هكذا تتجسس أميركا على العالم ١/٢
نشرت صحيفة «لوموند» تقريراً يعتمد على ما سبق وكشفه إدوارد سنودن ويأخذ أيضاً بعين الاعتبار ما نشرته مجلة دير شبيغل نهاية شهر ديسمبر الماضي عن هجوم من قبل الوكالة القومية الأمريكية “NSA” ضد الشبكة المعلوماتية المسيرة للألياف المتواجدة تحت سطح البحر “سيا مي وي 4”. وتقول الصحيفة الفرنسية إن هذه التحقيات كشفت برنامج الوكالة الأمريكية الأكثر قلقا بين تلك التي تم كشفها من قبل إدوارد سنودن وهو البرنامج الذي يمكن أن يتسبب بعواقب سياسية كبيرة.
وحسب الوثائق العديدة التي أرسلها إدوارد سنودن، يبدو أنّ الوكالة القومية الأمريكية قد تمكنت من التسلل وقرصنة شبكة الإنترنيت حتى تضمن في الوقت نفسه على رقابة كاملة للاتصالات وقدرة التدخل دون سابق.
كما نجحت الوكالة بوضع شبكتها الخاصة الموازية، وهي قادرة على الإيقاع بضحاياها بالاعتماد على سلسلة من التجهيزات لا يمكن الكشف عنها تقريبا وهي متواجدة في قلب الإنترنيت.
في 29 من شهر ك٢/ ديسمبر الماضي، حول مقال خصص فيه على الوحدة الخاصة للوكالة سميت بـ: “أوفيس أوف تايلورد أكسس أوبيرايشان” أو مكتب عمليات الدخول المكيفة، ذكرت الأسبوعية الألمانية دير شبيغل بأنّ الوكالة الأميركية تمكنت من قرصنة “معلومات تسيير أنظمة الألياف المتواجدة تحت سطح البحر “سيا مي وي 4″، كما تمكن موقع «ميديا بارت» من الوصول إلى مصادر تثبت هذه المعلومات.
مسار ألياف سيا مي وي
هذه الألياف يسيرها تجمع مؤلف من 16 شركة من بينها الشركة الفرنسية أورانج، وتعتبر ألياف “سيا مي وي 4” أحد أهم الألياف الواقعة تحت سطح البحر والتي تشكل هيكلا حقيقيا للإنترنيت العالمي. كما تعتبر أكبر مسار للإنترنيت والهاتف بين الغرب والشرق بداية من مرسيليا للوصول إلى تونس، والجزائر، ومصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية، ثم الباكستان، والهند والبنغلاديش وتايلاندا وماليزيا.
بعد تسرب هذه الأخبار، قررت شركة أورانج أن ترفع دعوى كطرف مدني أمام العدالة الفرنسية أمام المحكمة العليا لباريس، وتصر الشركة الفرنسية العملاقة على وقائع “الدخول والتلطي المخادع (أي زرع برنامج صغير للجسس) في نظام المعالجة الآلية للبيانات” وكذلك “تغطية الأخطار التي لم يتم الكشف عنها على هذا المستوى: كالتوغل إلى البيانات الخاصة (جمع احتيالي للمعلومات والمساس بسرية المراسلات)”. وتحدد أورانج كونها: “مستعمل وليس مسير” لهذه الألياف، كما طالبت من مجموع الشركات “التدقيق على شبكة الإنترنيت حتى يتم التحديد بالضبط ما الذي حدث وتعزيز مقاييس الأمن إن احتاج الأمر إلى ذلك”.
ويمكن أيضا أن تتعرض مختلف هذه الشركات إلى مراجعة كامل أنظمتها، بحيث أنّ الإعتداء الذي كشف عنه إدوارد سنودن لم يكن يمثل إلا قليلاً مما يمكن أن تكشفه الأيام المقبلة. الأكثر قلقا في هذه القضية يكمن في الطريقة التي تستعملها الوكالة القومية الأمريكية التي تعتمد على برنامج “كوانتوم” والتي يمكن أن ينجر عنها عواقب جيوسياسية ثقيلة.
وكانت “تاوو” هي مصدر هذا الهجوم، وهي وحدة خاصة جدا متكونة من قراصنة حقيقيين تم تشغيلهم من قبل الوكالة الأمريكية للقيام بالقرصنة الرقمية . ومن بين الوثائق التي اطلعت عليها مجلة دير شبيغل الألمانية تشرح “تاوو” أنّ نشاطها “استغلال النظام المعلوماتي” يهدف إلى تخريب معدات الوصول”، بمعنى آخر أي قرصنتها. كما تم ذكر معدات أخرى يمكن أن تشكل لوحة تصويب “تاوو” المحتملة منها “الأنظمة، أجهزة الكومبيوتر، الجدران النارية، أجهزة التوجيه، المدارات، الهواتف، أنظمة سكادا وهي أنظمة تسيير المعلوماتية مستعملة في المصانع، الخ.”.
وكونها تستفيد من قسم التطوير الخاص، وضعت “تاوو” أدوات تمكنها من القيام بهجومات إعلامية عديدة وشاسعة أطلقت عليها اسم: “كوانتوم هيوري”. وقد تم وضع هذا النظام كذلك تحت خدمة وكالة المخابرات البريطانية. ووفقا لبعض الوثائق الداخلية يبدو أنّ هذه الأدوات فعالة جدا، وهنا يبدو أنّ “بعض هجمات كوانتوم ناجحة بنسبة 80 في المائة مقارنة برسائل “سبام” (التي يلتقطها الكومبيوتر ويعلن عنها) والتي تمثل فقط واحد في المائة”. وثيقة داخلية أخرى تحمل اسم: “كوانتوم كبابيليتيز” تقوم بتسجيل البرامج المهدوفة لأهم المواقع الرئيسية: فيسبوك، ياهوو، يوتوب، غووغل، وكذلك تويتر.
