ما ترى أنه الصواب. أنا لم أرتكب خطأ. ولذلك لست نادماً أنا مصدوم ربما ليس بخصوص الأثر الشخصي، وإنما لدي إحساس أعمق بالإشكالية التي يواجهها التعليم في اليمن والوضع الذي نحن فيه. ما هو شخصي يفتح عينك على العام أكثر…
أم أنا فسأكمل مسيرتي، بالأكاديمية أو بغيرها، لا شيء يمكنه إيقافي. البدائل موجودة، وما زلت أتنفس وهذا جيد.