لا شيء يُخرج المرء من أزماته الشخصية والعامة – إلى وقت معين- مثل الموسيقى، لا سيما الكلاسيكية منها، إذ أن حفلة موسيقية واحدة في الأسبوع كفيلة بخلق شعور بتجديد الحياة وسط هذا الضباب السياسي والحرائق الأمنية التي تجتاح لبنان والمحيط.
حتى الكتابة عن الموسيقى تُريح الكاتب من سلسلة مقالات سياسية مُتعِبة وتفتح له كوة على مساحة كبيرة من الجمال والخلق، كما يحدث مع كاتب هذا المقال. فالمناسبة كانت حضور عازف البيانو الأوكراني إيغور غريشن، الى بيروت بدعوة من جمعية الصداقة اللبنانية الألمانية وبرعاية سفارة ألمانيا الاتحادية في لبنان، نظراً لإقامة غريشن في ألمانيا.
قدّم العازف الأوكراني المولود في مدينة شركوف عام 1983، أربع أمسيات مجانية في لبنان، بدأها من مدينة جونية في شرقي العاصمة بيروت ، حيث استضافته المدرسة اللبنانية – الألمانية مساء الخميس (6 شباط 2014). ومساء السبت كان في قاعةAssembly Hall في الجامعة الأميركية في بيروت، اما اليوم فيقيم حفلة مساءً (10 شباط 2014) في جونية في المكان نفسه. ولعل الحفلة الأكثر تقديراً واثارة للجدل هي حفلة طرابلس التي يقيمها غداً الثلاثاء (11 شباط 2014) في مقر مؤسسة الصفدي. لعل دلالات هذه الحفلة أنها تأتي في مدينة مشتعلة دائماً بالاشتباكات ويعاني أهلها الأمرين جراء سلطة الميليشيات التي جعلت ثاني أكبر مدينة لبنانية، غير مستقرة أمنياً. لعله تحدٍ من العازف الأوكراني لواقع المدينة ورغبة بتقديم لمسة جميلة على فضائها، وكأنه جاء ليقول للبنانيين بأنه ليس مجرد عازف، بل طبيب يشفي بأنامله وجع الناس فينقلها من مناخات التوتر والقلق الى مناخات الاسترخاء واكتشاف صور أخرى من الابداع العالمي.
في بيروت، تضمّن برنامج غريشن أعمال عديدة لخمسة موسيقيين عظام، بادئاً بلودفيغ فان بيتهوفن مع السوناتا 26 (Sonata no.26 in Eßflat major,op 81a) ومنتهياً بألكسندر سكريابن بمقطوعة (Fantasie in B minor, op 28). مروراً بسيرغي بروكوفيف السوناتا السادسة((Sonata no. 6 in a major, op. 82 ، وادوارد غريغ من مقطوعات (Lyric pieces). ولعل أكثر المقطوعات أهمية بعد بيتهوفن، رائعة بيتر تشايكوفسكي، “كسارة البندق”، حيث أبدع غريشن في تكسير البندق بعناية تامة. أمام إعجاب الجمهور وتصفيقه غير المُنقطع قدّم مقطوعة إضافية كعربون تقدير لهذا التفاعل مع أمسيته الرائعة.
نعم، لبنان بحاجة للموسيقى فهي ترياق السموم التي يعيشها المواطن على أرضه، بسبب الأزمات الاقليمية المؤثّرة على الوضع الداخلي، وبسبب كل هذا الظلام المخيم على الاوضاع السياسية والاقتصادية والامنية والاجتماعية. لقد برع المعهد العالي للموسيقى في لبنان بتقديم حفلات أسبوعية للموسيقى الكلاسيكية الغربية والشرقية في الجامعة اليسوعية، مفسحاً المجال أمام المئات ليتذوقوا أعرق وأعظم وأجمل المقطوعات الموسيقية العالمية من دون مقابل مادي.
أما إيغورغريشن، فكان له حضور مميز بلاد الأرز، من خلال أمسياته التي قدّم فيها الى متذوقي الموسيقى والمهتمين، لمحة بسيطة عن عبقرية أوكرانية – روسية، ممزوجة بلمسات ونكهة ألمانية. فقد درس الموسيقي الشاب في معهد تشايكوفسكي للموسيقى في موسكو، وانتقل في العام 2005 الى بلاد الجرمان، ليتابع دراسته في المعهد العالي للموسيقى في مدينة لايبزغ (شرق). وكان له العديد من الأعمال الخاصة التي جعلته رغم صغر سنّه من أبرز الموسيقيين العالميين.