إعلام التواصل الاجتماعي ودوره في إبراز المرأة اليمنية
محمد العبسي
السؤال حول كفاءة الإعلام اليمني* ومدى نزاهته في تبني قضايا المرأة، والدفاع عنها والانتصار لها أو نقدها وترشيد خطابها ، يفضي بدوره إلى أسئلةٍ جوهرية، أقلّ انتشاراً لكنْ أكثر مصيريةً، حول أداء الإعلام التقليدي، أكان حكومياً أو أهلياً أو حزبياً، من مجمل القضايا الوطنية التي تمسُّ الحياة اليومية للمواطن اليمني كقضايا التعليم والأمية والكهرباء وشحة المياه وحقوق الأقليات ودخل الفرد وتداخل السلطات وعدم سيادية القانون وتركيبة الجيش القبلية والمليشية وانتشار السلاح وعدم تكافؤ الفرص لا بين رجل وامرأة فحسب، وإنما بين المديني/ة والريفي/ة، والجبلي/ة والساحلي/ة. ويخيل إليّ أن أحد الجالسين في القاعة يود لو يضيف مُصححاً: تقصد بين الجنوبي/ة والشمالي/ة. ومن يدري فلو كان بين الحضور فتاة تنتمي إلى فئة المهمَّشين السود لنهضتْ من مقعدها وقالت محتجةً: وهل تتساوى فرصي في الحياة الكريمة مع أي من النساء الموجودات في هذه القاعة؟
وكنتُ لأوافقها بالتأكيد.
ما أود قوله إن الإعلام التقليدي، المرئي والمقروء والمسموع، في إقصائه أو تغيبه، المتعمد أو العفوي، لقضايا المرأة لم يكن يمارس بأية حال من الأحوال إقصاءً انتقائياً تجاه المرأة، بدوافع ذكورية أو عقائدية أو مجتمعية محافظة، بقدر ما كان سلوكاً ناتجاً عن قصور الإعلام عن أداء واجبه الأساسي تجاه قضايا وطنية كثيرة غُيبّت عن الضوء لأسباب تتعلق بوظيفة الإعلام وبنيته التحتية الضعيفة، وغير المؤسسية، والمسيطر عليها من مراكز القوى والنفوذ والمشائخ. وهذا تحديداً ما أسماه آرثر بيرجر “نظرية الجدولة” المتمثلة بـ”فرض ذهنية معينة تجري عبرها برمجة أذهان المُتلقين عبر حيلة الاختيار والاستبعاد، حيث يتم التركيز على أشياء وإغفال أشياء أخرى” (1).
وهنا حجر الزاوية:
خبر يعرض في شاشات مكبرة رئيسي ويعاد ويكرر في أكثر من صيغة وآخر، بذات الأهمية الموضوعية، يستبعد أو يحال إلى الهامش.
إنها ثنائية الاختيار والاستبعاد.
ولا يحتاج المرء إلى بذل كثير جهد ليدرك أن الإعلام اليمني الذي فَزعَ لسقوط طائرة عسكرية في صنعاء ووفاة قائدها، كمثال تقريبي، يظهر برود أعصاب مميت تجاه الحوادث المرورية البرية، لا الجوية، التي يموت بسببها في المتوسط 10 أشخاص في اليوم (2). ما يعني أن ضحايا عقد واحد يفوقون ضحايا حروب صعدة وكافة الحروب الأهلية في اليمن. والأمثلة المشابهة أو الأكثر مفارقة بالمئات.
وبعد، فإن الإقرار بكون الإعلام التقليدي كان خذّالاً للمرأة قبل الربيع العربي في اليمن، برضاه أو غصباً عنه، فهذا لا يعني بالطبع أنه صار مُنصفاً بعده؟ على الإطلاق. فالتغير بجِبلّته تراكمي تدريجي. وأداء الإعلام التقليدي، والحكومي خاصةً، في تقديري لم يتغير كثيراً بعد الربيع العربي عنه قبله إلا من حيث أنه يحاول، بحياء وماضوية، مجاراة إعلام التواصل الاجتماعي “فيسبوك وتوتير ويوتيوب” الذي غير قواعد الاعلام والإتصال بالجمهور كليةً.
لنقم إذن بترتيب القطع على رقعة الشطرنج.
