تجربة في فرع أمن الدولة السوري
أحمد سامر كرم ــ خاص «أخبار بووم»
كغيره من أقرانه الشباب في سوريا، لم يكن فراس العلي بإمكانه الامتناع عن المشاركة في التظاهرات التي يعتبرها «عملاً وطنياً بامتياز»، فهو يقول إنه «لم يستطع أن يقف على الحياد، والحرية على الأبواب».
بعد عودته سالماً من عدة تظاهرات، استفاق فراس صباح الخميس 19 أيار على ضربات قوية على باب منزله. زائر الفجر لم يكن إلا عناصر فرع أمن الدولة. يتقدم أحدهم مبرزاً هويته الأمنية ومعرفاً عن نفسه طالباً من فراس مرافقته إلى فرع أمن الدولة في اللاذقية.
“طلبت إذناً ريثما ارتدي ثيابي، تناولت بعض الأغراض الشخصية وسألته عن سبب ما يحصل، فردّ بالجواب الأكثر إثارة للخوف عند كل سوري: ما في شي… مجرد سؤال وجواب». يكمل فراس: «تم اقتيادي إلى سيارة مدنية، جلست في المقعد الخلفي وسط شابين قام أحدهما بمصادرة جهازي الخليوي حيث كنت أهم بالاتصال بوالديّ، مبرراً فعله هذا بأننا لن نتأخر، كل ما في الأمر سؤال وجواب!».
وصلت السيارة إلى فرع أمن الدولة ذائع الصيت في اللاذقية: «أدخلوني إلى غرفة واسعة يجلس بداخلها عدة أشخاص بلباس مدني. طال الانتظار، وأصعب ما في الأمر أنك ممنوع من التحدث مع أيّ كان داخل الغرفة ولا يمكنك طرح الأسئلة عن سبب هذا التأخر».
بعد مرور ساعتين، سمع فراس أحد العناصر ينادي عليه من غرفة مجاورة. دخل إليها ليرى رجلاً خمسينياً لبقاً وأنيقاً: «طلب مني الجلوس على الكرسي وبدأ بتوجيه الأسئلة: ما الذي دفعك للتظاهر؟ لماذا تتظاهر؟ هل تريد مشاركة أولئك المخربين في تدمير سوريا؟ هل يمكنك أن تعطيني اسماً أفضل من سيادة الرئيس لحكم البلاد؟ ألا تعلم أن رئيسنا هو الوحيد المقاوم بين أقرانه العرب؟».
سيل من الأسئلة انتهى بالقول: «فراس، اعترف ولا تكذب… لا تقلق هناك عفو قريب سيشمل جميع المشاركين في التظاهرات».
لكن فراس، الذي خبر قصص التحقيق من أقران سبقوه إلى هذا الفرع الأمني وغيره، أنكر تماما أي مشاركة في التظاهرات. بعد عدة محاولات بدأ المحقق يفقد أعصابه، فازداد صوته حدة وتحولت نبرته إلى التهديد، لينتقل إلى الضرب، ثم مناداة أحد عناصر الأمن لاقتياده إلى القبو.
ويروي فراس لـ «أخبار بووم»: «تمت مصادرة كل أغراضي الشخصية ومن ثم إنزالي إلى طابق سفلي تحت الأرض، وأدخلني العنصر إلى مهجع أدركت انه سيشكل أحد أسوأ فصول حياتي». ويتابع «يبلغ طول المهجع حوالي ستة أمتار وعرضه ثلاثة، في إحدى زواياه يركن المرحاض الذي يلوث هواء الغرفة بأسوأ أنواع الروائح، وإلى جانبه حنفية مياه وحيدة. للمهجع نظامه الخاص، إذ تجبر على الاستيقاظ يومياً عند السادسة أو السابعة صباحا مع استحالة النوم خلال ساعات النهار، ثلاث وجبات يومية تتكرر دائماً. صباحاً قطعة من الخبز مع بعض الحلاوة، ظهراً تكون الوجبة صحن أرز، ومساء بطاطا مسلوقة مع قطعة خبز».
في البداية كان المهجع يحوي نحو ثمانية أشخاص، لكنهم مع الوقت أصبحوا 35 معتقلاً داخل غرفة لا تتسع لأكثر من شخصين. يقول فراس «لم نكن قادرين على النوم جميعاً بسبب العدد الكبير، فكان بعضنا ينام وقوفاً، وآخرون جلوساً. وعندما أصبح العدد كبيراً، كنا نتناوب على النوم، ينام البعض نهاراً في حين يغطي قسم آخر نومهم كي لا يراهم العنصر المراقب.
