“التأخر التاريخي ” علّة وجودنا أم ثمرة الهيمنة يا سليمان تقي الدين ؟
روبير بشعلاني
في جريدة “السفير” اليوم مقالة في صفحتها الأولى للكاتب سليمان تقي الدين تستحق التوقف لما فيها من أفكار ليبرالية مبطّنة بدعوة الى مشروع عربي قومي.
للذهاب الى مشروع عربي وطني جدي علينا ان نقرأ علّاتنا بشكل متطابق. وتحدياتنا بشكل موحّد. وعلينا ان نقرأ ماضينا وحاضرنا كما هو لا من خلال نظريات الثنائيات الساذجة حداثة-معاصرة، استبداد-ديمقراطية.
علينا ألا نحمل خصومنا المضمرين – حلفاء الامس يوم كانوا أقوياء- مسؤولية المجتمع القرابي وعدم القيام في دمجه بنسيج وطني “أوروبي”.
علينا ألا نظن أن الاحتلال الأمبريالي لنمط عيشنا تفصيل بسيط.
علينا الا ندع الناس تعتقد أن قيام الأمبريالية أو الناهب الدولي بمنع دولنا المسخ من توسيع العملية الانتاجية ليس في أساس بقاء البنى القرابية الحقيقية بل ” الأنظمة” التي ” قمعت الحريات”. قلب المقولات وتقويلها ما لا تحتمل. السياسي يغيّر الاجتماعي أم العكس؟
الاتفاق على الذهاب الى مشروع عربي وطني عليه ان يكون وطنيا. وإلا لكنا كمن يرى في “هبلنا” وفي ” تأخرنا” المشكلة. لا في الاحتلال الذي يسد عليك الاندماج والتطور والتكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
الشعوب تتوحد في الصراع مع أعدائها لا في التآلف مع افكارها وفي السكوت المريب عن احتلالها وعن دورها في تخلفنا.
لا يا رفيق سليمان تقي الدين، لا . ما “نتقيأه” اليوم ليس ” اندلاع واسع لظاهرات تنامت على مدى عقود من ترهيب الأنظمة وإلغاء الحريات”. الطوائف والعشائر كانوا وما زالوا يشكلون تاريخنا الإجتماعي الحقيقي. هل الدروز في جبل لبنان أسبق على الأنظمة أم هي التي خلقتها مثلا ؟ هل تشكل الموارنة تحت ضغط نظام “الوصاية” السوري؟
ما نتقياه اليوم هو أدوات المستعمر الذي قام بتربيتها يوما بعد يوم عبر سد إمكان تطور مجتمعاتنا وايجاد منافذ عمل لملايين الشباب المتعلم والعاطل من العمل بسبب سيطرة نمط الانتاج الريعي المفروض علينا بقوة العنف، عنف منظومة النهب الدولي: تجزئة، ناطور، مخفر، ودكان.
لا يا “رفيق”. جمال عبد الناصر لم يكن ممثلا لأقلية. كان ممثلا لمشروع الشعب. كان ممثلا لمشروع الدولة الصاعدة، قبل أوانها ربما.
لا يا رفيق المشروع الوطني العربي لم “يفشل” بل انهزم. انهزم نعم أمام قوى عظمى كانت يومها متماسكة وقوية ولم تسمح بنشوء اي دولة صاعدة.
“الإفرازات” التي لم ترها عينك العصرية إلا اليوم هي مجتمعك الذي حافظ عليه المحتل الأمبريالي كبؤبؤ عينه. هي حقيقتك التي منعك منظارك الفكري من رؤيتها حين كان ذلك من واجبك. الإفرازات التي تفاجأت بها هي بنى عمرانك البشري الذي أبى الناهب الدولي ان يغيّرها بل فرض نمط الإنتاج الرأسمالي الشكلي علينا.
الإفرازات الي تراها اليوم ليست من مسؤولية أنظمة التحرر و”النهضة ” بل من مسؤولية هزيمتها بوجه من لم تعد تريد بصيرتك ان تراه: الغالب المستعمر.
الإفرازات التي تراها ليست إفرازات الماضي بل بنت المجتمع القرابي الحالي المستمر الذي لم تره منظومتك الفكرية التي شاءت ان تستبدلها ب “طبقات” اوروبا. هي الحاضر الذي حاول المشروع الوطني النهضوي أن يغيرها فغلبه المستعمر وفرضها بالقوة.
لا يا “رفيق” مضمون المشروع المسيحي الكياني لم يكن ” مضموناً تقدمياً للوطنية اللبنانية” بل كان مشروع تثبيت منظومة الهيمنة الخارجية. لم يكن اكثر من ناطور قرابي( ديني) لمصالح الغرب الرأسمالي التوسعي. هو هو ما تسميه حضرتك اليوم “تقيؤات”.
عن أي دولة حديثة تتكلم يا حضرة “الرفيق” ؟ عن دولة بنيت على تجزئة وبئر وناطور قرابي؟ أي مشروع حديث يمكن أن ينجح بدون الصراع مع الناهب الخارجي الذي جوّف البلاد والعباد من أي ثورة او مورد؟ أي ديمقراطية يمكن أن تمر بدون استرجاع وسائل السيادة؟ ما هي الخيارات الحرة التي تعرضها على الشعب طالما أن موارده محتلة وسياسته مصادرة بعدد من المعاهدات والقواعد العسكرية؟ سيادة الشعب على ماذا ؟ على توزيع فتات الريوع بين أبناء العمومة والخؤولة ؟
اي خيار ديمقراطي ممكن بدون أمن ؟ أي خيار ديمقراطي ممكن قبل استرجاع حقك في استعمال ثرواتك ؟ قبل استرجاع حقك في استعمالها كما تريد ؟ وهل يعتقد سيادة “الرفيق” ان الديمقراطية تبنى على الخوف والجوع والموت والاحتلال ؟
في الماضي نقل بعض “الرفاق” تجربة الثورة الفرنسية فطبقوها حرفيا على اجتماع بلادنا القرابي والواقع تحت الاحتلال والهيمنة الغربية. واليوم يقوم بعض هذا البعض، بنقل التجربة الليبرالية الأميركية على الواقع ذاته. بالأمس قرروا أننا في مرحلة الإنتقال إلى الإشتراكية. واليوم قرروا أننا في مرحلة الإنتقال إلى الحداثة او ” التحول الديمقراطي”. فلا نجحوا في الماضي ولن ينجحوا أكثر اليوم. فالمشروع العربي الوطني يحتاج أولا وقبل أي شيء إلى رؤية التحرر من الهيمنة كشرط لازم لأي تقدم داخلي مهما صغر او كبر.
إشكالية صراع الأقليات والأكثريات هي انعكاس آلي لإشكالية الهيمنة الخارجية. تتصارع فقط على على دور الناطور لمصالح الغرب المحتل. بينما المعركة الحقيقية، الوطنية، هي في التصويب، كشعب موحد، على الناهب الخارجي والانصهار في “مواطنية” يولدها الصراع مع المحتل.
الصراع على السلطة في ظل الهيمنة يعزز “التقيؤات” لأن الصراع يجري بين هويات اجتماعية قرابية أما الصراع مع المحتل فيخلق هوية وطنية تمهد الطريق لبناء دولة وطنية مستقلة صاعدة عمادها المواطن الأنا. اما من يدافع منا عن المحتل فلا يعود أقلية ولا اكثرية بل يصير عميل الخارج ، الخائن. ولعمري تلك هي كل المسألة.