سوء الخطاب يشوّه صورة الثورة
ليس من الحكمة أن تلجأ أي ثورة شعبية تهدف الى انهاء الظلم واحلال العدل، الى خطاب مذهبي يحرف الحراك عن هدفه في دولة المواطنة المدنية الديموقراطية المنشودة. مثل استخدام بعض قادة الحراك الشعبي في سوريا لغة قروسطية تذكّر بمحاربة الكنيسة للالحاد و”الهرطقة”، أو بغزوات المسلمين لمعاقل الكفار في فجر الإسلام، أو تعيد الأذهان الى حروب المسلمين ضد “المشركين” و”المرتدّين”.
بقطع النظر عن الموقف من الثورة وأهوائها الخارجية أوإفرازاتها “”الداعشية و”النصروية”، ولجوئها الى التسلّح، فإن خطاب بعض قادة الحراك في بداياته، ووسائل إعلام الجيش السوري الحر والألوية المُسلّحة المُقاتلة في بلاد الشام، حرفت مسار الثورة عن هدفية تحقيق الديموقراطية وكرامة المواطن السوري، لتصبح القضية قضية قتال مذهبي يستهدف العلويين والشيعة.
لقد وصلت الثورة الى حال يُرثى لها، على الصعيد الفكري والآيديولوجي والإجتماعي، أما على الصعيد السياسي فحدّث ولا حرج، إذ تحوّل خطابها الى خطاب في غير صالحها، حين استحضرت كل المصطلحات والنعوت التاريخية لوصف خصومها، فدخلت في حال تعميم على مستوى الاتهام، وفي وضع لا تُحسد عليه على مستوى الخطاب البذيء المُنحط الذي لا يرقى الى أي شعار ثوروي عبر التاريخ.
فرغم ان رأس النظام السوري ينتمي الى الطائفة العلوية، ورغم أن معظم ضباط الدرجة الأولى في الجيش السوري من الطائفة نفسها، فهذا لا يُبرر تحويل الحرب الى حرب مذهبية، تستحضر لغة السجال المذهبي التاريخية، بوصف العلويين بالنصيرية، وتصوير المنازلة وكأنها قائمة بين سنّة طهرانيين وعلويين كفّار، علماً أن من في صفوف المعارضة علويون ومسيحيون ودروز، في مقابل نخبة وقفت ولا تزال مع النظام من التجار والضباط السنة اضافة الى لفيف من رجال الدين على رأسهم المفتي أحمد بدر حسون، والعلامة الراحل الذي اغتيل العام الماضي في المسجد، محمد سعيد رمضان البوطي.
لا يختلف اثنان عاقلان على أن النظام السوري نظام استبدادي قمعي ظلم شعبه على مدى أربعة عقود، وليس هناك من حقيقة مخفية حول نفوذ حزب البعث الذي يُعتبر”الحزب القائد” في الدستور السوري، في كافة دوائر الدولة، حيث تُعطى الأولوية لعضو الحزب على غيره ممن لا ينتمون الى الحزب في الوظائف ومقاعد الجامعات والمراتب العليا في الجيش والاستخبارات.
ورغم شعار الدولة العلماني كانت للنخبة العلوية في البلاد خصوصاً في الجيش والاستخبارات نصيب الأسد، الأمر الذي خلق حالة من الشعور بالغبن في الطرف الآخر السني خصوصاً الذي يشكل غالبية سكان البلاد.
مع ذلك، كان من الأجدر بالثورة السورية أن يبقى خطابها متعالياً عن المذهبية والطائفية، فلا يذهب الى اعتماد لغة مُتخلّفة، توحي بأن كل فصائل الثوار رعيل من جيش الرسول في معركة بدر، يقاتلون ضد المشركين والكفّار.
تحويل الصراع الى هذا المنحى، لا يفيد الا داعمي وممولي الثورة من دول الخليج والغرب، الذي لا يلتفتون أصلاً الى مصالح الشعب السوري، بقدر ما يسعون وراء تحقيق أهداف تصب في مصلحة إعادة رسم خريطة المنطقة على أسس مذهبية على الطريقة اللبنانية، كما حصل في العراق.
الخطأ نفسه ارتكبته الثورة في خطابها مع حزب الله، حتى قبل تدخله الميداني في القتال الدائر في سوريا، إذ وصفته بحزب اللات وحزب الشيطان وحزب المتعة، ونعتت زعيمه بنصراللات ونصر الشيطان، لوقوفه (غير المنطقي كحركة ثورية) الى جانب نظام بشار الأسد الذي دعم مقاومته في جنوب لبنان.
هذا الخطاب ورغم حدوده السياسية، تحول الى خطاب مذهبي بين أهل السنة والجماعة وبين “الروافض”، اضافة الى نعوت أخرى لا تليق بخطاب ثوروي تغييري بتاتاً. وهذا ما استخدمه بعض الموالين في لبنان للتنظيمات “الجهادية” في سوريا في حربهم على حزب الله وسلاحه المقاوم آنذاك قبل ان يتورط في المستنقع السوري. والأنكى من ذلك استحضار خطاب تاريخي ضد ايران بوصفها بالدولة الصفوية في تذكير بحرب القادسية بين الفرس والعرب، علماً ان هذا لا يعيبها. لكن المفارقة الغريبة أن يصبح الخطاب تكفيرياً فيصف الإيرانيين بالفرس المجوس عبدة النار، علماً ان إيران اليوم اسلامية موحّدة. خطاب ينم عن جهل مطبق بالتاريخ ولغة حاقدة لا تنتمي الى أي حقل عقلاني أو موضوعي. إذ يمكن للفرس ان يصفوا العرب بالوثنيين وعبدة اللات والعزة اذا اصبحت الحرب عبارة نعت كل شعب بأصله التاريخي.
لم تعد المعارضة السورية تحمل صفة ثورة طالما أن حربها تحولت من هدفية قتال الاستبداد والمحسوبيات والفئوية، الى حرب مذهبية مترافقة مع محاضرات وخطب ودروس عن الشيعة “الروافض” والعلويين “النصيرية” و”انحرافاتهم العقائدية” وممارساتهم “المبتدعة”، تعج بها شاشات الفصائل السورية المعارضة. الثورة أرقى من كل هذا الخطاب وأهدافها أهم من كل هذا الجهل والظلم الذي يتم استبدال النظام الحالي به اليوم. رغم كل هذا المناخ لا يزال هناك شعب سوري يريد تغيير النظام سلمياً ولا يسعى سوى الى بعض الكرامة والحرية ورغيف خبز شريف، فهلاّ يُتاح المجال أمام هؤلاء للتعبير عن خطابهم الراقي؟!