لكن الجهاز الأكثر خطورة لـ”تاوو” يبدو ذلك المستعمل ضد الشركات المسيرة لألياف “سيا مي وي 4” المسمى “كوانتوم إنسارت”. ويبدو أنّ هذا الهجوم قد ذكره سابقا إدوارد سنودن خلال هذه الأشهر الأخيرة من بين الوثائق المنشورة. وكما كشفت عنه مجلة دير شبيغل خلال شهر نوفمبر الماضي، فإن هذا الجهاز تم استعماله ضد المتعامل التليفوني البلجيكي “بلغاكوم”. كما شكل في شهر أكتوبر الماضي موضوع دراسة دقيقة خلال صفحات اليومية البريطانية “غارديان” من قبل الخبير في الأمن الإعلامي الأمريكي بروس شناير.
شبكة في الظل غير مرئية تقريبا ولا يمكن الكشف عنها
ويستهل جهاز “كوانتوم إنسارت” ببحث حقيقي على الشبكة لانتقاء عدد من الوجهات التي ستشكل أبوابا للدخول إلى المواقع. وفيما يخص الهجوم الذي سجل ضد “بلغاكوم” والتي قامت بتسييرها وكالة الاستخبارات البريطانية، قام القراصنة بعزل مجموعة من المستخدمين في الصيانة والأمن المعلوماتي باستعمال شبكة إجتماعية مهنية “لينكدين”، ثم قاموا بعد ذلك بوضع نسخة مطابقة للموقع يسيرها أحد أنظمتهم ثم تدبروا بعد ذلك حتى تتمكن ضحاياهم بالاتصال على الشبكات، وعندما يحاول هؤلاء الأشخاص الدخول إلى “بروفيلاتهم” (صفحاتهم الخاصة)، يتم ربطهم مباشرة ثم توجيه روابطهم نحو شبكة موازية، مراقبة من قبل الوكالة الأميركية حيث يكون مخزن الموقع “الخاطئ”. معتقدين أنهم اتصلوا ببروفيلاتهم، يكون المستخدمون في الحقيقة قد فتحوا أبواب الكومبيوتر لوكالة الاستخبارات البريطانية التي ليس عليها إلا إدخال برنامج يمكنها التسلل بعد ذلك إلى كامل الشبكة.
كما قامت “تاوو” بوضع تقنية أخرى للتسلل وذلك باستعمال رسائل «حصول خطأ» تظهر عندما يتواجد الكومبيوتر أمام مشكل تقني مع نظام الاستغلال ويندوز لميكروسوفت. وعندما تقرر الوكالة الأميركية تحديد هدف ما، تبدأ بتحديد الكومبيوتر بفضل “معرف فريد”، وأغلب الأحيان يكون عنوان “الأيبي”. ويسمح برنامجها المراقبة الشاملة “إيكس كايسكور” تنبيهها عندما يكون الكومبيوتر المحدد ضحية “توقيف” والوصول إلى رسائل «حصول خطأ». وحتى وإن لم تعثر على معلومات شخصية فإنّ هذا البرنامج يوفر لها معلومات هامة بخصوص المناطق المتضعضة الخاصة بأمن الكومبيوتر والتي يمكن استغلالها خلال الهجمات المقبلة.
وفي تخطيطها، فإنّ هذه التقنية ليست إلاّ تقنية كلاسيكية كبيرة، وهي هجمة يطلق عليها اسم “مان إن ذي ميديل” أو “الرجل في الوسط” وتتمثل في التدخل أو التوسط في محادثة. لكن الوسائل المستعملة هي أقل تطابقا. وللتمكن من تحويل الاتصالات عن هدفها الأولي، قامت الوكالة الأميركية بوضع في نطاق مركزية للشبكة “سيرفر” (مستخدم) أسمته “كوانتوم سيرفر” باستطاعته تهديم بسرعة فائقة “السيرفر” الأول.
في الواقع، عندما يحاول كومبيوتر ما الدخول إلى موقعه، يتم إبلاغ البرنامج المعني مباشرة، فيقوم “السيرفر” بتحديد المحادثة وإدخال في جهاز الكومبيوتر برنامج صغير يقوم بتوجيه الاتصالات نحو شبكة موازية تسمى “فوكس أسيد”، بالفعل لقد وضعت تاوو ما وصفته مجلة دير شبيغل بـ”شبكة ظلية” متكونة من نقاط مزروعة وسيرفر وشبكات تم قرصنتها أو وضعها في نقاط حساسة من الشبكة العامة. « فوكس أسيد” المستعمل في العديد من الهجمات التي تقوم بها تاوو، يوصف حسب الوثائق التي أرسلها إدوارد سنودن بـ”محرك الاستغلال” مسألة التجسس. وخلاصة القول هو أنّ الوكالة الأميركية لديها سلاح وهذا بالتحكم على نقاط مركزية للشبكة وفتح أمامها مصدر المسارات عبر الإنترنيت بطريقة لا يمكن الكشف عنها، خاصة وأنّ الروابط الاستراتيجية للشبكة المسماة “إنتيرنت إيكستشانج بوينت” المتفرعة عبر العالم غالبا ما تتواجد في مواضع يصعب مراقبتها.
(يتبع غداً)