إن أسباب وصول صوت المرأة اليمنية إلى المجتمع، بوضوح أكثر وتشويش أقل، ثم مشاركتها في صناعة الحدث العام، تُعزى في تقديري الشخصي ليس إلى ثورات الربيع العربي، كما يتوهم ويدّعي كثيرون، وإنما يعود ذلك إلى العصر ذاته وطفرة التكنولوجيا التي اندلعت في خضمها الثورات العربية وظهور المواطن الصحفي وإعلام التواصل الاجتماعي. تحضرني في هذا السياق عبارة المؤرخ الألماني مارك بلوخ القائلة إن “البشر أبناء عصرهم أكثر من آباءهم” (3).
كان الإعلام التقليدي أداة الأنظمة السياسية في التحكم بالوعي العام وفق ما تقرره. وبظهور التلفاز والثقافة البصرية بدأ التبشير بـ”سقوط النخبة وبروز الشعبي” (4).
وإذا كان المفكر البريطاني برتراند راسل قد عدّ اكتشافي البارود وبوصلة الملاحة سبباً في تغيير العالم كون البارود أدى إلى إخضاع المتمردين بالمدفع وساهم في توطيد النظام واحترام القانون وسيطرة الدولة المركزية في إنجلترا ثم فرنسا وإسبانيا (5) فمن المؤكد أنه لو ما زال حياً كان لينظر إلى ثورة الإعلام التواصلي باعتبارها أكثر أهميةً من اكتشاف البارود وليست بأقل أثراً من اكتشاف البخار والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
فبفضل وسائل الاتصال الاجتماعي “انتقل الاعلام السياسي العربي من إعلام رأسي من الاعلى الى الأسفل، ومن الحكام الى المحكومين. انتقل الى اعلام افقي من خلال وسائل اعلامية بديلة سمحت للطبقات الشعبية بأن تعبر عن رأيها وتصنع الخبر من خلال التقنيات الحديثة ومن خلال لوحة مفاتيح الحاسوب” (6).
بعبارة أخرى: “لقد تحول الناس بفضل الاعلام التواصلي من مستهلكين الى مشاركين” حسب تعبير السياسي اللبناني بلال شرارة. كون “الاعلام التواصلي يقوم على امكانية الحوار والتبادل والمشاركة وإتاحة حق الافراد في التعبير”. وبهذا فإن “ما يميز فيسبوك انه وسيط تواصلي وتفاعلي يجعل من كل مشترك متلقيا للخبر وصانعه في وقت واحد، ما يسمح لأي متصفح أن يتابع الاحداث في اي بلد في العالم. وبات من لا يمتلك صفحة الكترونية كأنه منعزل عن العالم” (7).
ولئنْ كانت عملية التلقي قائمة على “مُرسل ورسالة ووسيلة الاتصال” فإن “تغيير الوسيلة يقتضي تغيير مضمون الرسالة وشروط استقبالها” وفق طرح الدكتور عبدالله الغذامي (8)
** **
هل عليّ التنويه هنا أنني لست من مُشجعي خطاب الفصل التمييزي بين المرأة والرجل. فالطبيعي أنهما أساس تناغم وتوازن واستمرارية الحياة كما والكون. وغير الطبيعي، بل والتعسُّفي، الفصل بينهما أكان عن حسن نية بدافع الانتصار لحقوق المرأة المنتهكة في مجتمع ذكوري، أم رضوخاً لقهر المجتمع وأسبابه المتعلقة بعادات وتقاليد ما، أو بمعتقدات لاهوتية. ذلك أن خطاب الفصل يضمر في داخله اعتقاداً مبطناً بعدم الندية ويبدو لي أحياناً ضرباً من الشفقة والمنة.
ثم إن المرأة ليست كائناً فضائياً بأي حال من الأحوال.
** **
أذكر أن نقاشاً متحمساً دار بين مثقفين وكتاب، كنت أحدهم، في الشهور الأول من الثورة الشبابية حول دور المرأة اليمنية وموقعها وقد خلص النقاش في مجمله إلى الميل باستحالة تقبّل المجتمع اليمني أن تُقاد ثورته من قبل امرأة وأن زمن أسلافنا ممن حكموا من قبل الملكة أروى بيت أحمد قد ولى إلى غير رجعة. لكن التاريخ ليس الذي تتوقعه النخب حدوثه عادةً. وقد خيبت الأحداث التالية أسوأ توقعات 2011م. ويكفي اليوم أن يشار بالبنان إلى نبيلة الزبير، الشاعرة والروائية، وهي ترأس لجنة صعدة في مؤتمر الحوار الوطني كانتصار للمرأة في لجنة تضم في عضويتها شيخ قبيلة حاشد صادق الأحمر، ومشائخ من قبائل أخرى، بل وممثلين عن جماعة الحوثي التي هي بالأساس، وقبل كل شيء، جماعة دينية مغلقة. ذات الشيء عن بلقيس اللهبي في لجنة الجنوب، وأروى عثمان في لجنة الحريات.. وبقية زميلاتهن في اللجان الأخرى وذلك بمعزل عن وجهة نظري الشخصية في مؤتمر الحوار ومجمل أدائه المسرحي ومخرجاته القوالبية.
