تناقضات التدخل العسكري في ليبيا
وليام لوديه*
ستحتفظ الحمى الإعلامية في جعبة أرشيفاتها بدور فرنسا وقوى التحالف الدولي في سقوط معمر القذافي. وبمجرد أن تتبدد هذه السحابة، سيحمل التاريخ أيضاً في طيات صفحاته حكماً قاسياً على دلالة هذا السقوط، وسيضع النقاط على الحروف حول العواقب المترتبة لهذا التدخل العسكري الذي يبدو نوعاً ما متناقضاً، لاسيما في التفسيرات المتعسفة لبنود لائحة 1973 المصادق عليها من طرف مجلس الأمن، والتي صرحت بالتدخل العسكري في ليبيا. العديد من النقاط التي تثير الاستغراب وتدعو للتساؤل والوقوف عندها، بعض منها يفسر كنوع من الإنكار المركب والمعقد للوضعية الليبية وأخرى ذات طابع أخلاقي.
ويمكن تقييم هذه الإنكار المركب والمعقد على صعيدين مختلفين. الأول يفسر محلياً بحيث أن الاعتراف السريع بالمجلس الوطني الانتقالي كان من قبل الإليزيه بمثابة جهل حقيقي لواقع تعقيدات الثورة الليبية في تركيباتها وميكانيكياتها. فالإليزيه اتخذ موقفاً متجاهلاً للوضعية الجيوسياسية الليبية والتي تنقسم إلى ثلاث تركيبات فرعية عرقية لسانية، وهي قبائل برقة وطرابلس وفزان، والتي تقوم على النظام القبائلي والنسب المتشعبة.
لقد تم الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي من دون معارضة سياسية، فقط بمجرد مناقشة الانقلاب على نظام القذافي. بيد أن الثورة الليبية كانت في بدايتها، على غرار الثورات التونسية والمصرية، متقدة بشعلة تذمر الشباب المقهور واستياء الطبقة المتوسطة التي كانت تود أن تحمل قدرها بنفسها. إلا أن هذه الإرادة تمت مصادرتها من قبل المجلس الوطني الانتقالي والمتكون من حفنة من الوزراء السابقين في النظام السابق، ومن إسلاميين ومن قياديي البربر، فما العجب إذاً إذا تم الإعلان بتطبيق الشريعة؟ كيف يمكننا أن نتصور تنظيم انتخابات في غضون ثمانية أشهر في بلد حيث المجتمع المدني والسياسي لا يزال في طور التكوين والإنشاء؟
وعلاوةً على هذه الحالة المعقدة للوضعية الليبية، فقد فرض التدخل العسكري في ليبيا غشاوة كبيرة على المستوى الإقليمي وشبه الإقليمي. الواقع أن بلدان الساحل (مثل النيجر ومالي وتشاد وغيرها) تعاني بطريقة مباشرة أو غير مباشرة تداعيات انهيار الجماهرية. كما أن تدفق الأسلحة التي استفاد منها عناصر القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي والهجرة وتسييس قضية المرتزقة الصحراويين من قبل النظام السابق واختلال تسيير المنشآت الإقليمية (لاسيما الإتحاد الإفريقي الذي كانت تموله ليبيا بنسبة 45%)، لا زالت الى الآن تثير العديد من التساؤلات ويتعذر بالتالي تقييمها وتقديرها. أما الحضور الدائم للجزائر، التي تميزت بمساندة الزعيم القذافي بلا منازع، يجدر بنا، عشية ذكرى الخمسين لاتفاقيات إيفيان، طرح تساؤلات بشأنها. كما أن تواجد القوات العسكرية القطرية، إلى جانب قوات المجلس الوطني الانتقالي، يستدعي التخمين والتفكير. بعبارات أخرى نفتقر كثيراً إلى تحليل في الأبعاد الجيوسياسية والجيوستراتيجية للوضعية.
