الميكيافيليون الجدد
معمر عطوي
ثمة مسلّمة لا يمكن مناقشتها في علم السياسة ومفادها بأن الحُكم هو فن الممكن، وأن السياسة تخضع لسلّم الحاجات والأولويات لا للعقائد والنظريات كما كنا نظن في مراهقتنا، بمعنى أن ما يحكم العلاقات بين الدول هي لعبة المصالح لا لعبة المباديء.
ومن خلال تجارب سياسية كثيرة في العالم، يحضر عالم السياسة الإيطالي نيكولو ميكيافيلي (1469-1527) بقوة في ممارسات السياسيين الذين أخذوا عنه نظرية فصل الأخلاق عن شؤون تدبير الحكم، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وساروا وفقها وعلى هديها.
لعل كتاب “الأمير”الذي كتبه فيلسوف السياسة الواقعية في بداية القرن السادس عشر ونُشِر بعد وفاته بخمس سنين، كان ولا يزال موجِّهاً أساسياً للكثيرين من رجال السياسة، الذي حكموا ودخلوا التاريخ من أبوابه الواسعة، ومنهم لا يزال في المشهد السياسي يتغذّىّ من أفكار ومطارحات إبن مدينة فلورنسا الإيطالية.
المفارقة أن المتدينين الذي كانوا يؤمنون بالدولة المسيحية في حينه رفضوا هذا الكتاب، ووضعته روما عام 1559 ضمن الكتب الممنوعة وأحرقت كل نسخه. علماً ان الدولة الدينية المسيحية ومن بعدها الإسلامية واليهودية، لم تبتعد جميعها عن منطق “الغاية تبرّر الوسيلة” في ممارستها للسياسة ونسج تحالفاتها.
ولم يكن موضوع الأخلاق حاضراً إلاّ في السياسات الاجتماعية التي تحكم مسار الفرد، فتصادر حرياته الشخصية وحقوقه المدنية أحياناً بذريعة الحفاظ على الأخلاق، مع لفت الانتباه الى ما وراء هذه الأكمة من فساد وانحرافات تمخضت عن ذهنيات مسحوقة مضطَهَدة باسم الشريعة الدينية. لكن على مستوى “القيادة الرشيدة” فإن كل ما يخدم الطبقة الحاكمة هو مُتاح، وكل ما من شأنه إدامة النخبة أو المافيا الحاكمة على عرش السلطة لا بد من العمل وفق “شريعته”.
الإسلاميون اليوم في الوطن العربي، مارسوا الميكيافيلية بغباء وبأبشع صورها، فرضخوا للقوى الكبرى وحصلوا على مباركتها لتولي الحكم، لأن هذه القوى باتت تدرك بأن التيارات التي تحظى بقبول شعبي هي التيارات الدينية، التي تسيطر على الناس بقوة تأثير”المقدّسات”. ولم يكن هؤلاء الميكيافيليون الجدد يدركون أن مبدأ “التقية” لم يعد يمر في زمننا، حيث بات العارفون بطبيعة هذه التيارات أن الاسلاميين يستغلون الديموقراطية لمصادرتها عند أول فرصة تعزز وجودهم في السلطة. لذلك لم تنفعهم مغازلتهم لإسرائيل ولا زياراتهم المتكررة الى أروقة الحكم في الغرب، ولا اعتمادهم النظام الاقتصادي “الليبرالية الجديدة” الذي يستهدف الفقراء وصغار الكسبة، في الاحتفاظ بكرسي الحكم. لأنهم سرعان ما انكشفت حيلهم وخداعهم.
أرادوا أن يقوموا خلال سنة بما قام به رجب طيب أردوغان في تركيا خلال سنوات طويلة. كبيرهم العثماني الذي علّمهم السحر، جرّهم الى “حديقة” حلف شمال الأطلسي والبيت الأبيض، لأن مواجهة إيران الشيعية أصبحت أهم عندهم من كل “الكفرة”. وتناسوا أن معلّم الإسلام السياسي التركي الراحل نجم الدين أربكان. كان يحذّر اتباعه من أردوغان ويتهمه بالعمالة للأميركيين وعدم الاخلاص لمدرسته الفكرية.
تُرى بعدما بانت سوءة الرجل الذي يحكم أكبر ثاني بلد من حيث عديد الجيوش في حلف شمال الأطلسي، وبعدما فشلت “وصفاته” وارشاداته في تمتين شعبيته في الداخل التركي، وانسحب الفشل على اتباعه في الدول العربية. ألا يزال أردوغان هو النموذج- القدوة للإسلام السياسي، بما يمتلكه من قدرة على الخداع ومن حيل تصب في مصلحة تحقيق أهدافه ومصادرة الحريات والديموقراطية التي أوصلته الى الحكم؟.
مع النقد الشديد للانقلاب غير الشرعي وغير الديموقراطي الذي قامت به المؤسسة العسكرية ضدهم، الإسلاميون في مصر كانوا مستعدين أن يحرقوا “المحروسة” على أن يغادروا قصر الاتحادية الذي يشكل هدفهم منذ تأسيس جماعتهم في العشرينات.
والسلفيون أيضاً زعموا أنهم أصبحوا يؤمنون بالديموقراطية وبالانتخابات بعد سنوات طويلة من محاربتها واعتبارها أحد افرازات الكفر، فقط ليصلوا الى السلطة ويحكموا “بما انزل الله” ويا له من حكم حين تصبح كافة النساء ملتحفات السواد والرجال بأشكال تشبه انسان العصر الحجري!!. ثكلتكم امهاتكم.
الإيرانيون ليسوا أقل سوءاً طبعاً لجهة ميكيافليتهم؛ هم مستعدون للمشاركة في قتل آلاف المواطنين السوريين من أجل الحفاظ على امتيازاتهم في بلاد الشام، ومستعدون أن يحرقوا العراق بنفطه ونخيله على أن يبقى ممر البصرة آمناً بين طهران وبغداد. الإيرانيون أيضاً مستعدون ان يشعلوا حروباً مذهبية من المحيط الهادر الى الخليج الثائر، من دون أن يعترفوا بأن “هدم الكعبة خير من ان يهرق دم مسلم”. هؤلاء هم الميكيافيليون الجدد من إسلاميين سنّة وشيعة، يستغلون الأخلاق والقيم وما يسمونه بالمقدّسات والتكليفات الشرعية لتحقيق مآربهم الخاصة بجماعاتهم و”كل حزب بما لديهم فرحون”.