الأصعب في الاعتقال داخل فرع الأمن هو سماعك لأصوات التعذيب، كلما قدم معتقل جديد، يقومون بتعذيبه. أصوات الصراخ الإنساني أصعب بكثير من أي عذاب يمكنك تلقيه في السجن. كانت الدماء تتجمد في رؤوسنا مع آهات المعتقلين».
ويشرح فراس «ذات مرة كان الصوت الآتي من غرفة التعذيب صوت امرأة. أحد الرفقاء بالمعتقل صار يبكي لدى سماعه هذا الصوت علماً أنه أظهر شجاعة فائقة أثناء التحقيق معه».
وعن التعذيب الذي تعرض له يروي «ليلاً كان بعض العناصر يأتون إلى مهجعنا طالبين منا خلع الملابس بحجة التفتيش، يرافق ذلك الضرب والإهانات والشتم. تستمر هذه الحالة حوالي الساعة، ثم يخرجون».
ويتحدث فراس عن لقطة لافت انتباه معظم الموقوفين، إذ إن «الغرفة المجاورة للمهجع وهي غرفة العنصر المسؤول عن مراقبتنا ينطلق منها صوت تلفاز، كان العناصر يستمعون لقناة الجزيرة طوال الوقت إلى أن يأتي العميد، فينقلون المحطة إلى إحدى القناتين السوريتين التابعتين للنظام». ويتابع «في بعض الأحيان برر بعضهم مشاهدة قناة الجزيرة بالقول: ليك لوين وصل فيهم الكذب… حط عالجزيرة لنشوف شو عم يكذبوا… انا بحط عالجزيرة حتى اضحك العمى شو خرج افلام اكشن».
مسيرة توقيف فراس كانت حتى اللحظة مقبولة، إلى أن قرر الأمن إعادة التحقيق معه. ويروي «ناداني أحد العناصر، عصب عينيّ، قيّد يديّ، واقتادني إلى الطابق الذي كنت فيه في البداية. استطعت تمييز وجود عدة أشخاص يتحركون من حولي ويتحدثون إلي على التتالي. كانت أسئلتهم غبية وغير مرتبة أبدا لكنهم ركزوا على أسئلة من نوع: أين تصلي؟ في أي جامع؟ من هو شيخك؟ هل تشرب مشروبات كحولية أم لا؟ هل لديك رفاق من طوائف أخرى؟
قلت له الحقيقة، أنا لا أصلي، ولست متدينا بأي حال من الأحوال».
لكن الأجوبة لم تعجب المحققين، الذين يريدون أن تعترف بما يرغمونك عليه: «وكوني قد قلت ما لا يعجبهم، بدأت حفلة التعذيب، تعرضت للركل والضرب من الخلف والأمام دون أن أستطيع الرؤية لتفادي الضربات. لم يغير ذلك شيئاً من أجوبتي فتم إدخال بما يعرف في السجون السورية بالـدولاب. كنت أشعر أن ضربات الكبل تأكل من جسدي إلى أن أغمي علي من شدة الألم. أيقظوني، أعطوني كأسا من الماء، ثم طلب مني أحدهم الاقتراب من النافذة واستنشاق أكبر كمية من الهواء. بعدها توجه إلي نفس العنصر بالحديث: انزل إلى المهجع وفكّر جيدا، ما حصل مجرد مزاح نسبة لما سيأتيك لاحقاً إن تابعت في الإنكار».
المهجع هذه المرّة لم يكن إلا الزنزانة المنفردة، التي يشكّل المهجع السابق نسبة إليها قطعة من الجنّة. الزنزانة لا تتجاوز المتر المربع الواحد، ينال المرحاض الحصة الأكبر منها، ولا تحوي أي إضاءة.
بعد قضاء الليل في هذا المكان، عاد المحققون في اليوم التالي: «نفس الصوت يسأل: شو يا فراس، فكرت؟ رددت بأني لست مذنباً ولم أقم بأي شيء يستحق ما أتعرض له». الجواب أغضب المحقق، لتتكرر حفلة التعذيب نفسها «لكن لسوء حظي، هذه المرة لم أفقد الوعي، ما دفعه لاستعمال أساليب جديدة في التعذيب. طالت فترة التعذيب ولم أستطع التحمل أبداً، فاستسلمت قائلاً له أني مستعد للاعتراف بأي تهمة يريدها».