واستناداً للمبادئ، وأشدد في ذكر أنها ليست تلك المبادئ التي تشرع “حرباً عادلة”، فالتدخل العسكري في ليبيا يثير كذلك إشكاليات أخلاقية أولها تفسيرات خاطئة لمضمون بنود اللائحة الأممية 1973. وللتذكير فإن نصوص هذه اللائحة تم اختراقها من قبل دول الحلف التي كانت تحمل على عاتقها “مسؤولية حماية المدنيين”، لكن اتضح منذ البداية أن التحالف الدولي، بزعامة براك أوباما ونيكولا ساركوزي، جعل من التدخل العسكري في ليبيا هدفاً واحداً، وهو القضاء على معمر القذافي. وابتداءً من هذه النقطة، انقلبت عملية التدخل العسكري من حماية المدنيين إلى مساعدات عسكرية تخدم مصالح أشخاص معينة، والمتمثلة في القوى العسكرية للمجلس الوطني الانتقالي.
صحيح أن هذه التناقضات والمفارقات بشأن التدخل العسكري ليست بالهينة، فالتفسيرات المشوهة في قرارات لائحة 1973 لم تؤد فقط إلى الإطاحة بنظام القذافي، ولكن كانت سبباً، وبطريقة غير مباشرة، في تقليص احتمال تبني نصوص من شأنها دعم الثائرين في سوريا أو اليمن مادياً. ويبدو أن التصويت على نص مشابه لصالح الشعب السوري أو اليمني صعب جداً بسبب التحفظ المبدئي من قبل روسيا والصين (من دون الأخذ بعين الاعتبار باقي دول مجموعة “بريك”، كالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا). وتم تطبيق مبدأ حق التدخل الأجنبي، لأول مرة ومن دون استعمال القوة والذي أقر عام 2005، أما اليوم، فقد أصبح استخدامه يشكل خطراً حقيقياً ويستلزم الدراية والحنكة، وللأسف فإن تدخل قوات التحالف خرقت مضمون مبدأ التدخل الأجنبي هذا باللجوء إلى استعمال القوة.
ويبدو أن الغرب يتعامل مع الثورات بطريقة تعاطفية انتقائية. فهناك ثورات يقوم بمساندتها مثلما هو الحال مع ليبيا وأخرى يتجاهل وجودها مثلما هو الوضع في سوريا واليمن، بل الأسوأ من ذلك، هناك من الثورات التي يتواطأ مع حكامها لغض النظر عنها والالتزام بالحياد النشيط لدوافع جيوستراتيجية كما حدث في البحرين. وأخيراً وفي السياق ذاته، يخال أن بعض مظاهر هذا التدخل العسكري غير المستهان بها تستدعي العديد من التساؤلات الأخلاقية، منها على سبيل المثال لا الحصر، قضية كيفية معاملة المجلس الوطني الانتقالي للسجناء وملاحقة العديد من المهاجرين الأفارقة الصحراويين الذين وقعوا ضحايا هذه السياسة الحربية والطريقة المتوحشة في إعدام معمر القذافي.
لقد كانت لفرنسا الحكمة في إقرار التدخل السريع في ليبيا لحماية المدنيين، لذا كان عليها “التحكم والسيطرة” على عمليات العنف، وتشجيع تحديد علاقات القوى وإلزام الأطراف بالتفاوض للوصول إلى حلول سلمية. كان من الممكن الإقرار بالتدخل الأجنبي بطرق مختلفة وبقراءة صحيحة ومطابقة لمضمون بنود لائحة 1973. صحيح أنها كانت ستبدو أقل مفخرةً في الظاهر، إلا أنها كانت ستتيح للمجتمع الدولي الجلوس على طاولة المشاورات، في الوقت الذي تبدو اليوم عاجزةً تماماً عن اتخاذ موقف حيال نظام بشار الأسد.
*أستاذ العلاقات الدّولية بالمعهد الوطني للّغات والحضارات الشّرقية “Inalco” – باريس