** **
الأرجح في اعتقادي أن الربط الفوري -الذي يتحمس له كثيرون- والمقارنة بين وضع المرأة في المجتمع اليمني قبل وبعد الربيع العربي، يعود إلى الأخبار السارة التي “صادف” أن أتت مجتمعةً بعد وأثناء الثورة الشبابية.
فمن الأنباء السارة القادمة من خارج اليمن خبر حصول الدكتورة مناهل ثابت (9) على مرتبة علمية مرموقة في مجال البحث العلمي (المجال الأكثر شِحةً من المياه في اليمن).
ومن المحلية إلى العالمية، كان فوز الزميلة توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام (10) حدثاً استثنائياً بالتأكيد لا لصالح المرأة اليمنية بل للمرأة العربية، والخليجية على وجه الخصوص، لما أحدثه، ويحدثه، من تغيير تراكمي في نظرة الرجل العربي لمشاركة المرأة الفاعلة في الحياة العامة والشأن السياسي. ويرضيني كيمني أن تظهر توكل كرمان -وإن اختلفنا معها قليلاً أو كثيراً- في محركات البحث حول العالم عند إدخال كلمة اليمن إلى google بدلاً عن ظهور أحد قادة تنظيم القاعدة.
ومن هدايا الربيع العربي أيضاً حصول الناشطتين بشرى المقطري وأروى عثمان كلتيهما على جائزتين رفيعتين عالمياً (11) لدورهما المجتمعي والحقوقي دون إغفال إسهامات الأولى في الأدب، والثانية في الحفاظ على الموروث الشعبي والقص.
ويسعني الجزم أنه ما كان ليصل إلى الرأي العام صوت ألفت الدبعي المتمايز داخل حزب الإصلاح عبر الإعلام التقليدي، أو إعلام الحزب الإسلامي ذو اللون الواحد، وإنما حملته إلينا نقرات منشورات الإعلام التواصلي.
وبينما كان، وما زال، كثير من مراسلو وسائل الإعلام الأجنبية في اليمن تحت تأثير ، أو خشية، المؤسسة الرسمية وينقلون صوراً باهتة ومضللة ومخادعة أحياناً عما يجري في اليمن، فإن واحدة من أجمل هدايا الربيع اليمني والإعلام التواصلي ظهور المدونة أفراح ناصر، اليمنية المقيمة في السويد، كراصد يومي وناقل أمين ونزيه لما يحصل في اليمن.
وهل كان ممكناً أن تقود هند الإرياني حملتها ضد القات، أو ضد مراسل رويترز -رغم تحفظاتي المبررة على الأخيرة- إلا عبر فضاءات الإعلام التواصلي الخارج عن سيطرة حراس بوابة الإعلام التقليدي؟
وبعد، فإن تشكيلة واسعة من الناشطات والحقوقيات وسيدات المجتمع اللواتي يؤثرن في الشأن اليمني. تتبادر إلى ذهني أسماء كثيرة: د.سعاد القدسي/ أمة العليم السوسوة/ نادية الكوكباني/ آمنة النصيري/ ليزا الحسني/ علياء فيصل الشعبي/ جميلة علي رجاء/ جمالة البيضاني يرحمه الله/ رقية الحجري/ بلقيس ابو أصبع/ سماح الشغدري/ بلقيس اللهبي/ رضية المتوكل/ الكاتبة القديرة ميساء شجاع الدين/ وميض شاكر/ أمل الباشا/ نبيلة الزبير/ فاطمة العشبي/ أروى الخطابي/ ماجدة الحداد. وبالمجمل لا أكون قد أنصفتُ من ذكرتُ هنا أسماءهن ، ولست جاحداً ولا مستخفاً بحق ودور من لم أذكر أسماؤهن لأسباب ليس أكثرها وجاهة الاستعجال وكتابة هذه الورقة قبل يومين فقط.
(ورقة عمل في الندوة التي عقدتها مؤسسة صوت للتنمية بالتعاون مع منظمة فريدرتش إيبرت الألمانية في صنعاء اليوم.)