رعب في سفارات مصر
بسّام الطيارة
مما لا شك فيه أن «الدوائر المصرية» في الخارج وفي فرنسا بالتحديد قد غيرت بعد مخاض الربيع العربي مقاربتها في التعاطي مع المثقفين، فرنسيين وعرب، ومع الصحافيين، فرنسيين مصريين وبعض العرب. توجد لمصر مكانة حضارية كبيرة جداً في كافة دول العالم وبشكل خاص في فرنسا. هذه المكانة تتجاوز بكثير ما يعتقده المصريون وما يمكنهم أن يتصوروه. يعود ذلك إلى الثقل الحضاري التي تحملة أرض النيل التي ما زالت يومياً تدهش العالم باكتشافات غنية ومذهلة. ولكن أيضاً بسبب دينامية الشعب المصري وحركته الثقافية التي تركت أثراً كبيراً لدى كافة الدول العربية خصوصاً في الحقبة الناصرية وبشكل خاص الدعم بكافة أشكاله الذي قدمته مصر لنصرة استقلال الدول المغاربية وفي مقدمتها الجزائر وهو ما خلق هالة من الإعجاب بـ«مصر أم الدنيا». وقد نقل المهاجرون العرب، من المغرب ومن المشرق، هذا الإعجاب إلى أوروبا. وتضاعفت قوة هذه الهالة عندما التقى الإعجاب العربي بالإعجاب الغربي في رحى بلاد الهجرة.
ولكن مقابل هذه الإعجاب وهذه المكانة التي تحتلها مصر في قلوب وعقول العرب في فرنسا وعقول الفرنسيين من أصول عربية أو إسلامية لم يكن تعاطي «أركان الدوئر المصرية» في عصر مبارك على المستوى المطلوب. صحيح أن المركز الثقافي المصري كان يقوم بأنشطة لنقل متواضعة قياساً على ما كان منتظراً من كبرى الدول العربية ولكن لم يكن هناك أي اندفاع من تلك الدوائر نحو الجاليات العربية لمحاولة إشباع تطلعاتهم العربية. صحيح أن «التجاذبات السياسية» لعبت دوراً في هذا التباعد ولكن كان يمكن للثقافة وللمبادرات أن تتجاوز الهوة السياسية لتبني على الثقافة والابداع المصري جسورآً نحو الجاليات العربية.
من ناحية التواصل الصحفي في عهد مبارك حدث ولا حرج. كان السفير السابق يهتم كثيراً في «جوكينغ» لتخفيف وزنه ولم يكن من السهل أن يلبي طلب لقاء صحافي مع الصحافة العربية. وإذا حصلت لقاءات مع الصحافة الأجنبية كانت تتم وراء مخامل السفارة وبعيداً عن الأضواء «وقد» يدعى لها صحافي أو اثنين من المقربين من سعادته.
تغير طاقم «الدوائر» مع سقوط مبارك، وتغيرت المقاربة.انفتحت تلك الدوائر على حلقات المثقفين والصحافيين في مواعيد مكررة ومتكررة وبطريقة علمية محت في شهور قليلة ما تراكم من ضغينة أمام إهمال سابق.
عندما قامت ثورة فبراير تسمرت الجاليات العربية وراء التلفاز تتابع ما يحصل في مصر. كل التعليقات وردات الفعل كان يمكن اختصارها بأن ما يحصل في مصر هو «رائع».
وبالفعل انتصرت الثورة.
وبالفعل أثبت شعب مصر أنه شعب عريق وعظيم بمكوناته بمثقفيه وبشبابه.
وزاد الإعجاب عندما قامت انتخابات حرة عندما أثبت الشعب المصري أنه يستطيع ممارسة حقوقه الديموقراطية.
عندما تجاوز الفريق المنتخب حدود الرافعة الديموقراطية التي أوصلته إلى الحكم. لم تسقط ثقة «عرب» فرنسا من شباب ومثقفين وصحافيين بمصر وبإمكانية الخروج من النفق الإسلامي.
عندما نزل الشعب في يونيو لتصحيح الإعوجاج أيضاً لم تفقد الحلقات المثقفة ولا الجاليات العربية الثقة بشعب مصر.
عندما حصل ما أسماه البعض «انقلاب» أيضاً لم تسقط ثقة «عرب» فرنسا من شباب ومثقفين وصحافيين بمصر وبإمكانية الخروج من النفق العسكري.
الإرهاب الذي ينشر الموت والخوف في بلاد النيل يثير قلق من يحب مصر. مصر بلد الحياة اللطيفة بلد الكلمة الخفيفة بلد التسامح. الثقة لم تسقط بإمكانية أن تنتصر مصر وشعبها على فلسفة الموت، وأن تتغلب على الإرهاب.
إلا أن هذا الإرهاب بدأ يفعل فعلته في أكثر الأماكن حساسية: عنيت في العقول.
هل يجب أن يفرض الإرهاب سلوك التصرف ويرسم سبل الحياة؟ لو تم ذلك لاعتبر أن الإرهاب انتصر. الشعوب لا تتوقف عن الحياة لأن الإرهاب يمكن أن يضرب في أي مكان. الشعوب تتابع نهج الحياة ولا تتوقف.
كذلك يجب أن تفعل «الدوائر المصرية». لا يجب أن يفرض عليها الإرهاب طرق تصرفها.
قبل يومين دعى السفير محمد مصطفى كمال في مبادرة مشكورة الكاتب جمال الغيطانى إلى مائدة مستديرة حول موضوع السياسة فى كتاباته. كما دعى حول الطاولة نخبة من المثقفين المتخصصين منهم المفكر روبير سوليه الفرنسي-المصري واستاذ الأدب العربي صبحي بستاني وقد لبى الدعوة رهط من الصحافيين المتابعين للأعمال الثقافية والسياسية نظراً لعنوان الحلقة.
قبل بدء المحاضرة كان «الخوف من الإرهاب» حاضراً على مدخل المكتب الثقافي في الحي الراقي الباريسي. تفتيش الحقائب باتت عملية معروفة ومعتادة قبل ولوج السفارات والإدارات الرسمية والمتاحف وحتى بعض دور السينما. أما سحب الهواتف والكومبيوترات والمعدات الإلكترونية فهذا ما لم تشهده حتى …السفارات الأميركية.
أولاً العالم تغير: الصحافي (وغير الصحفي) لم يعد يستطيع أن يغطي حدثاً وهو يحمل دفتراً وقلم. الكومبيوتر المحمول والهواتف الذكية باتت «عدة الشغل» للصحافي وللكاتب وللمثقف.
البعض «خضع» لفرمان الحارس وأعطى هذا هاتفه وهذا حاسوبه والبعض رفض وخرج آسفاً.
في حال دامت الأمور تحت رحمة «الرعب» كما تبدو الأمور تكون الخلاصة ١) أن الإرهاب لحق بالدوائر الرسمية المصرية إلى باريس وانتصر من دون أي تفجير. ٢) وتعود دوائر مصر في الخارج متقوقعة كما كانت في عهد مبارك.
ولكن مع كل هذا لن تسقط ثقة «عرب» فرنسا من شباب ومثقفين وصحافيين بمصر وبإمكانية الخروج من نفق الرعب.