في احتقار الإجتماع العربي
روبير بشعلاني
مقالات كتاب جريدة “الحياة” السعودية الصادرة في لندن هذا الاسبوع حول الوضع السوري أعادتني إلى عقود مضت. إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي يوم أنصدمنا نحن التقدميين اللبنانيين بالحقيقة الجارحة لواقعنا الإجتماعي القرابي الطائفي بعد أم امضينا ردحا طويلا من الزمن نعيش في “الطوبى” الطبقية. لكن خطأنا وأحلامنا و”سذاجتنا” توقفت عند ذلك الزمن فلم نعد نقبل أن نجرّ الناس الى المقصلة، ديمقراطية كانت أم حقوق إنسانية، لا لشيء إلا لقلة فهمنا أو انصياعاً لفكر عالمي غالب يصوّر لنا ما يجب أن نقوله فنردده كالببغاء. فأمام الصورة الطائفية التي تتوّجت بخطف الثوار الطائفيين للثوار العلمانيين، اكتشف حسام عيتاني أنه “بين وحشين”. واعترف حازم صاغية ب”بعض السذاجة”، ليس لديه طبعاً، بل لدى “ثوار الطور الأول”. وحده حازم آخر، من آل الأمين، مصر على نظرية المؤامرة المقلوبة. ففيما اعتبره الكاتبان الأولان صدمة احتقار”الثوار” للواقع القرابي الطائفي أصر الأمين على أنه ليس إلا خطة ديوثة من النظام نفسه لكي يثبت للعالم انه كان على حق. إثر انتهاء الجولة الأولى من الحرب الأهلية في لبنان عام 1977 قررت مجموعة من اليساريين يومها الإنسحاب من معركة ” البرنامج المرحلي و الحكم الوطني الديمقراطي” بعد اضطرار الحركة الوطنية البنانية إلى تبني شعار المشاركة في الحكم. المشاركة ، للأجانب، مفهوم يعني مطالبة آل السنة في لبنان باقتطاع حصة إضافية من السلطة على حساب الموارنة آنذاك. اضطرار الحركة الوطنية للتخلي، ولو “مرحلياً”، عن شعاراتها ب”الانتقال الديمقراطي” لتتبنّى شعار آل السنة بالمشاركة لم يكن بالطبع وليد خطأ في التحليل. كما لم يكن وليد الصدفة. لكن كان إبن القراءة الخطأ للإجتماع اللبناني والعربي عموماً، وليد اصطدامها بالواقع وشعورها بأنها خرجت عن السياق.اصطدامها وانصدامها أيضاً. فعندما تقوم الأحزاب التقدمية بتعيين أهدافها إنما تفعل ذلك بناء على قراءة ملموسة لواقعها الملموس تحدد من خلالها طبيعة وماهية الصراع ونوع القوى المتصارعة واهداف كل منها كما تعيّن القوة التاريخية صاحبة المصلحة فيه بالتقدم التاريخي فتصطف خلفها وخلف أهدافها. شرط ذلك نجاح التحليل والتشخيص والقراءة. وهكذا فإن القوى التقدمية اللبنانية مرّت بعدة أطوار في دراستها للواقع اللبناني.ففي البداية كانت قد شخّصت العلّة في النظام البورجوازي اللبناني الذي يقوم باستغلال الطبقة العاملة. وعليه بنت برنامجاً لإقامة الإشتراكية في لبنان. ثم انتبهت إلى تناقضات مركبة تتناقض مع رؤيتها المبسّطة فانصدمت وتراجعت عندها إلى هدف أدنى يتمثل بضرورة قيام مرحلة انتقالية يجسدها نظام وطني ديمقراطي يضم ” اوسع القوى والطبقات…..” الخ. لكن مع بدء الحرب الأهلية التي، للعلم، لم يتوقع وقوعها اليسار اللبناني، لا الطليعي ولا غير الطليعي، بل تفاجأ بها تماماً، فوجئت الحركة الوطنية بكافة أحزابها بالطابع الطائفي للإنقسام في البلاد. وبدلاً من فهم الإنقسام والعمل على فهمه لإيجاد العلاج قامت هذه الحركة بالإنخراط به كما هو. من هنا شعار المشاركة، أي التخلي بكل بساطة وبأقل من ربع ساعة عن “الحكم الوطني الديمقراطي” لمصلحة شعار إحدى القوى الطائفية الممثلة بالقوى المسلحة الفلسطينية المتواجدة على الأرض اللبنانية بمحض الصدفة. بالطبع لن نوسّع كثيرا في المجريات التاريخية لهذا الانحياز. فقط نقول أنه قاد إلى نجاح آل السنة بالحصول على حصة أكبر من النظام الطائفي على حساب آل الموارنة لكنه فتح في ذات الوقت صندوقة باندورا للمزايدات الطائفية والحروب الأهلية المفتوحة. هذا على صعيد الحكم أما على صعيد القوى السياسية على الأرض، فالنتيجة كانت اضمحلال القوة “الوطنية”، “الثورية”، التي ساهمت بنصر آل السنة. فقد عقد مؤتمر تسوية في الطائف لم يدعَ إليه إلا القوى الفعلية. اما قوى الحركة الوطنية اللبنانية فقد زالت تقريباً من الوجود، السياسي على الأقل. الاصطدام بالحقائق الاجتماعية القرابية قديم إذن، ولا يحتاج الى خيبة جديدة في سوريا أو العراق لكي نكتشف “بعض” سذاجتنا. معروف بالعلم الصحيح أن العودة لتجربة جديدة مع الاحتفاظ بالعوامل الأولى لن تغيّر بالنتيجة شيئاً. فلماذا عدتم ؟ حتى الحقد الشخصي والثأر أو الخبث لم يعودوا أسباباً تخفيفية أو تبريرية. رمي مسؤولية القراءة الخاطئة، قراءتنا، على “النظام” هي مواصلة سياسة السذاجة نفسها. العلّة ليست هنا والعدو هناك. هذه معارك تجري على أرض المحتل الأجنبي لروحنا الاقتصادية والسياسية والفكرية، هذه شعاراته التي أقنعنا ب”عصريتها”، هذه شعارات تستثير الحروب الفتنوية بين قبائلنا الروحية والرحمية. غيّروا القراءة الساذجة تتغير المواقع والتموضعات. لا يمكن الاستمرار بالوقوف في نفس المواقع مع الاعتراف بسذاجة الرؤية الاساسية للإجتماع والسياسة.