الجواب استفزّ المحقق أيضاً، إلا أنه لم يلغِ بهجته بـ «الانتصار»، ليقول «ليس أي تهمة أريدها… بل اعترف بما اقترفته فعلاً، ألم يكن من الأفضل لو اعترفت منذ البداية؟».
قصة فراس لم تنته هنا، ويتابع قصّها «أدخلوني غرفة جديدة إلى جانب غرفة التحقيق، طلبوا مني الجلوس على الكرسي وقدموا لي كأس ماء، ثم سألوني إن كنت أرغب بالتدخين. أعطوني ورقة وقلم وطلبوا مني كتابة كل ما قمت به. رددت بعفوية غبية: لم أفعل شيئاً. فأجابني أحدهم: شو عبالك تطلع مرة تانية لفوق. سحب عنصر آخر الورقة من يدي وكتب عليها ما يريد هو ثم طلب مني التوقيع على الأقوال التي يفترض أني أدليت بها. سألته عن المحتوى، فأجاب: اعترافك انك شاركت بالتظاهر لكنك لم تقم بأي عمل تخريبي».
التوقيع لم يكن النهاية، فراس انتقل مرة أخرى إلى الزنزانة الانفرادية ليقضي الليلة فيها، وفي الصباح أعاده الأمن إلى المهجع، الذي أصبح يحوي 40 معتقلاً.
كانت الأيام تمر بصعوبة، الأسئلة تنزل على كالسياط الذي كان يستعمله المحقق: إلى متى سأبقى هنا؟ هل لهذا نهاية؟ ماذا يحدث في الخارج؟ كيف هم أقاربي؟ هل قارب النظام على السقوط؟ ماذا بعد أن أخرج؟ هل فعلا سأخرج؟ ماذا لو لم يسقط النظام وبقيت هنا أنا؟
بعد أسبوعين على الاعتقال «أتى أحد العناصر وطلب مني أن أجهز نفسي، اعتقدت أنه أخلي سبيلي، لكن في الحقيقة كان دوري قد حان للمثول أمام قاضي التحقيق. تم تحويلي إلى السجن المدني برفقة عدد كبير ممن كانوا معي في المهجع، وقد تعددت التهم الموجهة إلينا من قبل القاضي، فكانت تهمتي “إنقاص هيبة الدولة”، وتم تحويلي إلى السجن المدني. هناك الظروف المعيشية أفضل، الطعام والحالة الصحية أفضل، التعذيب أقل وطأة رغم أنه يطالك دون سبب أو هدف. لكني ومع ذلك، فضلت المهجع الآنف الذكر، فهناك كنا جميعاً من المتظاهرين أو المناهضين لنظام الحكم، أما في السجن المدني، فقد حوى إلى جانبنا لصوصاً ورجال دعارة وقتلة».
ويتابع فراس «مر شهر كامل، سمعت اسمي، سارعت إلى باب السجن، فإذا بالعنصر الذي اقتادني إلى المحكمة يطلب مني جمع أغراضي والاستعداد للرحيل. لكن إلى أين؟ مرة أخرى إلى فرع الأمن، لكن هذه المرة دون تعذيب أو تنكيل، بل بمعاملة جدا لطيفة. قالوا لي في الفرع أن سراحي سيخلى بكفالة مالية، وأن القاضي قبل بذلك بعد أن تدخل محقق الفرع مشكورا طالبا من القاضي القبول». ويضيف «في البداية صدقت ذلك واستغربته، لكني علمت في ما بعد أن هذه الجملة تقال لكل المعتقلين الذين سيخلى سراحهم».
أغرب مشهد تعرض له فراس خلال هذه الفترة المشؤومة كان أثناء إطلاق سراحه، إذ تقدم منه أحد العناصر وهمس في أذنه قائلا: “استر ما شفت منّا، ما باليد حيلة».
قصة فراس ليست إلا مثالا بسيطاً عما يتعرض له المواطن السوري من عذاب جراء اتخاذه موقفاً مغايراً لما يريده نظام الحكم. لكن ونزولا عند رغبة فراس لا بد من التنويه أن فرع أمن الدولة الذي استضافه يعد الأقل وحشية تجاه المعتقلين، وتجربته تعد من بين أقل التجارب سوءاً بين رفاقه المناهضين للحكم الديكتاتوري في سوريا.